كان الفاتيكان يرى أن العقوبات المفروضة على ليبيا بسبب تفجيرات لوكربي لن تخدم في النهاية إحلال السلام وأنها تفاقم معاناة الليبيين (اندبندنت عربية)
كانت ليبيا تحت قيادة العقيد معمر القذافي تعاني توترات دبلوماسية كبيرة مع الغرب منذ ثمانينيات القرن الماضي، نتيجة لاتهامات بدعم الإرهاب، خصوصاً بعد حادثة تفجير طائرة "بان آم" فوق لوكربي عام 1988 (اتهمت حينها واشنطن ولندن العقيد الليبي معمر القذافي بتدبيرها، مما أحدث أزمة بين الطرفين) وعلى رغم نفي طرابلس المتكرر تورطها في هذه الحادثة، فإن المجتمع الدولي فرض عقوبات صارمة على البلاد، مما أدى إلى عزلة ليبيا على الساحة الدولية.
في تلك الأثناء حاول الفاتيكان، بقيادة البابا يوحنا بولس الثاني، لعب دور الوسيط بين ليبيا والدول الغربية، بهدف إنهاء الأزمة الدبلوماسية ورفع العقوبات. ولكن على رغم نيات الفاتيكان الحسنة، اصطدمت جهوده بواقع معقد من التحديات الجيوسياسية والعقوبات التي فرضتها الأمم المتحدة والضغوط الغربية، مما جعل من الصعب إحداث أي تغيير ملموس لمصلحة ليبيا، وفق ما كشفت عنه وثائق بريطانية رفع عنها طابع السرية أخيراً.
ضغوط دولة متزايدة على ليبيا
بحسب إحدى الوثائق البريطانية، فقد زودت وزارة الخارجية البريطانية وشؤون الكومنولث سفيرها لدى الفاتيكان بورقة تلخص فيها الوزارة قضية لوكربي، إذ طلبت من سفيرها لدى روما تمريرها إلى رئيس الأساقفة توران الذي كان ينوي زيارة ليبيا.
في تلك الورقة، سعت لندن إلى تقديم رؤيتها للفاتيكان في شأن القضايا الرئيسة المحيطة بتفجير لوكربي فضلاً عن إجابات مسبقة على الحجج الرئيسة التي من المرجح أن يسمعها رئيس الأساقفة حول مبررات العقوبات وسبب عدم تسليم الليبيين للمتهمين. متناولة كذلك تفاصيل التحقيق في تفجير طائرة "بان أم" الرحلة 103، مما أسفر عن مقتل 270 شخصاً، الذي يعد أكبر تحقيق جنائي في تاريخ المملكة المتحدة.
وبدأ التحقيق في تفجير الطائرة الأميركية في عام 1988، قبل أن يصدر في بريطانيا في 14 نوفمبر (تشرين الثاني) 1991، أوامر اعتقال بحق مسؤولين ليبيين هما عبدالباسط المقرحي وأمين فهيمة المتهمين بالتورط في هذا التفجير.
ومنذ البداية الحادثة، اتخذت الحكومات البريطانية والفرنسية والأميركية موقفاً موحداً يطالب الحكومة الليبية بتسليم المشتبه فيهما للمحاكمة في اسكتلندا أو الولايات المتحدة، إضافة إلى تقديم تعويضات للضحايا وتأكيد نبذ الإرهاب. وجاءت المطالب مدعومة من قبل مجلس الأمن الدولي الذي اعتمد القرار رقم 731 في يناير (كانون الثاني) 1992 بالإجماع، مطالباً ليبيا بالامتثال.
وعندما لم تستجب ليبيا لهذه المطالب بصورة كافية، تبنى مجلس الأمن قراراً إلزامياً آخر، وهو القرار رقم 748 في أبريل (نيسان) 1992 الذي فرض عقوبات شديدة على ليبيا، شملت حظر الأسلحة، والحد من الروابط الجوية، وتقليص التمثيل الدبلوماسي. وعلى رغم محاولات الأمين العام للأمم المتحدة والمجتمع الدولي، لم تنجح المساعي في إقناع ليبيا بالتعاون. من ثم تم فرض مزيد من العقوبات عبر القرار رقم 883 في نوفمبر 1993، الذي ضم حظر تصدير بعض المعدات النفطية وتجميد الأصول الليبية.
وأظهرت نص الوثيقة البريطانية، وجهة نظر الحكومة البريطانية، في أنها لا تسعى إلى معاقبة الشعب الليبي، بل إلى الضغط على النظام الليبي للامتثال للقرارات الدولية وتحقيق العدالة لضحايا التفجير. كما يشير النص إلى أن الحكومة الليبية قد ادعت، على نحو متكرر، أنها نبذت الإرهاب، لكن أفعالها لم تكن كافية لتلبية متطلبات مجلس الأمن.
ودفعت السلطات الليبية بعدة حجج لمنع تسليم المشتبه فيهم، مثل أن المحاكمة يجب أن تتم في ليبيا، وعدم وجود معاهدة لتسليم المجرمين مع بريطانيا أو الولايات المتحدة، مما يجعل من المستحيل تسليم المتهمين. ومع ذلك تم النظر إلى هذه الحجج على أنها محاولات للمراوغة، إذ يوضح النص أن الحكومة يمكن أن تتصرف بصورة استثنائية لتسليم المشتبه فيهم في مثل هذه القضايا.
في النهاية، أظهرت الحكومة البريطانية عدم رغبتها في استمرار العقوبات، موضحة أن هدفها هو تحقيق الامتثال من قبل ليبيا، وأن الحل لهذه الأزمة يعتمد على استعداد الحكومة الليبية للامتثال لمطالب المجتمع الدولي.
الفاتيكان: العقوبات "تعرقل" السلام
نشرت وكالة الصحافة الفرنسية بتاريخ 19 مارس (آذار) تقريراً لمراسلها في طرابلس يتضمن بعض تصريحات منسوبة لرئيس الأساقفة توران عند زيارته ليبيا. مما أثار قلق وغضب أسر ضحايا تفجير لوكربي. إذ بحسب إحدى الوثائق، يذكر الدبلوماسي البريطاني دومينيك أسكويث، في البرقية المرسلة بتاريخ 25 مارس 1991 من واشنطن إلى وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث في لندن، أن واحدة من أكثر عائلات "بان أم 103/لوكربي" نشاطاً وهي السيدة روزماري وولف، اتصلت به في وقت متأخر من الليل وكانت غاضبة بعد اطلاعها على تقرير وكالة الصحافة الفرنسية. ونقلت له بعض التصريحات ومنها:
"قال وزير خارجية الكرسي الرسولي يوم السبت إن الفاتيكان مستعد لمحاولة التوسط في حل الأزمة بين ليبيا والغرب في شأن تفجير لوكربي. وفي تصريح للصحافيين دعا جان لوي توران الذي يقوم بزيارة رسمية إلى ليبيا إلى حل سلمي للأزمة". وقال توران، إن "سياسة العقوبات لا تخدم قضية السلام، بل إنها تثير ردود فعل اليأس والعنف، وتسبب المعاناة بين الشعب الليبي"، وأضاف المبعوث البابوي، أن جميع الأطراف المعنية يجب أن تتخذ خطوات ملموسة لمحاولة إثبات الحقيقة مع احترام "سيادة الآخرين".
ويقول دومينيك أسكويث الذي أصبح فيما بعد سفيراً لدى العراق وليبيا ومصر والهند، "لقد قلت إن كل ما رأيته هو البيان الصحافي الصادر عن الكرسي الرسولي في الـ22 من مارس. وقلت إنني أشعر بغريزة الشك في أن أي تقرير صادر من طرابلس سيكون ترجمة دقيقة للأحداث. كما أخبرت السيدة وولف أن موقفنا واضح وأن توران يدرك ذلك جيداً. ولن نكون أكثر استعداداً لقبول نهج الفاتيكان مما كنا عليه في محاولات سابقة من قبل وسطاء لإيجاد مخرج لليبيين.. لقد عملنا بعناية على احتواء الأسر على مدار العامين الماضيين والسيدة وولف على موقف جيد تجاهنا. إن الأسر في وضع يمكنها من جعل الحياة محرجة للإدارة (ولنا). لذا، أود أن أتمكن من إعطائها فكرة عن وجهة نظر توران في القصة (السيدة وولف منزعجة بصورة خاصة من تقرير وكالة الصحافة الفرنسية لأنها كاثوليكية)".
الشعب الليبي يتضرر
في الثالث من فبراير 1994 كتب سيمون ماث من وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث البريطانية رسالة إلى الجهات المعنية في الحكومة البريطانية جاء فيها لقد تلقيت بالصدفة نشرة الأخبار اليومية لوكالة الأنباء الليبية في 26 يناير التي تتضمن بياناً يندد بالعقوبات التي أصدرها رؤساء الطوائف المسيحية الأربع في ليبيا، مضيفاً أن هذه النشرة تحمل كل السمات المميزة لافتتاحية وكالة الأنباء الليبية، لكن رئيس الأساقفة يرغب في أن يكون على علم بأن اسم الأسقف مارتينيلي قد ارتبط بهذا البيان.
وبحسب ما تضمنته رسالة وكالة الأنباء الليبية حينها، فقد بعث رؤساء الكنائس وممثلو الطوائف المسيحية المقيمة في ليبيا رسالة إلى الأمين العام للأمم المتحدة يستنكرون فيها بشدة العقوبات الجائرة المفروضة على الجماهيرية الليبية بموجب القرار غير المبرر الذي أقره مجلس الأمن من قبل الدول الغربية من خلال ما يسمى مجلس الأمن.
الرسالة التي تم تسليمها إلى الممثل المقيم للأمم المتحدة في الجماهيرية والتي وقعت من قبل كل من جيوفاني مارتينيلي رئيس أساقفة الكاثوليك في طرابلس وبنغازي وأونباياخوميوس رئيس أساقفة منطقة البحيرة في مصر وليبيا وشمال أفريقيا ورئيس الأساقفة والتر كريستو من الكنيسة الإنجيلية ورئيس الأساقفة كيتو والمطران المفكر تاوليفتوس رئيس الكنيسة اليونانية في تريبولد. الرسالة تقول:
"نحن رؤساء الكنائس في الجماهيرية العربية الليبية الشعبية الاشتراكية العظمى، الموقعون أدناه، تماشياً مع شعورنا بالمسؤولية تجاه العدالة الاجتماعية الدولية التي تعلمناها من الكتاب المقدس، ووفقاً لإيماننا بأهمية حرية المجتمعات التي نعيش في ظلها وندعمها ونعتز بها ضمن دورنا الدقيق تجاه أبنائنا في هذه الأراضي، نعلن ونضم أصواتنا إلى أولئك الذين ينادون ولكن لم يسمع لهم أحد وأولئك الذين يعانون ولكن لا أحد يشعر بمعاناتهم".
وتضيف، "إن هذه المواجهة لن تؤدي بالتأكيد إلى خير الشعب، ونحن ندرك حجم المعاناة التي يعيشها الشعب الليبي والضغوط التي نتجت وتفاقمت نتيجة الحصار المفروض على عدة مناطق في الجماهيرية العظمى"، ثم تناشد باسم آلاف الأبرياء الذين يعانون والأطفال والمرضى وكبار السن الذين أصبحت حياتهم معرضة للخطر بسبب عدم توفر الأدوية والعلاج الطبي، وقف كل الضغوط من أجل السلام لهذا الوطن، ونرجو أن تتوقف روح العدوان والعقوبات إلى الأبد وبلا عودة. لا شك أن هناك مجالاً واسعاً للمفاوضات والنقاشات وهناك آفاق واسعة للمصالحة واحترام المقترحات السلمية العديدة التي قدمتها الجماهيرية العظمى. إن الحوار والمفاوضات البناءة بين الأطراف المختلفة هي المخرج الوحيد من الأزمة الراهنة. وعليه فإننا نأمل في أن تحظى هذه الرسالة باهتمامكم الكامل، ونحن حريصون على تحقيق السلام الدولي العادل الذي نأمل في أن نراه اليوم قبل الغد. وكالة أنباء الجماهيرية".
جهود الفاتيكان في الوساطة
تظهر الوثائق أن الفاتيكان لم يكن بعيداً من المعاناة التي يواجهها الشعب الليبي نتيجة العقوبات الدولية، فمن خلال شبكة دبلوماسية متقدمة وعلاقاتها مع الدول الغربية والعالم الإسلامي، حاولت تقديم مقترحات تسوية سلمية للنزاع. وكان أحد الشخصيات البارزة في تلك الجهود هو المونسنيور جان لويس توران، الذي زار ليبيا مرات عدة في محاولة لتقديم مبادرات لحل الأزمة.
وتشير برقية دبلوماسية حملت رقم: 25، وصادرة من الكرسي الرسولي في الفاتيكان بتاريخ 23 مارس 1994 والمرسلة إلى وزارة الخارجية وشؤون الكومنولث البريطانية إلى عودة رئيس الأساقفة جان لويس توران، أمين العلاقات مع الكرسي الرسولي والدول، من زيارة إلى تونس وليبيا حيث التقى رموزاً دينية ومسؤولين حكوميين.
ففي تونس، استقبله رئيس الدولة زين العابدين بن علي، وزار مجموعة من الوزراء لمناقشة وضع الكنيسة الكاثوليكية، كما تطرق إلى عملية السلام في الشرق الأوسط. وفي ليبيا، أجرى محادثات مع وزير الخارجية حول الأنشطة الكنسية في البلاد، مع الإشارة إلى أهمية دور الراهبات في تقديم الخدمات الاجتماعية. واتفق الطرفان على إنشاء لجنة لدراسة القضايا المتعلقة بحضور الكنيسة في ليبيا. وجاء في البرقية ما نصه:
"التقرير الرسمي عن الزيارة التي قام بها وزير الخارجية إلى تونس وليبيا (من 15 إلى 21 مارس). تضمن البرنامج اتصالات هاتفية في شأن الزعيم الفلسطيني ياسر عرفات والرئيس الليبي معمر القذافي".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفي تفاصيل البرقية، أشارت إلى بيان مدير المكتب الصحافي للكرسي الرسولي في 22 مارس الذي جاء فيه، "في صباح أمس، عاد رئيس الأساقفة جان لوي توران، أمين العلاقات مع الكرسي الرسولي والدول، من مهمته في تونس وليبيا"، مضيفاً، "في البلدين تشكل الكنيسة الكاثوليكية أقلية صغيرة تتألف من المهاجرين الأجانب، في مجتمع غالبيته من المسلمين، ولكنها قادرة على تقديم شهادة قيمة للإيمان والكرم. وفي كلا البلدين التقى رئيس الأساقفة توران بتمثيل مهم من رجال الدين والنساء المتدينات والمؤمنين الكاثوليك".
وفي ليبيا لاحظ المطران توران أيضاً أن النساء الراهبات يحظين بتقدير كبير لعملهن لمصلحة المرضى والمعوقين وكبار السن. وفي طرابلس أجرى محادثات مع وزير الخارجية عمر مصطفى المنتصر، وتناولا المشكلات ذات الاهتمام المشترك. واتفق الطرفان على إنشاء لجنة ثنائية لدراسة المشكلات الحقيقية في ما يتعلق بحضور ونشاط الكنيسة في البلاد. ولم يغفلا الإشارة إلى المشكلة الحساسة المتعلقة بالجماهيرية العربية في ليبيا وعلاقتها بالمجتمع الدولي. وفي صباح الأحد، استقبل رئيس الدولة العقيد معمر القذافي وفد الكرسي الرسولي".
التحديات السياسية والدبلوماسية
لم يكن الأمر سهلاً للفاتيكان في ليبيا، إذ واجه عديداً من العقبات. أولاً، كانت هناك ضغوط هائلة من الغرب لفرض عزلة تامة على ليبيا وعدم تقديم أي تنازلات. ولم يكن الفاتيكان، بحكم طبيعته كوسيط ديني، قادراً على فرض الحلول السياسية التي تتطلبها الظروف، بل كان يحاول تقديم حلول وسط تجمع بين مطالب الغرب والحكومة الليبية.
ثانياً، كانت هناك تحديات داخلية في ليبيا. فالقذافي كان زعيماً قوياً يتمتع بشعبية واسعة داخل بلاده رغم الضغوط الدولية، وكان يستخدم هذه الشعبية كوسيلة لتحدي العقوبات. لم يكن هناك مجال كبير للتفاوض بالنسبة إلى الفاتيكان، إذ كانت الحكومة الليبية ترى أن الاستجابة للضغوط الغربية تعني فقدان الهيبة الوطنية.
في نهاية المطاف، لم تحقق جهود الفاتيكان في ليبيا النجاح المرجو كما حققته في البوسنة. العقوبات استمرت لفترة طويلة، وظلت الأزمة قائمة لأعوام حتى توصل إلى تسوية في شأن قضية لوكربي عبر قنوات دبلوماسية أخرى. الفاتيكان، على رغم محاولاته الحثيثة، لم يستطع تغيير المعادلة السياسية في ليبيا.
وكانت تجربة الفاتيكان في ليبيا مليئة بالتحديات والصعوبات التي جعلت من الصعب على الفاتيكان تكرار نجاحاتها الدبلوماسية السابقة. ومع ذلك، تبقى جهودها مثالاً على الدبلوماسية الإنسانية التي تحاول حل النزاعات بعيداً من التدخلات العسكرية أو العقوبات الاقتصادية، حتى وإن لم تنجح دائماً في تحقيق نتائج ملموسة.