مترو الرياض... رحلة فلسفية للتو بدأت فصولها

آخر تحديث 2024-12-04 16:00:06 - المصدر: اندبندنت عربية

استهل السعوديون أولى تجاربهم مع قطار المدن هذا الأسبوع وسط اقبال كبير (الهيئة الملكية لمدينة الرياض)

منذ الأول من ديسمبر الجاري توسعت على ألسنة السعوديين رقعة الـ"نحن" بدلاً من الـ"أنا"، وبدأ القطار يجر مع عرباته في العاصمة الرياض دروساً في الفلسفة والأخلاق، ومواقف أخرى بعيدة من الزمن والمسافة واختصارها، فمن القيادة منفرداً وأنت تستمع إلى أغنيتك المفضلة أو إلى آيات إذاعة "بك أصبحنا"، تجد نفسك محاطاً مع روح الجماعة تستمع إلى قصص الغرباء المقتضبة التي لا تعرف إلى أية محطة تنتهي فصولها.

التجربة التي جاءت مثيرة لفضول كثير من السكان، بدا أن أول درس قدمته من دروسها هو أن القطار لم يعد وسيلة نقل للفقراء وحدهم، ولم تعد ثمة نظرة ازدراء تلامس أنفاقه تجاه من يستقله، بخاصة وأن عشرات من المشاهير والفنانين ورجال الأعمال تسابقوا لرسم تلك الصورة النمطية الجديدة حين امتطوا عرباته.

في سبيل "الفلسفة الجديدة" نحو المترو، بدت كل محطة من محطات قطار الرياض الـ84 كما لو أنها تحفة فنية، وتأتي تحفة "كافد" المعمارية كواحدة من المحطات الجمالية، وهي تقع تحت ظلال مدينة فسيحة من أبراج يبلغ عددها 59 برجاً يعانق السحاب. 

فمنذ عقد وأكثر من الزمان جلبت البلاد أشهر مصممي العالم، كما لو أنها تسعى إلى خلق "ثقافة جديدة" نحو الأرض وأنفاقها، فالمحطة الرئيسة التي تبلغ مساحتها 45 ألف متر مربع زينت معالم تفاصيلها المصممة الشهيرة زهاء حديد، وهي التي عرفت بمدرستها "التفكيكية" التي تهتم بالنمط والأسلوب الحديث في التصميم، وحاكت البريطانية ذات الأصول العراقية بصورة هندسية بارعة تفاصيل المحطة محافظة على البيئة المحلية.

وحصيلة المرأة الموصلية قبل رحلتها الأخيرة نحو السماء 950 مشروعاً في 44 دولة، منها مبنى متحف الفن الإيطالي في روما عام 2009، والمتحف الأميركي في سينسياتي، وجسر أبو ظبي، ومركز لندن للرياضات البحرية، وآخرها المشروع الملياري السعودي.

تحف فنية تعبرها القطارات

المترو في الرياض عبارة عن متاحف فنية تعبرها القطارات، لربما أنها العبارة الأدق في وصف المشروع الذي بلغت كلفته الإجمالية 22.5 مليار دولار، وأطلقه العاهل السعودي الملك سلمان بن عبدالعزيز الأحد الماضي.

"من الدار البيضاء إلى كافد.. تناولت فنجان قهوتي في حديقة المال والأعمال"، قالها شاب قبل أن يمتطي "الخط الأزرق" نحو أقصى المدينة، وتلك جملة تنصهر فيها الطبقية بين مجتمع 8 ملايين نسمة، فمن الحي العتيق الذي يسكنه أقل السكان دخلاً إلى كافيهات الحي الذي يعد ساكنوه من طبقة النبلاء. 

تجربة جديدة وموقف مثير

المشاهد الأولى في المشروع تتعدى من كونه وسيلة نقل إلى كونه امتحاناً في الطباع والمبادئ والأخلاق، تجلى ذلك حين نشرت فتاة يبدو أنها أجنبية مقطع فيديو حصد أكثر من 5 ملايين مشاهدة خلال ساعات، وكان يوثق تجربتها، إذ يظهر مقعدان فارغان أمامها والرجال من حولها وقوف، وكتبت "الرجال في السعودية لا يجلسون على المقاعد الفارغة احتراماً لك"، وهو الموقف الذي تنوعت ردود الفعل حوله. وهذا درس للتو بدأت فصوله من كافد وأخواتها، والطرح هنا تحيلنا إجاباته من "مترو الأنفاق" إلى أبعد من ذلك إلى "مترو الأعماق!".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

يعيدنا مثل هذا الموقف للتجربة الفكرية الأزلية في علم الأخلاق التي اشتهرت بـ"معضلة القطار"، التي تهدف إلى اختبار الحس الأخلاقي لدى الإنسان، وهي التي نشأت أيضاً من وحي القطارات، وتقول لو أن "بإمكانك التحكم في قطار خارج عن السيطرة يسير مسرعاً نحو مسارين أحدهم يقف على سكته خمسة أشخاص والآخر شخص واحد فمن سنختار؟"، وعمر هذه المعضلة التي أطلقتها الفيلسوفة فيليبا فوت أكثر من ستة عقود، ولا تزال في إجاباتها مشاهد عما وراء النفس البشرية وما تضمرها.

وكثيراً ما كان المترو في أقطاب العالم ملهماً لمئات الأدباء والرسامين، حتى أن بعض أنفاقه في أثينا تحولت لمتاحف فنية، ومن أنفاقه ولد مفهوم في الفن جديد اسمه "فن الأنفاق"، وهذا ما ينبئ عنه مستقبل مترو المدينة التي أحيت رميم الفن في عهدها الجديد.

قطار لشبونة

تعيدنا التجربة السعودية للرواية الفلسفية الشهيرة "قطار الليل إلى لشبونة" للروائي الشهير باسكال مرسييه، وهي التي كتب في وصفها محررها الأستاذ شوقي العنيزي "وما قطار الليل إن لم يكن رحلة في خبايا الذات؟ وما الذات إن لم تكن الفريد والمختلف والغريب في وجه المشترك والمؤتلف والمألوف؟"، ليتم قوله "لا قطار ليل ولا لشبونة، إنها دعوة لكل واحد منا كي يقتطع تذكرته الخاصة بحثاً عن الإنسان فيه، الإنسان الذي تركه غريباً مهملاً في محطة مهملة على سكة الحياة".

والرواية تطرح عدداً من الأسئلة حول تعدد الذات الإنسانية، كما يقول كاتبها "إذا كان صحيحاً أننا لا نعيش إلا بجزء صغير مما يعتمل في دواخلنا، فما مصير بقية الأجزاء إذاً؟".

رحلة القطار في الرواية هو لاستكشاف الذات والبحث داخل النفس البشرية ومحاولة استكشافها بكل ما فيها من تناقضات عصية على التفسير والفهم، وما جاء قطار الرياض إلا لتقتطع مع تذكرته دروساً في علم النفس والفلسفة والأخلاق.

أكثر من كونها وسيلة نقل

التجربة السعودية الحديثة يصفها الفيلسوف السعودي الدكتور عبدالله المطيري أنها "على رغم أنها وسيلة نقل لكنها في الوقت نفسه وسيلة نقل جماعية، الفارق فيها أن لا أحد يتولى مهمة القيادة"، وهذا موقف يشعل فتيلاً أخلاقياً فلسفياً بداخل النفس البشرية، بخاصة أن البشر سيتحررون من "ضغط القيادة" ويمنحهم المركب أريحية أكبر، ويضيف "الحركة في المترو غير ثابتة واجتماع الناس مرحلي ومتحرك، وهو ما يعطي فرصة للتأمل نحو سلوكيات البشر بألوانهم وأجنساسهم وأزيائهم المختلفة، وهو فرصة للالتقاء بين أصناف من البشر من دون ترتيب مسبق، مما ينتج منه أسلوب مختلف في اللقاء لم يعتده السكان"، ويضيف "القيادة المنفردة بالسيارة تعفي الإنسان من مسؤولية أخلاقية، لكن العكس يحدث حين يلتقي بالآخرين يجعله ذلك أكثر لطفاً وأدباً واحتراماً"، ويتنبأ بأن "هناك احتمالات كثيرة في اندماج بعضهم ببعض وشراكة من نوع مختلف، إذ إنهم ليسوا مضطرين إلى التعرف أكثر بصورة أعمق"، وفي هذه الحالة ثمة حرية في اندفاع المرء وتحفظه تجاه الآخر.

تجربة فلسفية

وهناك عامل مهم وفق المطيري "فعلى مستوى أخلاقي سيوفر لقاء الناس وجهاً لوجه بعكس السيارة التي عادة ما يكونون فيها منفردين، ولهذا أثر وانعكاس في تصرفاتهم من ناحية أخلاقية واجتماعية، إذ ينشأ مع هذا التلاقي تواصل جديد"، ويقول "نأمل أن تكون تجربة المترو تجربة إنسانية عميقة تولد خبرة إنسانية، نتمنى أن تزدهر في مجتمع المدينة الواسعة".

والإنسان وفق المطيري لا يمكنك التنبؤ بسلوكه، لكن تجربة المترو فرصة للتأمل الفلسفي والعلمي بصورة عامة، ويتساءل ماذا سينتج من هذا؟ هل سينتج علاقات جديدة أسلوباً في التواصل مختلف وألفة لها طابع المدينة أو الناس يعود الناس لمناطقهم الخاصة من خلال استعمال هواتفهم الذكية، وبالتالي ينسحبون إلى عوالمهم الفردية داخل هذه المركبة، هذه كلها احتمالات ممكنة وموجودة لكننا سننتظر ونرى".

حداثة الآلة والإنسان

تجربة المترو تعكس تقدم الإنسان وحداثته، أو في الأقل تدفع الإنسان نحو مسايرة حداثتها، وللفيلسوف مارشال بيرمن في كتابه المثير للدهشة "كل ما هو صلب يتحول إلى أثير" شرح أوفى، ففي وصفه لمصطلح الإنسان الحديث يلمح الفيلسوف الأميركي إلى "الطرق الواسعة والقطارات والمتروات العجيبة"، ويرى الكاتب الذي يعد أحد رواد الإنسانية الماركسية أن "حداثة الآلة التي يستعملها الإنسان لا تستقيم إلا بإنسان له وعي حديث".

يمكن القول إن تجارب المترو في شتى البلدان تجيء ومعها دروس في "الدقة والنظام واحترام الزمن"، وهذا درس إن غفل عنه السعوديون يمكنهم ترديد أشهر أغاني البلاد "القطار وفاتنا.. والمسافر راح".