أبو محمد الجولاني يقرأ إعلان تأسيس جبهة فتح الشام قبل تغيير مسماها (مواقع التواصل)
بعيداً من أيام ولت عاشتها ثلاثية حلب وإدلب وحماة وتنذر بشلالات قريبة من الدم السوري، يقف البعض على الضفتين في البلد الجريح بـ"عين الإعجاب" و"التخوف" من زعيم "هيئة تحرير الشام" أبو محمد الجولاني. بين آلاف من العائدين إلى بيوتهم في تلك المحافظات بعد سنوات من التشرد واللجوء والتعرض للعنصرية في إحدى دول الجوار وآخرين يخشون تبعات عودة المتطرفين.
"بين أناس عانوا في المخيمات وعادوا إلى حلب بات الجولاني "بطلاً" استطاع تخليصهم من سنوات وجع وذل"، كلمات تحمل مفارقة نطق بها الشاب أحمد الحلبي (31 سنة)، وذلك بعد يومين من عودته إلى مدينته وتمكنه للمرة الأولى من دخول منزله بعد ثمانية أعوام على التهجير.
وفي المقابل، هناك من ينظر إلى زعيم "هيئة تحرير الشام" على أنه راديكالي متطرف منسلخ عن "القاعدة" لكنه لا يزال يحمل أفكارها، وكل ما يجري من "لطف" هو عبارة عن أمر مرحلي ريثما يستتب له الأمر... إذاً أين يقف الجولاني بين الفريقين وتاريخه وأهدافه من النسخة المحدثة من شخصيته التي أثارت جدلاً واسعاً خلال الفترة الماضية.
رسائل دبلوماسية
وهو يشاهد فيديو على جوال بيده لتصريحات رئيس الوزراء العراقي محمد شياع السوداني بخصوص محادثة هاتفية أجراها مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، ظهر أحمد الشرع (الاسم الأصلي للجولاني) موجهاً رسالة بلغة دبلوماسية للسوداني يدعوه فيها إلى عدم التدخل في الشؤون السورية، "فهذه ثورة ضد نظام الأسد، وما نقوم به هو استرداد للحقوق، ونريد علاقات جيدة مع العراق وشعبه".
كلمة الجولاني هذه تزامنت مع سيطرة "هيئة تحرير الشام" والفصائل التي تقاتل معها على مدينة حماة الاستراتيجية، ليظهر بعدها بيان مقتضب للجولاني يقول فيه "مبروك النصر لحماة". بيان موقع باسم "القائد أحمد الشرع" ليكون هو الأول من نوعه الذي يحمل الاسم الحقيقي للجولاني، وسبق ذلك بدقائق قليلة أن قال الشرع "دخول حماة فتح لا ثأر فيه".
على أرض الميدان، يقول "المرصد السوري لحقوق الإنسان" ومنظمات حقوقية أخرى، إنه لم يسجل أي انتهاكات في حلب أو حماة أو أي من المناطق الأخرى التي سيطرت عليها الهيئة أخيراً، إلا أن اللافت هو طريقة دخول الفصائل لمدينة السلمية بريف حماة مساء أمس الخميس، فالمدينة ذات غالبية من الأقلية الإسماعيلية (إحدى الطوائف الشيعية) تحدث أهلها مع المعارضة المسلحة واتفقوا على أن يرحبوا بهم من دون قتال، وبالفعل لم تطلق رصاصة واحدة فيها سوى رصاص الاحتفال الذي أطلقه الأهالي أنفسهم.
ثلاثة سياقات
الصحافي السوري خالد جرعتلي تحدث لـ"اندبندنت عربية" عن أنه في "عام 2016 عندما خرجت فصائل المعارضة من حلب، وقف أبو محمد الجولاني أو أحمد الشرع كما صار يفضل أن يطلق على نفسه أخيراً على أطلال المدن المدمرة التي خرجت عن سيطرة فصائل المعارضة المتشرذمة حينذاك. كان أول ما فعله تغيير اسم "جبهة فتح الشام" لـ"هيئة تحرير الشام"، بسبب ارتباط الاسم الأول بـ"جيش الفتح" الذي خسر مناطق واسعة في حلب وإدلب وريف حماة".
وقال جرعتلي "بدأ الجولاني بإصلاحات داخلية مكنته لاحقاً من الحكم بمركزية شديدة أقصيت خلالها الفصائل التي من الممكن أن تشاركه في الحكم بمناطق سيطرة قواته، وجعلته متفرداً بالقرار لتكوين تسلسل أحداث قاد إلى ما نشاهده الآن".
وأوضح جرعتلي أن "استراتيجية الجولاني بنيت على ثلاثة سياقات أساسية، تسير كلها نحو المصب نفسه، وهو البحث عن قبول إقليمي ودولي، ولا يمكن حتى الآن الجزم فيما إذا كانت استراتيجيته نجحت أم لا. وهذه السياقات تتمثل في (أولاً) أنه في الوقت الذي بقي فيه بشار الأسد متعنتاً بالحفاظ على نظامه بشكله التقليدي واستمراره في انتهاك حقوق السوريين، وخصوصاً من اللاجئين العائدين، كان الجولاني يبني استراتيجيته، عسكرية للهجوم واجتماعية تهدف لطمأنة المدنيين على خلاف ما اعتمده الأسد، لبسط الاستقرار الذي ستتطلبه الظروف بعد العمليات العسكرية".
أما ثانياً، أن الجولاني كان يسعى باتجاه محو اسم جبهتي "النصرة" و"فتح الشام" من تاريخه، حتى إن هذه المحاذير كانت تظهر واضحة عند محاولات الصحافيين والإعلاميين ربط اسم "تحرير الشام" بالأسماء السابقة. وربما لم ينجح الجولاني بمحو هذه الأسماء قولاً لكنه نجح فعلاً، إذ تطورت أيديولوجيته سريعاً منذ ظهوره في أول مقابلة إعلامية عام 2013، وكان وجهه ملفوفاً بغطاء رأس داكن اللون، مروراً بأول بيان مصوّر له عندما غيّر لون غطاء رأسه للأبيض حتى ارتدائه للبدلة الرسمية في مقابلته مع الصحافي الأميركي مارتن سميث عام 2021. آنذاك قال "إن تصنيف الإرهابيين غير عادل... أعارض قتل الأبرياء".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفق الصحافي السوري خالد جرعتلي فإن السياق الثالث الذي سعى إليه الجولاني هو تكراره ومسؤولين في حكومة الإنقاذ التي شكلت مظلته السياسية والخدمية مصطلح "الكيان السني" في إشارة إلى المناطق التي يسيطر عليها.
ويرى أنه لا يمكن الجزم بأن "تحرير الشام كانت تقرأ سياق الأحداث وصولاً إلى حرب غزة ثم معارك لبنان، وأخيراً النقمة الغربية على إيران، لكن يمكن اعتبار هذا المصطلح (الكيان السني) طرح ليشكل حجر التوازن أمام التمدد الشيعي الذي تنامى مع مرور الأعوام، فلا يوجد أفضل من كيان سني معتدل لا يتبع سياسة (طالبان) في أفغانستان كانتهاء حقوق النساء والأقليات الدينية، وفي الوقت نفسه يشكل سداً يعزل إيران عن سوريا ولبنان".
ومضى في تحليله، "أعتقد أن الغرب يمكنه التفكير بالمعادلة من هذه الزاوية، هذا إن استمر الجولاني باتباع المنهجية نفسها. اعتدال في التعامل مع المكونات السورية وتشدد في محاربة الكيانات التي تدعمها إيران في سوريا. هذه الزاوية، يمكن من خلالها أن يلقى الجولاني قبولاً ليكون فاعلاً على الساحة السورية في المستقبل، ولا أقصد هنا بكلمة فاعل أن يكون بديلاً لبشار الأسد فهذا الطرح بعيد بعض الشيء، لكني أقصد فاعلاً بأن يترك ليتحكم بمسار الأحداث ولو موقتاً".
ديكتاتور براغماتي
أما من حيث احتمال قبوله على الصعيد الاجتماعي، يرى جرعتلي أن الجولاني "كان يواجه نقمة من حاضنته الشعبية بعد الهزائم التي تلقتها المعارضة بين عامي 2019 و2020، وأبرزها خسارة مدينتي سراقب ومعرة النعمان، ثم الوقوف من دون فعل شيء لأربعة أعوام، لكن المكاسب التي حققتها المعارضة اليوم مسحت هذه النقمة، إذ وعد باستعادة هذه المناطق وما بعدها، وصدق وعده. وعلى صعيد آخر كان ينظر له كشخص متطرف ترفضه المكونات التي تراه راديكالياً جاء ليقتص منها، لكن تعامله أخيراً مع أقليات حلب وحماة، وقبلها التطمينات التي قدمها لدروز إدلب، جعلت من حالة الرفض تخضع لتفكير كثيرين".
الدكتور عرابي عبدالحي عرابي الأكاديمي والباحث في الشأن السوري، يقول بدوره إن "أبو محمد الجولاني يظهر بخطاب جديد ويغير اسمه ولكن كانت هناك حالة اجتماعية ظهرت فيها هيئة تحرير الشام وطبعاً هناك تحولات كثيرة مر بها نفسه، سواء من ناحية مكانته أو تربيته بين عائلة (ناصرية) وأفراد يساريين من أسرته القومية في الأساس، وهي أجواء عاش خلالها حالة انتكاس بعد احتلال العراق ومثل الكثير من الشباب توجهوا إلى بلاد الرافدين للقتال، وهنا ساقته الأقدار واعتقل ووضع في السجن، وفي ذلك التقى بالعديد من القياديين المسلحين، وبعد خروجه من السجن بقي في العراق، وأصبح قريباً من قيادة تنظيم (داعش) الإرهابي وبعد ذلك أرسلوا إلى سوريا".
"تنظيم إسلامي" بنكهة سورية
يمضي الأكاديمي السوري عرابي في تحليله لشخصية الجولاني بقوله، "نعرف الحكاية عندما حاول تنظيم (داعش) أن يفرض مساراً معيناً على الثورة السورية فحصل انشقاق، والظروف جعلت (جبهة النصرة) تنقسم وبعد ذلك بايع الجولاني (القاعدة). ومن ثم انفك عنها وأسس تنظيماً مسلحاً بنكهة سورية إسلامية وهو هيئة تحرير الشام، وما أراه اليوم أن تلك الجماعة تعرضت للعديد من الانكسارات منذ مارس (آذار) 2020، ما جعلها تغير الكثير من أفكارها وسلوكيتها وأركانها".
ويقول، "الوجوه التي كانت متطرفة ومتشددة في هيئة تحرير الشام أقصيت عن المشهد وأبعدت من الوصول إلى العسكرة، وحرموا من وظائفهم سواء كان في القضاء أو في الدعوة وحتى في (الحسبة)، وألغيت الكثير من الوظائف التي كانت تعبر عن أيديولوجية معينة. ثم بعد ذلك حاول الجولاني أن يقدم نفسه كبديل محتمل أو شريك ممكن سواء كان في محاربة التنظيمات المتطرفة أو إقصائها أو تصفيتها. وفي النهاية الوصول إلى صيغة تعاون مشترك مع المجتمع الدولي للتوازن بداخل سوريا".
أما بخصوص احتمالية أن يتعامل معه المجتمع الدولي، فيقول عرابي "نعم أظن ذلك، لأن الجولاني الآن ليس أبو محمد وإنما هو أحمد الشرع، وهذه كناية أنه وضع الألقاب وراءه ويذهب باتجاه دولة المواطنة، وهذا ما أكدته بيانات الهيئة في الفترة الأخيرة، لتكون الهيئة ليست فصيلة وإنما مؤسسة حاولت جمع السوريين في جناحها وتبني وطناً بمشاركة الفصائل الأخرى ومشاركة جميع المكونات السورية".
ويختم عرابي حديثه بالقول، "لا أظن أن أحمد الشرع سيكون الزعيم المقبل لسوريا. من الممكن أن يكون مقبولاً في المجتمع الدولي، لكن لا أظن أنه سيكون رئيساً لسوريا في الأقل خلال الفترة المقبلة إذا حصل أي حل سياسي. الجولاني رجل دفاع وتخطيط وحنكة وإدراك ولذلك لم يقدم نفسه رئيساً للسوريين، وإنما سيقدم نفسه كجزء في آلة النظام المقبل إذا صح التعبير".