مدارس العراق تطوي دفاتر الألوان أمام الطلاب

آخر تحديث 2024-11-19 13:00:06 - المصدر: اندبندنت عربية

تسهم الفنون في الاتزان النفسي والعاطفي والوجداني   (اندبندنت عربية)

تزخر مكتبات العراق بكثير من الكتب التربوية التي تحث على تدريس مادة الفنون، إذ تحرص على تقديم مناهج متنوعة لكيفية تدريسها للمراحل الدراسية ابتداءً من رياض الأطفال وصولاً إلى الدراسة الثانوية لما لها من أثر في تنمية وجدان الطلاب.

كما أن لها آثاراً نفسية، إذ تسهم في التنفيس عن بعض انفعالاتهم وأفكارهم بما يحقق لهم الاستقرار والاتزان العاطفي وتعزيز الثقة بأنفسهم ويحد من الميول العدوانية، فضلاً عن التدريب على استخدام حواسهم على نحو مثالي وتنمية الإحساس بالقيم الجمالية.

ومع أهمية ما سبق فإن مدارس العراق تلقي بكل هذا وراء ظهرها، إذ ألغيت حصص الفنون في بعضها، واقتصر وجودها على أخرى محدودة.

وجود صوري

بالنظر إلى جدول الحصص الأسبوعي للمدارس نرى وجود حصة دراسية واحدة لمادة التربية الفنية غالباً ما تهمل وبخاصة في المراحل الدراسية النهائية، وتكون حصة هذا الدرس من نصيب المواد الأخرى فوجودها صوري، مما يعني أن هناك حصة أخرى ستحل محل درس الفنية مثل الرياضيات أو الفيزياء إذ تختفي مواد الترفيه (الرياضة والفنون) ويثقل الجدول الأسبوعي بالمواد التي يرى المدرسون أنها الأهم لنجاح الطلاب وانتقالهم لمراحل دراسية أخرى.

ولم تعد المدارس العراقية تولي اهتماماً لتدريس الفنون بشقيها الرسم والموسيقى، وإن كانت هناك محاولات خجولة من قبل بعض المدارس لإعطاء هذا الدرس أهمية، لكنها تبقى محاولات عشوائية دون خطط واضحة.

وتوضح المشرفة الفنية في النشاط المدرسي روان حبيب أن هناك توجهاً من قبل المدارس للتركيز على المواد العلمية على حساب مادة التربية الفنية، كأن الطالب لا يحتاج في حياته غير المواد العلمية "غالباً ما تترك المواد التي تنمي موهبة الطالب وتصقل شخصيته، فعدم الاهتمام بدرس الفنية أدى إلى خلق جيل لا يملك ذائقة جمالية حتى في المفردات اليومية المتداولة".

ذاكرة التشكيليين الرواد

لعل غياب درس الفنية يعرض كثيراً من المواهب للاندثار، فعند غياب هذه المادة لا تمنح للطالب فرصة اكتشاف موهبته. فكم من موهبة ازدهرت مع حث المعلم طلابه على الإمساك بفرشاة الرسم ووضع أول لون على اللوحة البيضاء.

وتزدحم ذاكرة رسامينا من الأجيال السابقة بمواقف لمعلميهم في مادة الفنية أسهمت في توجيه موهبتهم وحثهم على الاهتمام بها، ليكونوا من أهم الرسامين والتشكيليين حالياً.

ويحدثنا الفنان التشكيلي ومشرف التربية الفنية سامي الربيعي عن معلميه في مراحله الدراسية وكيف أسهموا في تنمية موهبته قائلاً "كان المعلم في المرحلة الابتدائية يرسم لنا أشكالاً ونرسمها وأحياناً يترك لنا حرية الاختيار، أما في الصف السادس فقد ألهمني نهر دجلة حيث كنا نقيم على ضفافه لرسم مناظر طبيعية، كما تعلمت الخط وأصدرت نشرة جدارية بخط يدي".

الربيعي من المؤسسين لدار ثقافة الأطفال وفي مسيرته الطويلة كثير من البرامج الموجهة للأطفال منها "كيف تستفد من وقت فراغك؟ و"ركن الأطفال" ومجلات الأطفال، وأشار إلى دور مهم لمدرسه في مادة الرسم خلال المرحلة المتوسطة وكيف أسهم في تنمية مهارته الفنية مما أهله للقبول في معهد الفنون الجميلة عام 1960.

 

من التجارب الأخرى للرواد الذين تحتفظ ذاكرتهم بأهمية مادة التربية الفنية وكيف أثرت في تنمية مهاراتهم في الرسم ما يقوله لنا الرسام منير العبيدي، وهو يستذكر معلمه في المدرسة المحمدية في ناحية بهرز التابعة لمحافظة ديالى.

يقول العبيدي "كنت محظوظاً أن يكون لي معلم مثل حسين الطائي الذي كان موهوباً في مجالات عدة ولكنه لم يكن رساماً، تركني أرسم على سجيتي واشتركت نتاجاتنا أنا وزملائي في جميع المعارض التي كانت تقام على مستوى المحافظة. وحصلت شخصياً وبعض زملائي على جوائز تقديرية وكان هذا دافعاً كبيراً لنا للاستمرار".

العبيدي الذي يعيش في ألمانيا حالياً وله كثير من المعارض الفنية يوضح أن المدارس في زمنه كانت تعاني قلة الكادر التدريسي ولكن التجهيزات الخاصة بالرسم كانت بنوعيات ممتازة وتوزع مجاناً، "التجهيزات في الفترة التي كنت خلالها في المدرسة الابتدائية وفي ما بعد في المتوسطة والإعدادية كانت مجانية وذات نوعية ممتازة. فقد رسمنا في المدرسة الابتدائية مستعملين علبة الرسم ’شمنكة‘ الألمانية باهظة الثمن".

أما التشكيلي محمد الخزرجي فيقول "كانت درجاتي في درس الفنية أعلى درجة وتلقيت توجيهاً صحيحاً من مدرس المادة الذي كان متمكناً من فنه، إذ كان يرسم على السبورة موضوعات المنهج الفني وكان له أثر كبير في مسيرتي الفنية".

ويرى الخزرجي أن "الفن علم مثل باقي العلوم، وأنه يجب على المعاهد المتخصصة في الفنون أن تهتم بطلابها وتصقل مواهبهم ليكونوا مؤهلين لمناهج التدريس مستقبلاً، ولكي يعاد النظر بتدريس مادة الفنية كما كان سابقاً".

البائع المتجول

لعل ذاكرة الجيل الحالي لا تحتفظ بأية لوحة رسمها في مادة الفنية، وقد لا تحتفظ ذاكرة بعض بمعلمي هذه المادة بالأساس. أما الأجيال السابقة فمعلم مادة الفنية كان يمثل الداعم والمشجع لموهبة طلابه.

"أمسك أستاذ خليل بيدي وطلب من مدير المدرسة مشاهدة ما رسمته قائلاً له هذا رسام حقيقي"، على هذا النحو يقول الفنان التشكيلي والمدير العام لدائرة الفنون التشكيلية في وزارة الثقافة الدكتور قاسم محسن عائداً بذاكرته إلى مرحلة الدراسة الابتدائية، عندما طلب منهم معلم مادة الفنية رسم لوحة عن البائع المتجول، ويشير بالقول "نالت لوحتي إعجاب أستاذ المادة، بل جعل طلاب الصفوف الأخرى يشاهدون الرسم ويصفقون لي".

يضيف محسن "صدى هذا التصفيق منحني الثقة بأن لدي موهبة حقيقية، وبالفعل أصبحت بعدها رسام المدرسة وأكملت معهد الفنون وكلية الفنون وحصلت على الدكتوراه في الفن التشكيلي".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

غياب المنهج والمعلم المتخصص

بالعودة إلى الرسام منير العبيدي يوضح أن تدريس مادة الرسم داخل البلاد لا يرقى إلى الطموح في بلد مثل العراق كان للتشكيل خصوصاً النحت والعمارة مكانة كبيرة به، "لم يكن فن النحت دالاً فقط على رقي التفكير قبل بضعة آلاف من الأعوام، بل كان لهذا الفن دور في حفظ تاريخنا وحوادث كان مقدراً لها أن تضيع لولاه".

العبيدي يوضح أنه "غالباً ما ينسب لتعليم مادة الرسم في مدارسنا الابتدائية والمتوسطة إلى حد ما معلمون غير متخصصين، مما يجعل درس الفنية في العراق الحلقة الأضعف بين كل المواد الأخرى".

وفي السياق، يرى التشكيلي عمرو الريس أن إعادة الاهتمام بدرس الفنية لا يتم إلا من خلال تعيين معلم متخصص في الفنون الجميلة لتدريس هذه المادة، فضلاً عن ضرورة وجود منهج ثابت يراعي المرحلة العمرية للطلاب لكل مرحلة دراسية.

العشوائية

"تهتم مدرستي بمادة الرسم وتشرح لنا مدرسة المادة الموضوعات التي تحسن من قدراتنا في الرسم وتصحح لنا الأخطاء"، هذا ما تقوله الطالبة في مرحلة الثالث المتوسط مينا مصطفى الشغوفة والموهوبة بالرسم منذ طفولتها، وكثيراً ما تحصد الجوائز في غالب مسابقات الرسم التي تشارك بها.

وتتمنى مصطفى أن يكون درس الرسم متنوعاً على نحو أكثر "غالباً ما تتكرر موضوعات مادة الفنية في غالب المراحل الدراسية مثل المنظور الهندسي والطبيعة الصامتة، مما يجعل هذه المادة تفتقر إلى التنوع".

ولعل التنوع في مادة الرسم يأتي من ضرورة وجود منهج خاص، وهذا ما يوضحه لنا الفنان التشكيلي ومشرف التربية الفنية سامي الربيعي الذي درس وأشرف على هذه المادة لأعوام طويلة، قائلاً "إن تدريس التربية الفنية ليس عشوائياً، وإنما هناك مراحل لرسوم الأطفال وحسب عمر الطفل فلا بد أن يكون هناك منهج للمادة ولا يقف الطفل في حيرة من أمره، ويُترك دون أي توجيه لما يرسم".

 

الربيعي يوضح أن "حصة مادة الرسم واحدة في جدول الدروس الأسبوعي وغالب المدارس تعد مادة الرسم ثانوية ولا توجد خطة واضحة للمعلم، أما مرحلة رياض الأطفال فلا وجود لدرس الفنية"، ما موجود في هذه المرحلة دفتر لرسوم مطبوعة يُطلب من الطفل تلوينها وهذا عمل يقضي على موهبة الطفل ويخلق روحاً من الاتكالية".

ويضع الربيعي خطة شاملة لإعادة الاهتمام بمادة الفنية ويرى ضرورة تشكيل لجنة من الباحثين في مجال فن الطفل وبعض معلمي ومعلمات الرسم من ذوي الخبرة لتأليف منهج لدراسة التربية الفنية يتناول كل مراحل الدراسة الابتدائية، وطبع منهج معزز بالصور والرسوم لتوزيعه على كل المدارس ليكون مرجعاً لمعلمي المادة فضلاً عن إلزام إدارة المدارس بعدم تهميش درس الرسم وعدم التجاوز عليه بإعطائه لدروس أخرى وزيادة حصته في الجدول الأسبوعي.

درس الموسيقى أسوأ حظاً

يعد عزف الموسيقى وقراءة التراتيل مرافقاً لكل الشعائر في حضارات وادي الرافدين، فالموسيقى ترافق الشعائر الدينية والحصاد والحروب ودفن الموتى، كما كانت الموسيقى تمثل درساً مهماً في المدارس، فقد عثر على بقایا ألواح الطین لمدرسة في شروباك وهي مدينة سومرية ضمت الألواح تفاصيل تعلیم التلامیذ الفن والموسيقى.

ومع أن الموسيقى في العراق لها كل هذا البعد الحضاري فإن تدريس هذه المادة يجابه بالإهمال ليكون درس الموسيقى الأسوأ حظاً في المدارس مقارنة بدرس التربية الفنية.

ويوضح الفنان وعازف العود ومدير مركز العطار لتعليم الموسيقى محمد العطار أن هناك عوامل عدة تقف عائقاً أمام تدريس الموسيقى، منها عدم اهتمام مؤسسات الدولة بهذا الجانب فضلاً عن غياب الكوادر المؤهلة والمتخصصة لتدريس هذه المادة وقلة الموارد اللازمة لتوفير آلات موسيقية ومعدات تدريبية.

ويشير العطار إلى أن بعض المجتمعات لديها توجهات تقليدية لا تشجع على تدريس الفنون، إذ ينظر إليها كمواد ثانوية أو غير مهمة ويرى أن هذا التوجه يحد من دعم تطوير تعليم الفنون.

ويستذكر ما يصفها بأهم تجربة شخصية له وهي تدريس الموسيقى في المدارس الحكومية، موضحاً العقبات التي واجهته خلال هذه التجربة "يتطلب من المدرس التعامل مع نقص في الموارد والدعم، ومع ذلك فإن التجربة تكون غنية للمدرس والطلاب على حد سواء، إذ يمكن للموسيقى أن تكون وسيلة فعالة لجذب انتباه الطلاب وتعزيز حماستهم. وعلى رغم القيود تعطي هذه التجربة إحساساً بالإنجاز في حال استطاع المعلم إلهام الطلاب وتطوير ذائقتهم الفنية".

 

غياب الخطط الواضحة

يوضح مدرس الموسيقى لمادة البيانو هشام خليل من خلال تجربته في المدارس التي عمل بها أن غالب المؤسسات لا تضع خطة محددة لدرس الموسيقى "ليست لديهم معرفة بأن الموسيقى علم صعب يجمع عديداً من العلوم في آن واحد مثل الرياضيات والفيزياء، فما يهم هذه المؤسسات أن تدرس الموسيقى صورياً دون الغوص في تفاصيلها".

خليل يتحدث عن صعوبة إيجاد فرص عمل بالنسبة إلى المتخرجين في معاهد الفنون "عملت كمحاضر مجاني على أمل الحصول على تعيين في معهد الفنون الجميلة، وكانوا في حاجة إلى أستاذ على آلة البيانو فبدأت العمل في تلك المؤسسة وفوجئت بعد مدة بشطب اسمي كمحاضر مجاني بسبب مشاركتي في حراك أكتوبر (تشرين الأول)".

جهود ذاتية

يوضح الملحن والمغني وعازف الغيتار علاء الخالدي أن هناك اهتماماً لدرس الفنون تجلى خلال الآونة الأخيرة.

الخالدي الذي يعمل مدرساً للتربية الموسيقية أنتج أناشيد لكتاب قراءتي للمرحلة الابتدائية وحولها إلى أغان، "جاءت الفكرة بسبب حاجة طلاب المدارس لأناشيد مدرسية خاصة بهم تنشر بطريقة الفيديو كليب وتقدم للمدارس الأهلية والحكومية مجاناً".

مناهج درس الموسيقى

يطمح المتخصصون والدراسون للموسيقى إلى إعداد مناهج متخصصة لتدريس هذه المادة، إذ يرى محمد العطار أنه لو أتيحت له فرصة إعداد منهج لتدريس الموسيقى سيركز على تعليم الأساسات الموسيقية بطرق تفاعلية وممتعة، تبدأ بتعريف الطلاب أدوات العزف وتنمية الذائقة الموسيقية عبر الاستماع لأنماط موسيقية متنوعة.

أما الفنان ومدير منظمة شغف وأوركسترا السلام للعود العراقي مصطفى زاير فيرى ضرورة تعليم الطلاب الآلات الوطنية، وهي الجوزة والسنطور والعود والناي لكي يتعلموا موروثهم الحضاري ولا تتعرض هذه الآلات للانقراض..

الإهمال يسود المدارس المتخصصة

تعد مدرسة الموسيقى والباليه الوحيدة التي تدرس مادة الموسيقى على أسس علمية وتأسست خلال عام 1969، ويحصل الطالب المتخرج فيها على شهادتي الإعدادية والدبلوم الفني حسب دراسة الطالب لما اختاره من تخصص "موسيقى أو باليه" وتتبع المدرسة إدارياً وزارة الثقافة.

وتوضح هلا بسام مديرة مدارس الموسيقى والباليه والعازفة على آلة السنطور وعضوة فرقة السومريات أن المدرسة تعاني الإهمال من ناحية المبنى والتجهيزات فضلاً عن قلة المدرسين، وتشير إلى أنه "منذ 13 عاماً لم يتم تعين مدرس متخصص في الموسيقى على رغم حاجتنا الماسة بعد تقاعد عدد من المدرسين".

وتضيف أن غالب الآلات الموسيقية الموجودة قديمة ولا يوجد تخصيص مالي لإصلاح العاطل منها، وأن المدرسة التي تعنى بالفن أهملت إلى حد بعيد بعد عام 2003. وعلى رغم أنها دخلت ضمن خطة تعظيم الموارد إذ يتم حصول أجور من الطلبة عند التسجيل وهي 500 ألف دينار عراقي (ما يعادل 381 دولاراً) لرياض الأطفال، ومبلغ  200 ألف دينار عراقي (نحو 152 دولاراً) للمرحلة الابتدائية، ومبلغ 400 ألف دينار (305 دولارات) للمرحلة الإعدادية، فإن هذه المبالغ لم تصب لمصلحة تطوير وتأهيل المدرسة، كما أن غالب المدرسين العاملين بها والذين يتبعون إدارياً وزارة الثقافة يرغبون في نقل خدماتهم إلى وزارة التربية بعد حرمانهم من المخصصات المالية أسوة بأقرانهم في وزارة التربية.

وزارة التربية

يوضح المتحدث الرسمي باسم وزارة التربية كريم السيد أن الوزارة تعمل على تنشيط الدروس الفنية والرياضية، وتسعى باستمرار إلى عدم إهمال هذه المواد لما لها من أثر في الصحة البدنية وتنمية الذائقة والمواهب الإبداعية.

ويشير إلى أن هناك توجهاً من قبل الوزارة لافتتاح معاهد للفنون وإعدادية للتربية الرياضية لاكتشاف مواهب الطلبة بموازاة الجانب الأكاديمي، وكجزء من اهتمام الوزارة بالموسيقى أسست الوزارة فرقة سيمفونية من الطلاب الموهوبين لغرض المشاركة في الاحتفالات.