مع تآكل السيطرة الإيرانية على مجموعة مناطق استراتيجية في سوريا تتبدد قدرة طهران على الحفاظ على طريقها الحيوي في المنطقة (ا ف ب)
الوجود الإيراني العسكري في سوريا الذي بدأ قبل 12 عاماً، لم يعد هو نفسه اليوم، يجمع المحللون على هذا الكلام، وسط تساؤلات ما إذا كان هذا الوجود اليوم قد دخل فصله الأخير وبات على المجموعات الإيرانية الخروج تماماً من الأراضي السورية.
ففي ظل تصاعد الأحداث الميدانية في سوريا وتغير الخريطة العسكرية بصورة غير مسبوقة، يبدو أن المشروع الإيراني الذي قُتل من أجله قائد فيلق القدس قاسم سليماني بدأ يواجه تراجعاً كبيراً، إذ أصبح طريق "طهران-بيروت" مهدداً بفعل التغيرات الإقليمية، النقاط الإستراتيجية التي كانت تُعتبر ركيزة هذا المشروع تواجه تحديات غير مسبوقة، مع فقدان إيران السيطرة على نقاط رئيسة كانت تعتبر أساساً في مشروعها الإقليمي.
فما هي النقاط الأساسية لهذا الطريق، وما وضعها اليوم عسكرياً وسط التطورات المتسارعة؟
ثلاث مدن محورية
تعد مدينة البوكمال في محافظة دير الزور السورية والمحاذية للحدود العراقية، نقطة محورية في الخط الواصل بين طهران ودمشق، لكنها تواجه تغيرات ميدانية كبيرة بعد العمليات العسكرية التي نفذها "مجلس دير الزور العسكري" التابع لقوات سوريا الديمقراطية (قسد).
هذه العمليات أدت إلى السيطرة على سبع بلدات شمال المحافظة الواقعة على الضفة الشرقية لنهر الفرات، مما يعني أن المنطقة الممتدة هناك باتت خارج سيطرة الجيش السوري والميليشيات الإيرانية بصورة كاملة، وفق مصادر ميدانية.
أما لناحية مدينة تدمر في محافظة حمص، التي تُعتبر معبراً آمناً للميليشيات الإيرانية، بدأت تظهر فيها تغيرات كبيرة مع اقتراب الفصائل السورية المسلحة من حمص عبر محاور عدة، وبذلك ستتقلص قدرة إيران على استخدام تدمر كقاعدة عملياتية.
من تدمر إلى مدينة القصير المحاذية للبنان، التي تقع أيضاً في محافظة حمص، تعتبر هذه المدينة شريان "حزب الله" على الحدود، وهي قريبة من شرق مدينة الهرمل اللبنانية.
تشكل القصير نقطة حيوية لـ"حزب الله" نحو الداخل اللبناني، إذ يكشف مصدر عسكري أن هذه المدينة كانت نقطة إمداد نحو مناطق في البقاع مثل رأس بعلبك والنبي شيت، وكانت تُستخدم لنقل العتاد العسكري والذخائر عبر طرق سرية تشمل من ناحية سوريا مناطق جنتا وقرية الشعرة وصولاً إلى الزبداني ودمشق، أما اليوم ومع توسع العمليات العسكرية والضغوط الجوية، يتعرض هذا الشريان الإستراتيجي لضربات تهدد استمراريته.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في السياق، كشفت وكالة الصحافة الفرنسية قبل ساعات عن مصدر مقرب من "حزب الله" أن الأخير أرسل 2000 مقاتل إلى منطقة القصير.
أما التحديات فلا تقتصر فقط على العمليات الميدانية للفصائل السورية المسلحة، بل تشمل أيضاً الغارات الإسرائيلية المتزايدة التي استهدفت مواقع إيرانية وأخرى لـ"حزب الله" في مدينتي تدمر والقصير.
وقد أفادت تقارير صحافية إسرائيلية بأن هذه الغارات استهدفت مستودعات أسلحة ومراكز تجمعات، مما أضعف قدرة الميليشيات الإيرانية على التحرك بحرية.
ومع تآكل السيطرة الإيرانية على النقاط الإستراتيجية الثلاث، أي البوكمال وتدمر والقصير، تتبدد قدرة طهران على الحفاظ على طريقها الحيوي الواصل إلى المتوسط، وهذا التحول يهدد مشروع إيران الإقليمي، الذي كان يعتمد على استمرارية تدفق الإمدادات عبر العراق وسوريا وصولاً إلى لبنان.
إسقاط "نظام" الأسد
في سياق الضغوط التي يواجهها الوجود الإيراني في سوريا، يكشف مصدر دبلوماسي تركي (طلب عدم كشف اسمه) كواليس التحركات العسكرية المفاجئة التي بدأت من محافظة إدلب في الشمال السوري، ويؤكد أن التحضيرات للتطورات الأخيرة في سوريا بدأت منذ أكثر من عام، وكان من المقرر تنفيذها قبل خمسة أشهر، إلا أن تركيا طلبت من المعارضة السورية تأجيل التنفيذ إلى حين توفر الظروف الموائمة لضمان تحقيق أكبر قدر من الفائدة، وأكد أن العمليات بدأت فور التوصل إلى اتفاق وقف إطلاق النار في بيروت، مشيراً إلى أن المعارضة السورية تضم أكثر من 21 فصيلاً، بما في ذلك "الجيش الوطني السوري المعارض" المدعوم تركياً.
ويعتبر المصدر أن التحركات الحالية جاءت بموافقة دولية وضوء أخضر عربي، على حد قوله، مشيراً إلى تعيين السفير التركي لدى القاهرة مندوباً مراقباً دائماً في جامعة الدول العربية كدليل على ذلك، مضيفاً أن هذا القرار يعكس تغيّراً في المواقف الإقليمية، بالتزامن مع تقدم المعارضة السورية التي وصلت إلى مشارف مدينة حمص.
عن احتمال انتقال الأحداث إلى دول أخرى مجاورة مثل العراق ولبنان، ينفي المصدر صحة هذا الكلام مؤكداً أن التحركات تتركز داخل سوريا فقط وأن الهدف الأساس للعمليات هو إسقاط نظام بشار الأسد، وهو سيناريو يخدم المصالح الإستراتيجية التركية والعربية.
وأضاف أن تركيا تسعى إلى إعادة نحو 6 ملايين لاجئ سوري والدليل على هذا المسار هو إعادة 250 ألف سوري خلال الأسبوع الأول من العمليات والسيطرة على حلب، كاشفاً أن إيران رفضت دعوات تركيا لإشراك المعارضة في الحكم إلى جانب الأسد، مما زاد من تعقيد الوضع، فيما أبدت روسيا موافقة مبدئية على المبادرات التركية نظراً إلى المصالح المشتركة.
واعتبر أن التطورات في سوريا تحقق هدفين لتركيا: إحلال السلام وإعادة اللاجئين، وتقليص النفوذ الإيراني، وبخاصة على "الممر الإيراني" الذي يربط طهران بالعراق وسوريا ويؤدي إلى لبنان، بما يخدم أيضاً المصالح العربية والدولية.
في السياق نفسه قالت المتخصصة في شؤون الشرق الأوسط إيفا كولوريوتيس في تصريح إعلامي إن التطورات التي تشهدها الأراضي السورية "تدق بالفعل ناقوس الخطر في طهران، وتهدد مشروعها التوسعي في المنطقة"، وتستند بذلك إلى التحركات الدبلوماسية المكثفة لوزارة الخارجية الإيرانية"، معتبرة الخوف في طهران بات اليوم من توسع سيطرة الفصائل السورية المسلحة باتجاه دمشق، وسقوط نظام بشار الأسد بصورة دراماتيكية وهنا ستكون إيران الخاسر الأكبر، باعتبار أن هذه الخسارة سيمتد تأثيرها في لبنان وتحديداً "حزب الله" الذي سيعاني قطع خطوط إمداد عسكرية وبشرية.
تفكك "الهلال الشيعي"
سألنا مدير "المركز الجيوسياسي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا" نوفل ضو عن مقاربته لما يحصل في سوريا، فيجيب معتبراً أن الوضع مشابه لما جرى في أوروبا الشرقية عشية سقوط الاتحاد السوفياتي، ويقول "هناك منظومة إيرانية بدأت بالتداعي أمام نظام جديد يتشكل تدرجاً في المنطقة، وهناك قوى إقليمية، مثل تركيا وإسرائيل وبعض الأنظمة العربية، تسعى إلى الاستفادة من هذه التحولات".
وأكد أن الواقع على الأرض يشير إلى تفكك "الهلال الشيعي" الذي تحدث عنه الملك الأردني عبدالله الثاني عام 2004، إذ بات معبر "البوكمال"، الذي يُعد شرياناً إستراتيجياً لهذا الهلال، تحت سيطرة أميركا وقوات سوريا الديمقراطية، بينما تتعرض الحدود اللبنانية-السورية لضربات إسرائيلية متكررة.
أما إيران، التي تعد الحليف الأساس للنظام السوري، فتواجه تحديات هائلة مع الانهيار الداخلي للنظام في دمشق، كما أشار إلى أن روسيا، التي كانت الداعم الأساس لبشار الأسد، أظهرت تراجعاً في حماستها لدعم النظام، مما يؤكد إعادة خلط الأوراق على المستويين الإقليمي والدولي.
وتحدث ضو عن الفرص التي أتيحت للنظام السوري منذ 2018، مثل إعادة فتح سفارتي السعودية والإمارات لدى دمشق وإعادته إلى جامعة الدول العربية، معتبراً أنها لم تُستثمر بصورة جيدة، فيما يمثل النظام العربي الجديد المفتاح الأساس لأي حل في سوريا وفي المنطقة عموماً، كما يتعين على المجتمع الدولي العمل بصورة وثيقة مع دول الخليج لإيجاد مخرج للأزمة السورية.
القراءة العسكرية
يعتبر العميد المتقاعد هشام جابر أن سيطرة الفصائل المسلحة على معبر البوكمال بين سوريا والعراق والطريق البري الذي يربط دمشق ببيروت ستكون لها تداعيات كبيرة على الحزب، مشيراً إلى أن هذا الطريق يُعتبر شرياناً إستراتيجياً يربط إيران بالمتوسط.
وأوضح أن العلاقات بين لبنان وسوريا مترابطة بشدة، إذ تُعد سوريا "الرئة البرية الثانية للبنان"، بينما يمثل البحر المتوسط "الرئة الأولى"، وحذر من أن إغلاق المعابر الحدودية بين البلدين سيؤدي إلى شل حركة الشحن من لبنان إلى دول الخليج، مما يزيد الأعباء الاقتصادية.
واعتبر جابر أن احتمال تقسيم سوريا يمثل تهديداً مباشراً لاستقرار لبنان، قائلاً "إذا تعرضت سوريا للتقسيم، فإن لبنان لن يكون بمنأى عن هذا المصير". ودعا إلى اتخاذ خطوات استباقية لحماية البلاد من تداعيات الأوضاع المتوترة في سوريا، مؤكداً أهمية التنسيق الأمني والاستعداد لمواجهة أي سيناريو محتمل.
في المقابل يرى المتخصص العسكري والإستراتيجي العميد ناجي ملاعب أن الوضع في لبنان لا يبدو مهدداً بسبب التطورات في سوريا وتحديداً لناحية ظهور خلايا نائمة قد تنفذ عمليات أمنية، وأشاد بالإجراءات التي اتخذها الجيش اللبناني على الحدود مع سوريا، مشيراً إلى الانتشار المكثف للأفواج البرية والتدقيق في حركة العبور بين البلدين، واعتبر أن هذه التدابير تعكس جاهزية الأجهزة اللبنانية لمنع أي انعكاس مباشر للأحداث السورية على الداخل اللبناني.
يرى ملاعب أن الخطر الأكبر على لبنان يتمثل في تورط "حزب الله" في الحرب السورية، إذ أقام الحزب منشآت ومصالح إستراتيجية تمتد من قلب مدينة حمص إلى مدينة القصير وريف حمص، وتوقع ملاعب استمرار زحف مقاتلي المعارضة السورية نحو المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري وحلفاؤه، وبخاصة مع تراجع قدرات الجيش السوري وانهياراته المتتالية.
أكد أن التطورات الميدانية، مثل سيطرة القوات السورية الديمقراطية على منطقة دير الزور وقطع خطوط الإمداد القادمة من العراق، تعكس تحولاً جذرياً في ميزان القوى داخل سوريا.
وختم بالقول إن التحركات ستتوسع إلى مناطق أخرى، مع الإشارة إلى أن النظام السوري لم يعد يسيطر فعلياً سوى على دمشق وطرطوس واللاذقية، فيما الحل النهائي للأزمة السورية سيكون بيد الأميركيين والروس.