أطلال مدينة برسبوليس القديمة، التي كانت عاصمة الإمبراطورية الفارسية الأخمينية (550-330 ق م)، في جنوب إيران في 13 مايو 2024 (أ ف ب)
تحول الفرس الذين يهيمنون على كل مناحي الحياة السياسية والثقافية في إيران إلى لغز، والمصدر الأساس لهذا اللغز كتمان وإنكار وجود شعب فارسي في إيران. ويعتبر غير الفرس هذا اللغز مصطنعاً، والغرض منه استمرار تلك الهيمنة في عالم لا يقبل بقضم حقوق الأقليات القومية والشعوب المضطهدة. وفي خضم النقاشات الدائرة في الأوساط السياسية والثقافية الإيرانية في شأن هذا الأمر تتهم النخب غير الفارسية الفرس، الذين ينكرون وجود "شعب فارسي" ويقولون نحن "شعب إيراني" أو نحن إيرانيون، بأنهم كأقرانهم البيض في الولايات المتحدة، الذين يعترفون بوجود سود وهنود حمر ولاتينيين في أميركا، لكنهم لا يعترفون بشعب أبيض هناك، أي أنهم لا يريدون أن يروا أنفسهم كسائر الأعراق والقوميات.
لقد فجرت ثورة فبراير (شباط) 1979 مسألة القوميات في إيران بصورة لم يسبق لها مثيل منذ عقود من الزمن، وخلقت مساحات لهذه القوميات لم تكن موجودة في العهد الملكي البهلوي (1925-1979)، غير أن الشعوب غير الفارسية، التي تشكل نحو 60 في المئة من سكان إيران، لم تتمكن من إقناع الحكام الإسلاميين الجدد بإعادة حقوقهم التاريخية، على رغم نضالها ومساهمتها في إسقاط نظام الشاه وتنازلها عن نظام الممالك المتصالحة (المحروسة) والاكتفاء بالحكم الذاتي لكل شعب في منطقته.
رفض الفرس – بمعظم اتجاهاتهم – ذلك الطلب وأبقوا على بنية الدولة القومية الفارسية، بل أضافوا في دستور الجمهورية الإسلامية اللغة الفارسية كلغة رسمية للبلاد، على رغم أن الدستور السابق المصادق عليه في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 1907 لم ينص إلا على رسمية المذهب الشيعي.
وتم بناء الدولة – الأمة في إيران بعد قيام ثورة الدستور في أوائل القرن الـ20 على ركنين أساسيين: المذهب الشيعي واللغة الفارسية، وتتغير أهمية أي من هذين الركنين بحسب توجهات النظام الحاكم في إيران. وأخذت الشعوب غير الفارسية تتحدى ذلك بطرحها ضرورة الاعتراف بحقوق أهل السنة وغير الفرس، وهي تخوض منذ ثلاثة عقود كفاحاً مدنياً وثقافياً وسياسياً - بل وأحياناً عسكرياً - لتغيير المعادلة غير السوية بينها وبين الفرس. وتجلى هذا الكفاح أخيراً في مساعي الترك الأذريين إلى إدخال عنصر من بني جلدتهم إلى السلطة الحاكمة، وهو الرئيس مسعود بزشكيان الذي حصل على 85 في المئة من المصوتين الترك الذين يشكلون أكثر من ثلث نسمة البلاد. وتمكن بزشكيان أن يكسب رأي المرشد علي خامنئي لكسر بعض محرمات الجمهورية الإسلامية، منها تعيين محافظ عربي لمحافظة الأحواز، ومحافظ سني لمحافظة بلوشستان وسيستان، ومحافظ كردي سني لمحافظة كردستان، غير أن هذه الإجراءات تبقى إنجازات سياسية لم تحقق العدالة الإثنية في إيران ما دام الدستور يعاني تمييزاً صارخاً ضدهم، وما دامت لم تسجل كإنجازات قانونية، يمكن أن تنقضها السلطات الحاكمة.
كما تثار نقاشات بين الحين والآخر - خصوصاً بعد انتخاب بزشكيان - حول موضوع التعليم باللغة الأم في المناطق غير الفارسية، استناداً إلى المادة الـ15 من دستور الجمهورية الإسلامية. غير أن الشكل الفضفاض لهذه المادة فتح الباب لتفسيرات متباينة للموافقين والمعارضين لتنفيذها التي يفسرها الموافقون بأنها تنص على ضرورة التعليم – لكل المواد الدراسية - بلغة الشعوب غير الفارسية الأم، منذ المرحلة الابتدائية وما فوق، وذلك إلى جانب اللغة الفارسية. وفيما تعارض معظم النخب الفارسية تطبيق هذه المادة جملةً وتفصيلاً وتعتبرها خطوة في طريق تفتيت إيران، تقول قلة منهم إن المادة الـ15 تنص فقط على تعليم "لغة الأم"، أي أن تدرس مادة اللغة العربية والكردية والبلوشية والتركية الأذرية، إلى جانب المواد الدراسية الأخرى التي تدرس جميعها بالفارسية. وأحبطت النخبة الفارسية تطبيق هذه المادة في عهد الرئيسين محمد خاتمي وحسن روحاني، وتقف بالمرصاد لها حالياً.
وفي الصراع المحتدم بين الفسطاطين الفارسي وغير الفارسي ينبغي أن نعرف أسباب قوة الخطاب الفارسي خلال القرن الماضي، ولماذا لم تتمكن الشعوب غير الفارسية خلال 100 عام من إجبار الدولة المركزية والنخب الفارسية أن تطبق، أولاً المواد المتعقلة باللامركزية المنصوص عليها في دستور ثورة المشروطة (1906-1909)، وثانياً تنفيذ المادة 15 المنصوص عليها في دستور الجمهورية الإسلامية.
لماذا أصبحت الفارسية لغة مهيمنة؟
أولاً يدعي المتطرفون من الفرس أن إيران ملكهم التام ويستندون إلى هيمنة اللغة الفارسية القديمة في عهد الإمبراطورية الإخمينية والفارسية الوسطى في عهد الإمبراطورية الساسانية، واستعادة سيطرتها اللغوية والأدبية بصورة اللغة الفارسية الحديثة المأخوذة من اللغة الدرية الأفغانية بعد الإسلام، وذلك على رغم تفكك إمبراطوريتهم لمدة تسعة قرون. أي أن اللغة الفارسية كانت اللغة البيروقراطية والإدارية للسلالات التي حكمت شرق بلاد فارس وخصوصاً في خراسان الكبرى - إن كانت تابعة للعباسيين أو مستقلة بعد سقوطهم – تستخدم كلغة الأدب ولغة البيروقراطية الحكومية والمراسلات الإدارية، واللغة التركية كلغة العسكر، واللغة العربية كلغة الدين والفلسفة. وبالطبع هذا لا يشمل مناطق كانت مستقلة في معظم تلك العهود كمملكة الأحواز (عربستان في ما بعد) أو مملكة بلوشستان، أو بعض المناطق الكردية في غرب البلاد.
فحتى الأتراك الذين حكموا بلاد فارس لمدة 10 قرون – من القرن العاشر إلى القرن الـ20 ميلادي – انصاعوا لهيمنة اللغة الفارسية لأسباب مختلفة، منها ثقل الظل التاريخي للغة الفارسية وضعف اللغة التركية آنذاك. فمنذ حكم الغزويين وعلى رأسهم السلطان محمود الغزنوي (998 - 1030)، الذي حول بلاطه إلى عش للوزراء والشعراء الفرس الأولين، ومنهم أبو القاسم الفردوسي صاحب ملحمة الشاهنامة ذات القصائد العنصرية، مروراً بالسلاجقة والمغول والصفويين، وانتهاء بالقاجاريين.
فلا ننسى أن الشاه إسماعيل، مؤسس الدولة الصفوية الشيعية وذو الأصل التركي، كان يتبجح بشاهنامة الفردوسي، ويشبه جنوده القزلباش بأبطال الشاهنامة، وذلك لمواجهة خصومه في الدولة العثمانية السنية.
لقد حكمت السلالة القاجارية - التركية بلاد فارس منذ أواخر القرن الـ18 حتى أوائل القرن الـ20، وهم الذين أسسوا لما أصبح "إيران" في العهد البهلوي، فلم يسع القاجار لجعل اللغة التركية لغة رائجة وحكومية رديفة للغة الفارسية، كما فعل الطاجيك في أفغانستان الذين جعلوا اللغة الطاجيكية – الفارسية - الدرية لغة مشتركة إلى جانب اللغة البشتونية، واستمر ذلك حتى عصرنا هذا لتصبح هناك لغتين رسميتين في أفغانستان، مما مهد الطريق للاعتراف بالتنوع اللغوي والثقافي وبالحقوق اللغوية لكل القوميات في أفغانستان، وهذا لم يحدث في إيران. فإذا استثنينا الشاه آغا محمد خان، مؤسس الدولة القاجارية واتجاهاته القومية التركية، استسلم الأباطرة القاجار، منذ خلفه الشاه فتح علي، إلى آخرهم الشاه أحمد القاجاري، مسحورين باللغة الفارسية ومنصاعين للوزراء الفرس والبيروقراطية الفارسية المهيمنة على بلاطهم، بل وظهر قوميون من السلالة نفسها - منهم "جلال الدولة" نجل الشاه فتح علي - ينادون بالقومية الفارسية ومعاداة العرب والإسلام، وتشذيب اللغة الفارسية من المفردات العربية. وحظي الحراك القومي الفارسي المتشدد بدعم القوى الأجنبية، وخصوصاً الدولة الاستعمارية البريطانية، ويمكننا القول إن خطاب القومية الفارسية نضج في نهاية العهد القاجاري وخصوصاً بعد قيام ثورة الدستور، ولم يفعل الشاه رضا بهلوي شيئاً إلا أنه جعله الخطاب المهمين رسمياً وشعبياً في إيران.
في الواقع أن الترك القاجار هم الذين صنعوا إيران بصورتها الحالية، بما فيها احتلالهم لمملكة عربستان في عام 1941 في عهد الشاه محمد القاجاري، وإلحاقها بدولة الممالك المتصالحة (المحروسة). لكن أدرك الترك الأذريون مستوى الخداع التي تعرضوا له من الفرس عقب "ثورة المشروطة"، وانقسمت نخبهم الفكرية والسياسية بعد ذلك إلى فئة في خدمة التفريس والشوفينية الفارسية وفئة تطالب بحقوقها القومية.
ثانياً سيطرة الخطاب القومي الشوفيني في العهد البهلوي (1925-1979)، لمدة 74 عاماً أضعفت الخطابات غير الفارسية، ومن ظواهر هذا الضعف جعل اللغة الفارسية لغة رسمية للبلاد في دستور الجمهورية الإسلامية بعيد سقوط النظام البهلوي، وذلك للمرة الأولى في تاريخ إيران المعاصر.
ثالثاً إن رسمية اللغة الفارسية وهيمنتها القسرية على جميع جوانب الحياة السياسية والثقافية والاجتماعية والفنية، وضعت اللغات الأخرى (العربية والبلوشية والكردية والتركية الأذرية) في موقف صعب، ووجهت إليها ضربات قاتلة، وتتمتع هذه الهيمنة بالطبع بدعم القوات المسلحة والسجون، وغيرها من الأساليب الناعمة لفرض اللغة الفارسية على الشعوب غير الفارسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رابعاً ولد طابور خامس سياسي وفكري موال للمركز وللخطاب الفارسي المهيمن بين الشعوب غير الفارسية ومن بين أبنائها، خصوصاً في الأحواز وأذربيجان. إذ يتكون هذا الطابور في إقليم الأحواز من عناصر معظمها غير عربية تقيم كأقلية في الإقليم، ولعبت دوراً أساسياً في قمع الحراك السياسي المطالب بحقوق الشعب الأحوازي في مدينة المحمرة في عام 1979، عندما وقفت تلك العناصر إلى جانب القوات البحرية والأمنية وقتلت مئات من أبناء المدينة. كما أن الأقلية غير العربية في إقليم الأحواز تستطيع أن تلعب دوراً مماثلاً في أية خلافات يمكن أن تحدث بين الإقليم وطهران مستقبلاً، خصوصاً وأن هذه الأقلية تعتبر أكثر الأقليات عدداً وحراكاً وسيطرة على المناصب الحكومية في الأحواز قياساً بالأقليات المقيمة في المناطق الإثنية الأخرى كأذربيجان وكردستان وبلوشستان، ويمكن مقارنتها بالمستوطنيين اليهود في الضفة الغربية.
هذه أهم العوامل الداخلية لقوة الخطاب الفارسي القومي، ونتطرق هنا إلى مواطن قوتهم على المستوى الخارجي.
خامساً هيمنة الفرس على معظم وسائل الإعلام – المرئية والمسموعة والمقروءة - المؤثرة في الخارج، المستقلة والتابعة للحكومات الأجنبية، وأهمها: "بي بي سي فارسي"، و"صوت أميركا"، و"صوت ألمانيا"، و"إيران انترناشنال"، و"راديو فردا".
سادساً سيطرة الفرس شبه المطلقة على اللوبيات الإيرانية في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، ولهذا الأمر أسباب تاريخية تعود لهجرة الفرس المبكرة إلى أوروبا والولايات المتحدة وإنشاء منظمات لهذا الغرض. والأنكى في الأمر أن الأتراك الذين هاجروا وأوفدوا – إلى جانب الفرس - للدراسة في الدول الغربية منذ أوائل القرن الـ19 كانوا مندمجين مع الفرس ويروجون لخطابهم، بل أصبح بعضهم أكثر شوفينية فارسية من الفرس أنفسهم، مثل حسين كاظم زادة ايرانشهر وحسن تقي زادة وتقي أراني ومحمود افشار في "حلقة برلين" الموالية للاتجاهات النازية في المدة بين الحربين العالميتين. فلم يشتد عود الخطاب القومي التركي في إقليم أذربيجان (إيران) إلا بعد قيام جمهورية أذربيجان المستقلة، لكنه لا يزال ضعيفاً قياساً للخطاب الفارسي، وليس في المستوى الذي يتمكن من منافسة هذا الخطاب في أوروبا والولايات المتحدة.
المستجدات الأخيرة
خطى الخطاب غير الفارسي خطوات لا بأس بها في مسار تكوين منافس للخطاب الفارسي في الداخل والخارج، لكن مشكلات عدة تعوق تطوره، منها الخلافات بين الترك والكرد، ومدى العلاقة مع النظام، ونفوذ عناصر الأمن الإيراني في صفوف بعض المجموعات غير الفارسية.
وبما أن نظام الدولة – الأمة يستلزم تطابق الحدود السياسية مع الحدود الثقافية واللغوية للدولة، فإن التفريس وتغيير هوية المناطق غير الفارسية إلى هوية فارسية، كان ديدن الأنظمة الإيرانية المتعاقبة، بل وقسم من المعارضة الفارسية. إذ تتحدث الخطة السابعة للتنمية في إيران عن إنشاء 27 مدينة ومستوطنة في جنوب البلاد وعلى الساحل الشرقي لخليج عمان والخليج العربي، لتشجيع نحو 6 ملايين شخص (سبعة في المئة من كل سكان إيران) للاستيطان في تلك المدن والمستوطنات، حيث يعيش العرب والبلوش، وذلك بحجة التنمية الاقتصادية، لكن الهدف هو تغيير التركيبة السكانية لغير صالح العرب والبلوش. وأشار مسعود بزشكيان إلى هذه الخطة من دون الخوض في تفاصيلها، لكنه تحدث عن ضرورة نقل العاصمة من طهران إلى مكان آخر. وليس غريباً أن نسمع الكلام نفسه عن حجة كلاشي، أحد الكوادر السابقة لحزب "بان ايرانيست" العنصري زعيم جمعية الدستوريين (انجمن مشروطة) الموالي لرضا بهلوي - نجل الشاه المخلوع –، يتحدث في فيديو مسرب أنهم، أي الملكيين، إذا تمكنوا من إسقاط النظام الحالي في إيران سيقومون بتشجيع 30 إلى 40 مليون شخص من وسط وشمال إيران للاستيطان في جنوب إيران. وهذا يدل على أن كلاً من الجمهورية الإسلامية ومعارضيها الملكيين لديهم رأي مشترك حول هذه المسألة، وهو الحفاظ على هيكل النظام غير الديمقراطي، أحادي اللغة وأحادي القومية للدولة - الأمة التي أنشأها الشاه رضا بهلوي، جد رضا بهلوي المعارض الحالي.
يبدو أن مواطن القوة التي تساعد الخطاب الفارسي باستمرار هيمنة الفرس الوحيدة على السلطة السياسية والثقافية يمكن أن تستهلك وتضعف إذا قام غير الفرس بالبحث عن مواطن ضعفهم ومعالجتها، إذ تؤكد تجارب الدول الأخرى المماثلة لإيران في تاريخها وسياساتها أن هدم الدولة القومية الفارسية واستبدالها بدولة ديمقراطية تعددية فيدرالية ممكن إذا تم ذلك.
* المقال يعبر عن رأي الكاتب وليس عن "اندبندنت عربية"