من يفوز بالحرب النووية؟

آخر تحديث 2024-12-11 15:00:06 - المصدر: اندبندنت عربية

هل بات العالم بالفعل على وشك الدخول في محرقة نووية لا تصد ولا ترد؟ (رويترز)

هل بات العالم فعلاً على وشك الدخول في محرقة نووية لا تصد ولا ترد؟ ترددت علامة الاستفهام المتقدمة هذه كثيراً في الأرجاء أخيراً، لا سيما بعد أن تم، وللمرة الأولى، استخدام صواريخ أميركية وأوروبية بعيدة المدى، من نوعية "أتاكمز" و"ستورم شادو"، لقصف أهداف مهمة في الداخل الروسي.

جاء الرد الروسي عبر صاروخ "أورشنيك" الباليستي بعيد المدى ليقطع بأن الرد الروسي حاضر على الطاولة، وأنه، هذه المرة، قد جاء بصورة تقليدية، غير أن ذلك لا يمنع أن يكون في المرة المقبلة على العكس من ذلك، أي يكون نووياً، حال تطلب الأمر بالفعل إذا اشتعلت الرؤوس الأميركية في لحظة من لحظات الغضب الجنوني.

 

اختبار صاروخ "أتاكمز" في كوريا الجنوبية (يونهاب/ رويترز)

يتساءل المراقبون "هل يمكن لهذه اللحظة أن تجيء بالفعل؟".

ربما كانت تصريحات الأميرال توماس بيو المتحدث باسم القيادة الاستراتيجية الأميركية عن إمكانية استخدام أميركا أسلحتها النووية إذا دعت الحاجة، لكن وفقاً لشروط معينة أكثر قبولاً بالنسبة لواشنطن، هي الدافع المخيف للبحث في احتمالات وقوع مثل تلك الحرب الكارثية. غير أن المثير وربما الخطر، هو حديث الجنرال بيو عما سماه "ضرورة توافر رصيد احتياط من الأسلحة النووية لدى أميركا، إذ تربح هذه الحرب مرة وإلى الأبد، عبر ضربات سريعة، مما يمكنها من الاستمرار في قيادة العالم".

يمكن للقارئ الحصيف أن يتساءل "هل هذا تصريح يتسم بالعقلانية؟ أم إنه بعيد عنها ويحلق في أجواء منبتة الصلة بعالم الصراعات النووية حيث لا يمكن لأحد في هذه الحرب أن يخرج منتصراً بحال من الأحوال؟

ربما يجب علينا قبل الغوص في تحليل المشهد النووي العالمي الإشارة إلى بيانات معهد "ستوكهولم" لأبحاث السلام التي تشير إلى امتلاك روسيا نحو 4500 رأس نووي، بينما تمتلك الولايات المتحدة نحو 3700 رأس نووي مما يعني أن فائض الهلاك النووي، إن جاز التعبير، يتوافر للروس وليس للأميركيين.

ما الذي يدعو إلى اليقين بأن الحرب النووية محتملة بصورة مخيفة؟

 

صاروخ "أورشنيك" الباليستي (غيتي)

أوكرانيا وحيازة النووي مجدداً

في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، ترددت في الأخبار الدولية أنباء عن نية واشنطن تزويد كييف بأسلحة نووية لمواجهة روسيا النووية.

هنا يتذكر العالم، كيف أن أوكرانيا، قد قامت بتفكيك ترسانتها النووية عام 1994، مقابل قرض أميركي زهيد لم يكن يتجاوز 400 مليون دولار، ويبدو أن القيادة الأوكرانية اليوم تعض أصابع الندم، من جراء فعلتها هذه، وتتساءل: هل كان للرئيس الروسي فلاديمير بوتين أن يقدم على استرجاع شبه جزيرة القرم من السيادة الأوكرانية أو يجرؤ على قضم مزيد من الأراضي الأوكرانية، لو كانت هناك ترسانة نووية لدى الأوكرانيين؟

 لم يعد التساؤل هو المهم، بل تعديل الأوضاع وتبديل الطباع هو الأهم، وربما وجدت فكرة الأسلحة النووية لأوكرانيا في لحظة بعينها جاذبية ما لدى المجمع الصناعي العسكري الأميركي، بل إن بعض الأسماء الأميركية المتميزة، ذات التاريخ في هذا السياق، شاركت في الترويج لتلك الأخبار.

وكاد العالم يصدق بالفعل أن واشنطن في طريقها لإرسال أسلحة نووية لأوكرانيا، لا سيما أنه في الـ19 من نوفمبر نفسه، أقرت روسيا عقيدة نووية محدثة، تنص على وجه الخصوص، "على أن أي عدوان عليها أو على دولة حليفة لها، باستخدام أسلحة نووية، يعد إعلان حرب يستدعي رداً رادعاً مماثلاً".

لا يعني ذلك أن موسكو راغبة في الذهاب إلى الحرب النووية، وخصوصاً في ظل ما تشير إليه الوثيقة من أن استخدام الأسلحة النووية هو إجراء متطرف لضمان أمن البلاد.

وعلى رغم نفي مصادر رسمية في واشنطن لمجلة "نيوزويك"، فكرة تسليم أسلحة نووية لكييف، فإن ذلك لم يمنع نائب رئيس مجلس الأمن القومي الروسي ديمتري ميدفيديف من القول، "المزحة الحزينة حول المجنون (الرئيس الأميركي جو بايدن)، الذي قرر أن يموت بصورة جميلة، آخذاً معه جزءاً كبيراً من الإنسانية تكاد تتحول إلى حقيقة".

هنا بدا ميدفيديف، وكأنه يقطع الطريق على مجرد التفكير في نقل أسلحة نووية إلى كييف، فقد رأى أن "مجرد التفكير في نقل الأسلحة النووية إلى نظام كييف يمكن اعتباره بمثابة إعداد لصراع نووي مع روسيا".

وفي وقت سابق، كانت صحيفة "نيويورك تايمز" قد أشار إلى أن بعض المسؤولين في الولايات المتحدة والدول الأوروبية قد اقترحوا فعلاً، إعادة الأسلحة النووية إلى كييف، لا سيما تلك التي تخلت عنها أوكرانيا بعد انهيار الاتحاد السوفياتي.

 

تأججت نيران الحديث عن النووي على خلفية المشهد السياسي الأميركي الداخلي، وبنوع خاص عقب هزيمة هاريس أمام ترمب (رويترز)

بايدن واتهامات بمغامرة كارثية

وتأججت نيران الحديث عن النووي على خلفية المشهد السياسي الأميركي الداخلي، وبنوع خاص عقب هزيمة المرشحة الديمقراطية كامالا هاريس، أمام المرشح الجمهوري دونالد ترمب وباكتساح.

هنا تساءلت بعض الأصوات: هل ينوي بايدن وقبل أن يغادر البيت الأبيض قلب المائدة النووية على العالم برمته ربما انتقاماً من حزبه أولاً الذي تنكر له من جهة، ومن الروس الذين أفسدوا ولايته بحرب لم تستطع واشنطن أن تحسمها حرباً أو سلماً خلال أعوام إدارته؟

من بين الأصوات التي وجهت الاتهامات لبايدن، ضابط الاستخبارات الأميركية المتقاعد سكوت ريتر الذي أعرب عن ثقته بأن الرئيس الأميركي جو بايدن قادر فعلاً على إشعال حرب نووية قبل تولي ترمب منصبه.

كتب ريتر في صفحته على "إكس"، "كانت كامالا هاريس ستدخلنا في حرب نووية مع روسيا في غضون عام، أما جو بايدن فسيقوم بذلك قبل 20 يناير (كانون الثاني) 2025".

ريتر الذي كشف زيف الولايات المتحدة في زمن الرئيس السابق جورج بوش الابن، حين اتهمت العراق بأنه يمتلك أسلحة دمار شامل، أشار إلى أن الشعب الأميركي أثبت في الانتخابات الرئاسية الأخيرة أنه ضد الحرب، لكن بايدن يتجاهل رأي الشعب ويصعد الصراع في أوكرانيا، وخلص إلى القول "سيصبح بايدن سبب موتنا".

هل ريتر متحيز ضد بايدن وإدارته، ولهذا تعرض لعسف من الأجهزة الأمنية الأميركية؟

ربما يمكن أن يكون ذلك كذلك، غير أن عضوة الكونغرس مارغوري تايلور غرين اعتبرت، في تصريحات لها، أن تزويد الرئيس المنتهية ولايته جو بايدن أوكرانيا بأسلحة نووية، فكرة مجنونة وغير دستورية، وقد تندرج في خانة الخيانة.

كتبت تايلور غرين في صفحتها على منصة "إكس"، "هذا جنون وغير دستوري تماماً، وربما ضرب من الخيانة".

غرين، بدورها، وكما فعل ريتر من قبل تساءلت عما إذا كان بايدن يريد بمثل هذه الصورة إشعال حرب نووية لتعطيل نقل السلطة إلى الرئيس المنتخب ترمب. على أن السؤال الأكثر حساسية "هل بايدن في حالة توازن عقلي تسمح له باتخاذ قرار خطر على هذا النحو، أم إن الأمر له علاقة بالدولة الأميركية العميقة، وهل تنوي فعلاً إشعال صراع نووي مع الروس؟

لا تبدو الإجابة حاضرة بالفعل، فهناك طبقات من الغموض تلف القرار النووي الأميركي، ولا يمكن التسليم بأن الجنرالات سيسمحون بالأمر لإدراكهم ماهية الحرب النووية، وما يمكن أن يجري حال الضغط على الزر النووي لصواريخ باليستية، وسواء انطلقت من كييف أم من واشنطن، ذلك أن الرد الروسي ساعتها لن يوفر الرد الجهنمي الذي يتوقعه كثر، وهو ما تقره العقيدة النووية الروسية الجديدة، التي أكدت أن أي تهديد خطر لسيادة روسيا أو سلامتها، بما في ذلك الهجوم باستخدام أسلحة تقليدية أو طائرات بجميع أنواعها بما في ذلك الطائرات المسيرة، قد يؤدي أيضاً إلى استخدام الأسلحة النووية.

هل التهديدات بتبادل الضربات النووية تكشف عن عمق الأزمة التي يعيشها عالمنا المعاصر، وهل يمكن للتهديدات المجردة أن تتحول إلى حقيقة قاتلة على الأرض عند لحظة بعينها من سخونة الرؤوس؟

 

اختارت روسيا - بوتين الرد على ساحة المعركة القائمة بدلاً من مهاجمة المصالح الغربية على مستوى العالم (رويترز)

بوتين لا يمزح والتهديدات واقعية

حتى وقت قريب، وتحديداً قبل أن يطلق الروس صاروخ "أورشنيك" على أوكرانيا، كان من الواضح أنه رسخ لدى الخبراء الأميركيين والأوروبيين يقين بأن القيصر يهدد ليس أكثر، وأنه عاجز عن تجاوز التهديدات الكلامية والوصول إلى حيز الفعل النووي. غير أن إقدامه على تفعيل أحد صواريخه الفرط صوتية المخيفة، ناهيك بتجهيزه بعض الأدوات الصاروخية الجهنمية مثل "الشيطان-2" وغيره ربما دعا البعض ليقين مغاير قوامه أن بوتين لا يمزح.

في الـ19 والـ21 من نوفمبر الماضي، تلقت منطقتا كورسك وبريانسك الروسيتان، ضربات صاروخية من "أتاكمز" الأميركي، و"ستورم شادو" البريطاني، مما وضع موسكو أمام معضلة، فإما أن ترد بقوة وتتخلى عن آمال السلام أو تبتلع كبرياءها وتنتظر شهرين، أي زمن الفترة الانتقالية قبل تولي ترمب السلطة في الداخل الأميركي .غير أنه ووفقاً لمنهجية بوتين الرجل الذي يزدهر على أساس أنه يفعل ما يقول فإنه لم يكن وارداً أن يسمح بمرور ضربة وإلا فإن صورة القوة الروسية ستتلطخ، وستفتقر تهديداتها للغرب إلى الصدقية، لذا كان لزاماً عليه أن يتصرف في الأقل من منطلق "احترام الذات".

اختارت روسيا - بوتين الرد على ساحة المعركة القائمة بدلاً من مهاجمة المصالح الغربية على مستوى العالم، وقد خدم إطلاق "أورشنيك" الباليستي متوسط المدى من دون رأس نووي على أوكرانيا الهدف المراد تحقيقه، إذ ظهرت القوة من دون الحاجة إلى إحداث أضرار جسيمية.

كان الإطلاق بمثابة تجربة مذهلة، وإن كانت محفوفة بالأخطار، وحقق نجاحاً باهراً، فقد اجتاز الصاروخ اختبار ظروف القتال، بعد أن وصل إلى وجهته المستهدفة في منشأة "بوجماش" للإنتاج العسكري في دنبيرو من دون اعتراض. ومن المشجع أن نظام الإنذار الروسي - الأميركي أثبت نجاحه. فقد أصدر مركز الحد من الأخطار النووية الروسي إشارة إخطار مسبق إلى نظيره الأميركي قبل 30 دقيقة من الإطلاق حتى يعرف نظام تتبع الصواريخ الأميركي أن مثل هذا الإطلاق غير نووي.

هل وصلت الرسالة إلى الدوائر الغربية عامة وإلى الولايات المتحدة الأميركية بنوع خاص؟

المؤكد أن ذلك حدث فعلاً، لا سيما بعد أن حذر بوتين من أن مزيداً من عمليات الإطلاق التجاري قد تتبع ذلك، اعتماداً على كيفية تصرف الغرب، في إشارة واضحة إلى دعوات بعض الساسة الأوروبيين لإرسال قواتهم إلى أوكرانيا. لكن وعلى رغم تبليغ الرسالة، لا تزال هناك دوائر في الداخل الأميركي تؤمن بأن واشنطن يمكنها الفوز في حرب نووية. كيف ذلك؟

الفوز من طريق هجوم مفاجئ

ولأن التيارات المحافظة الأميركية في حال مد جديدة في الداخل الأميركي، لذا كان من الطبيعي أن تعلو أصوات أخرى بالقول إن هناك إمكانية للفوز بالحرب النووية، حال بدأت الولايات المتحدة المعركة.

يكتب بن أوليرينشو الصحافي الأميركي الذي يعمل على شؤون الدفاع، عبر موقع "ناشيونال إنترست" الأميركي الشهير، تحت عنوان "10 أسباب تجعل الردع النووي فكرة سيئة" يقول "إن ضبط النفس من جانب الولايات المتحدة أمر من شأنه أن يقضي على الحافز الذي قد يدفع روسيا والصين إلى زيادة قدراتهما النووية، مما من شأنه أن يجنب سباق التسلح المكلف، يؤدي في أفضل الأحوال إلى الإلغاء الكامل للأسلحة النووية". هل يعني ذلك أن على واشنطن المضي قدماً في بناء ترسانة نووية أميركية استباقية؟

يستشهد أوليرينشو بما قاله وزير الدفاع الأميركي في زمن جيمي كارتر، هارولد براون، وقد كان ذلك في أوج الحرب الباردة، "عندما نبني يبنون، وعندما نتوقف يبنون"، بمعنى أنه في كل الأحوال ستمضي الصين وروسيا، وربما قوى نووية أخرى مثل كوريا الشمالية أو إيران مستقبلاً، في طريق مراكمة أسلحة نووية، سواء زادت أميركا في ترسانتها النووية أم لم تزد.

ويرى الصحافي الأميركي أن هذه الحقيقة لم تكن أكثر وضوحاً مما هي عليه اليوم، فعلى رغم ضبط النفس الشديد والمستمر من جانب الإدارات الأميركية المتعاقبة، انسحبت روسيا من معاهدة "ستارت" الجديدة، وهي المعاهدة الوحيدة المتبقية للحد من الأسلحة التي تحد من حجم قوة أي من القوى النووية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

هل مخاوف الولايات المتحدة من روسيا النووية فحسب؟

قطعاً لا، ذلك أن الصين التي لم تكن طرفاً في أي معاهدة للحد من الأسلحة في المقام الأول، فقد عملت على توسيع قوتها النووية بوتيرة سريعة. ولا يوجد دليل على أن القيود الأحادية الجانب المفروضة على القوات الأميركية أدت إلى تغييرات متبادلة في البرامج الروسية أو الصينية.

هل يعني ذلك أن المبادأة بضربة نووية استباقية يمكن أن تجعل واشنطن تفوز في مثل هذه الحرب؟

يقر كاتب مقال "ناشيونال إنترست"، بأنه نعم، من الممكن الفوز في حرب نووية، على نحو مطلق وليس نسبياً، لكن يبقى هناك احتمال للخسارة على حد قوله. غير أنه ولتأكيد الفوز، وهو ما يحلم به عتاة اليمين الأميركي، فإن الطريقة الأكثر فاعلية للفوز هي شن هجوم مفاجئ يشل قدرة العدو على الرد، لكن نظراً إلى التقشف الشديد الذي أعاق نظام القيادة والسيطرة في أميركا، فإن خطر مثل هذا الهجوم أصبح شديداً بالفعل. هل من طريق آخر لتوكيد الفوز النووي؟

الطريقة الثانية للفوز التي يقدمها غلاة العسكريين الأميركيين المتشددين إلى حد الجنون النووي تتمثل في تمدير مجموعة من الأهداف المحدودة (على سبيل المثال القوات النووية المعادية، أو القوات العسكرية المعادية في الجبهة، أو القواعد العسكرية الرئيسة خلف الجبهة، وربما الثلاثة معاً) مع الاحتفاظ باحتياط آمن لردع العدو عن إطلاق كل أسلحته رداً على ذلك.

وباستخدام الأسلحة الحديثة الدقيقة ذات العائد المتغير، من الممكن تماماً استخدام الأسلحة النووية لتحقيق تأثير حاسم على الخطوط الأمامية من دون وقوع خسائر بشرية أكثر مما قد يتوقع من الاستخدام الواسع للمتفجرات العالية.

هل يمكن أن يكون لهذا السيناريو مستقبل حقيقي على الأرض من غير رد كارثي مهلك من على الجانب الآخر؟

اليد المميتة... استراتيجية روسيا القاتلة

المؤكد أن روسيا لديها نظام نووي مما خلفه الاتحاد السوفياتي، وتم تطويره خلال العقود الثلاثة الماضية، بالضبط كما الحال مع عدد من التكنولوجيا العسكرية المتقدمة الأخرى ضمن سباق التسلح، مثل تطوير غاز الأعصاب "نوفيتشوك" وأكبر سلاح نووي في العالم وجهاز يوم القيامة الروسي.

لم يكن للعلماء السوفيات أن يغفلوا احتمال الجنون الغربي عند لحظة بعينها، الذي يمكن أن يتمثل في توجيه مئات أو بضع آلاف من الرؤوس النووية للمواقع العسكرية النووية الخاصة في روسيا أو غيرها من الجمهوريات السوفياتية التي تنتشر فيها الرؤوس النووية، وهو نظرياً أمر يمكن أن يهدد بالإبادة التامة والشاملة لكل الكائنات الحية في تلك المناطق، من بشر ونبات وحيوان، أما الجماد، فسيتم صهره في درجات حرارة تمثل الجحيم بعينه.

في هذا الصدد فكر العلماء السوفيات في طريقة يربطون بها نحو 1600 سلاح نووي تكتيكي، إضافة إلى 2400 سلاح نووي استراتيجي، وهذه هي الأرقام المعلن عنها رسمياً، مما يعني احتمال وجود رؤوس أخرى غير مدرجة على القوائم العلنية، هذه وتلك يتم ربطها بنظام تحكم أوتوماتيكي يسمى نظام اليد القاتلة أو المميتة.

كيف تعمل هذه الآلية المهلكة للزرع والضرع؟

باختصار، ومن غير توسع في الشروحات العسكرية الاستراتيجية وميكانيزماتها، يعني هذا النظام أنه لو قام حلف "الناتو"، بتوجيه جل أو كل صواريخه النووية إلى روسيا في ضربة نووية قد تقضي على كل القوات المسلحة الروسية بالكامل، وكذلك القيادات العسكرية، ولم يتبق إلا ملايين من المواطنين العزل، الذين لا يملكون قدرة ما على المواجهة والمجابهة العسكرية، فإن نظام اليد القاتلة أو المميتة، يعمل على قياس المعدلات الحيوية في الهواء، بمعنى درجة حرارة الجو، وهل هي اعتيادية أم نووية، عطفاً على قياس مستوى الإشعاع في البيئة المحيطة، وحال لم تتلق هذه الآلية تعليمات مباشرة في وقت زمني محدد من القيادة العسكرية الروسية، فسيعني ذلك بالنسبة لهذه الآلية، أن جميع القائمين على القيادة النووية للبلاد قد تلقوا ضربة نووية مهلكة، ولهذا تقوم الصواريخ النووية الباليستية متوسطة وبعيدة المدى بالانطلاق مباشرة، بهدف إصابة أهداف عسكرية واستراتيجية محددة في الداخل الأميركي وفي أوروبا، ومن كل موقع أو موضع تم تحديده مباشرة عبر برامج "جي بي أس"، التي تظهر من أين انطلقت الهجمات النووية لتقضي، في المقابل على الأخضر واليابس دفعة واحدة.

يعرف الروس هذا النظام باسم "نظام بريميتر"، ويسميه الغرب "اليد المميتة أو القاتلة"، وبمزيد من الشرح فإن هذا النظام يطلق صاروخاً موجهاً مزوداً برأس حربي لاسلكي ينقل أوامر الإطلاق إلى الصوامع النووية الروسية، حتى في حال وجود تشويش لا سلكي، وقد دخل الخدمة بالفعل عام 1985، أي حين كان العالم على شفا حرب نووية بالفعل.

وعلى رغم أن الاتحاد السوفياتي لم يؤكد وجود مثل هذا النظام على الإطلاق، فإن الجنرال سيرغي كاراكاييف قائد قوات الصواريخ الاستراتيجية الروسية أكد وجود هذا النظام لصحيفة روسية عام 2011 بالقول، إن الولايات المتحدة يمكن تدميرها في 30 دقيقة، كما تشير وسائل الإعلام الروسية الرسمية إلى أن النظام تمت ترقيته ليشمل الإنذار المبكر بالرادار والصواريخ الروسية الجديدة التي تفوق سرعتها سرعة الصوت .

هل يمكن للصراع النووي أن ينتقل على مستوى مغاير للهجمات من البر عبر الصواريخ الاستراتيجية النووية مما يجعل من إمكانية فوز أي طرف في الحرب النووية العالمية وهماً بمطلقية المشهد؟

النووي الفضائي والنووي البحري

لم يعد الاستعداد للمواجهة النووية يجري فوق سطح الأرض فحسب، بل بات هناك محوران استراتيجيان آخران مرشحان بقوة لأن يلعبا دوراً رئيساً جوهرياً في تبادل الهجمات النووية.

 المحور الأول، هو ذاك الموصول بالفضاء الخارجي حيث بدأت تجارب عسكرة الفضاء من "الناتو" و"وارسو" في زمن الحرب الباردة، وبلغت المنافسة أوجها، حين بلورت إدارة الرئيس الأميركي رونالد ريغان برنامج حرب الكواكب، ولم يكن السوفيات أقل سعياً في المضمار عينه، لا سيما أنهم هم من سبقوا في الخروج من الأرض إلى الفضاء.

اليوم يبدو هذا السباق وقد ضم لاعبين جدداً، لا سيما الصينيين الذين يسعون إلى أن يكونوا بدورهم، رقماً مهماً في المعادلة النووية في القرن الـ21 والدليل ما التقطته الأقمار الاصطناعية من صور لصوامع تقترب من الألف تقوم بكين ببنائها لتشبه سوراً جديداً من الأسلحة النووية تحت الأرض وليس فوقها.

على أن المحور الثاني يكاد يكون من المحاور التي لا تقل أهمية في حال نشوب حرب نووية، وفحواه تجعل من فكرة الفوز النووي، أثراً بعد عين، ونقصد به المواجهات في المحيطات والبحار تلك التي تشكل 79 في المئة من مساحة الكرة الأرضية.

على الجانب الأميركي وعلى عكس الاعتقاد السائد، لم تكن الغواصات الحاملة للصواريخ الباليستية محصنة ضد الاختراق قط، واليوم ونظراً إلى ضعف صوامع الصواريخ الأميركية وإلغاء حال التأهب لدى القاذفات الأميركية، أصبحت الغواصات الحاملة للصواريخ الباليستية في البحر هي القوة النووية الأميركية الوحيدة التي قد تنجو من الضربة الأولى للعدو. وخلال الحرب الباردة نشر الجانبان السوفياتي والأميركي أصولاً مضادة للغواصات لتتبع الصواريخ المعادية بنية تدميرها قبل أن تتلقى الأمر بإطلاق النار في حالة الحرب.

في هذا المضمار نجحت الولايات المتحدة، وبصورة خاصة في تعقب الغواصات السوفياتية الحاملة للصواريخ الباليستية من دون أن تعلمها أبداً بأنها تتعرض للتعقب.

هل تأخر الروس كثيراً في عالم المواجهة النووية في البحار والمحيطات؟

يحتاج الجواب إلى قراءة مستقلة كاملة قائمة بذاتها، غير أنه تكفي الإشارة إلى مشهدين نووين بحريين روسيين:

الأول: يتعلق بأحدث غواصة نووية تابعة للبحرية الروسية الغواصة "جنراليسيمو سوفوروف" التي دخلت الخدمة عامة 2022 وتحمل ما يصل إلى 16 صاروخاً روسياً من طراز "بولافا" برؤوس نووية كفيلة بإبادة ولايات أميركية عدة حال وجهت نيرانها إليها.

الثاني: "سلاح يوم القيامة"، أو الطوربيد "بوسيدون" الروسي النووي، غير المأهول بالبشر والكفيل بحماية أمن روسيا لعقود قادمة.

ويعد "بوسيدون" بحسب ما جاء في مجلة "نيوزويك" الأميركية جزءاً من الجيل الجديد لترسانة الأسلحة النووية الروسية، وهو سلاح بحري استراتيجي قادر على حمل رؤوس نووية، والوصول إلى عمق السواحل الأميركية، وتدمير مدن بأكملها، من ثم يمكنه إشعال حرب نووية أو قل حرباً عالمية ثالثة إذا قررت روسيا استخدامه.

هل من فائز إذن بالحرب النووية؟

في أغسطس (آب) 2022، أي بعد خمسة أشهر من انطلاق الحرب الأوكرانية، تحدث الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في رسالة إلى المشاركين في مؤتمر حول معاهدة حظر الانتشار النووي بالقول، "إننا ننطلق من حقيقة مفادها بأنه لا يمكن أن يكون هناك فائزون في حرب نووية، ولا ينبغي إطلاق العنان لها، ونحن ندافع عن الأمن المتساوي وغر القابل للتجزئة لجميع أعضاء المجتمع الدولي".

كانت هذه الكلمة بمثابة رسالة طمأنة للآخرين، ومحاولة لتصوير روسيا قوة نووية عقلانية، وليست هوجاء أو مندفعة في طريق إشعال حرب عالمية. على أنه بعد نحو عامين وشهرين من تلك التصريحات، يبدو الموقف الروسي مختلفاً بالمطلق هذه الأيام، لا سيما بعد تجديد العقيدة النووية الروسية، وما يمكن أن نسميه جهوزيتها للمواجهة النووية المنفلتة.

هل تدفع التصريحات الأميركية المرتبكة تارة، والتوجهات العسكرية الاستفزازية تارة أخرى، روسيا إلى دائرة الفعل النووي؟

الجواب ليس يسيراً، لا سيما أن الفترة الانتقالية من الآن وحتى 20 يناير المقبل، أي موعد تنصيب الرئيس المنتحب دونالد ترمب تبدو مليئة بالفخاخ، وما من أحد قادر على التنبؤ بدقة وقوع الأحداث، وهل ينوي بايدن بالفعل أن يرحل في هدوء، أم إنه يريد أن يترك وراءه تاريخاً عالمياً مشوهاً، لينتقم من ترمب ومن الديمقراطيين، أو ربما يكون هناك فعلاً مَن وراءه في هذا المساق لتنفيذ أجندات تتسق ورؤية أميركا 2025 للجناح المتشدد من اليمين الذي يمثل الطبعة الثانية المحدثة من جماعة المحافظين الجدد؟