سوري يلوح بعلم حقبة الاستقلال في ساحة الأمويين بوسط دمشق، 11 ديسمبر 2024 (أ ف ب)
كان لافتاً الموقف الذي قدمه وزير الخارجية الإيراني عباس عراقجي حول التطورات التي شهدتها الأوضاع السورية والانهيار السريع للنظام وهروب رئيسه بشار الأسد تحت جنح الظلام، وأن الأسباب التي أدت إلى ذلك تعود لتخلي المؤسسة العسكرية عن دعمه نتيجة أسباب وعوامل متعددة ومتداخلة اقتصادية وسياسية وأداء الرئيس السوري وتعاطيه مع مطلب الحوار والتفاوض مع المعارضين، ملمحاً إلى حصول إيران بعد التغيير في سوريا على ضمانات بعدم تعرض الفصائل المسلحة للمقامات الدينية وأبناء الطائفة الشيعية السوريين.
هذه الضمانات التي تحدث عنها الوزير الإيراني، كانت إحدى نتائج اجتماع وزراء خارجية الدول الراعية لمسار أستانا (تركيا وروسيا وإيران) الذي عقد في الدوحة، ومن ثم تم التأكيد عليها خلال الاجتماع الموسع الذي جرى بين هذه الدول ووزراء خارجية الخماسية العربية المعنية بالوضع السوري (السعودية ومصر وقطر والأردن والعراق)، بالتالي فإن طهران لم يعُد أمامها سوى النأي بنفسها عن أي تدخل أو محاولة الوقوف بوجه العملية التغييرية، مؤكداً استعداد بلاده للتعامل مع القيادة الجديدة في دمشق بما يضمن لها الحد الأدنى من المصالح.
هذه السردية التي قدمها الوزير الإيراني في حديثه إلى مؤسسة الإذاعة والتلفزيون الرسمية بعد عودته من الدوحة عشية سقوط دمشق بيد المعارضين الذين تغيرت تسميتهم الرسمية الإيرانية من "جماعات إرهابية" إلى "مسلحي المعارضة"، تتناقض أو تتعارض مع السردية التي قدمتها منذ أكثر من 14 عاماً عندما قررت الدخول في الصراع مع المعارضة لمصلحة النظام، وأن القتال في دمشق هو بمثابة الدفاع عن طهران، وأن المهمة الأساس التي حشدت لها كل حلفائها في المنطقة من "حزب الله" اللبناني والفصائل من الحشد الشعبي والفاطميون والزينبيون (من باكستان وأفغانستان) كانت للدفاع عن المقامات الدينية والشيعة السوريين.
هذه الأسباب والدوافع، كانت المعلن والصريح للدوافع التي بنيت عليها السردية الرسمية، إلا أن ما أعلنته خلال أعوام النار السورية بالتقسيط عبر قيادات حرس الثورة وحلفائها خصوصاً اللبنانيين، كان يهدف إلى تأمين مصالحها الاستراتيجية التي تضمن لها دوراً إقليمياً ونفوذاً في الشرق الأوسط، يمكن توظيفه على طاولة التفاوض مع القوى والمجتمع الدوليين في أي تسويات مستقبلية، بخاصة بعد أن استطاعت بناء طوق النار حول إسرائيل وباتت قادرة على تهديد أمن تل أبيب واستقرارها، وحتى تحدي مشروعها التوسعي في الإقليم.
قد يقول بعضهم، خصوصاً في الإدارة الإيرانية إن الظروف والتحديات التي فرضت التدخل عام 2012، تختلف في معطياتها عن المرحلة الحالية والمستجدات التي برزت عام 2024. وقد يكون هذا الكلام مقبولاً، لكن ليس من منطلق المسوغات الإيرانية المعلنة، بل نتيجة التطورات التي شهدتها معركة "طوفان الأقصى" في شقها اللبناني بعد أن تحولت من معركة إسناد إلى حرب مباشرة بين إسرائيل و"حزب الله"، وما قامت به إسرائيل من اغتيال قيادات الصف الأول والثاني وجزء من الصف الثالث في هرمية القيادة في "حزب الله" وفي مقدمتهم الأمين العام للحزب حسن نصرالله والقيادات العسكرية، فضلاً عن خسارة إيران لكل ضباط حرس الثورة الذين تولوا مهمة المتابعة ومواكبة التعاون بين طهران و"حزب الله" في لبنان جراء عمليات الاستهداف والاغتيال التي قامت بها إسرائيل داخل الأراضي السورية.
إلا أن ما لا تقوله هذه القيادة، ولا تفصح عنه الدبلوماسية الإيرانية، إن معادلة جديدة قد فرضت عليها نتيجة هذه السلسلة من الأحداث، دفعتها إلى حد الإجبار على إعادة النظر في كل المواقف والإجراءات الممكنة أو التي قد تكون على جدول أفعالها من أجل الدفاع عن مصالحها في سوريا، بالتالي إسقاط خيار التدخل المباشر أو العودة لسياسة الدعم للحفاظ على النظام السوري والتصدي لمشروع الفصائل المسلحة.
وبعيداً من سردية قد يتم تداولها بعيداً من الإعلام والإعلان بين القيادات الإيرانية والتي تتحدث عن مسؤولية الأسد في حصول هذا الانهيار عندما قرر الابتعاد من طهران، إلا أن أسباباً أكثر تعقيداً دفعت هذه القيادة والنظام إلى اتخاذ مثل هذا القرار وعدم التدخل، أولها يرتبط بالتداعيات السلبية التي حصلت على مدى 14 شهراً من معركة "طوفان الأقصى"، وأن التحول الجذري حصل بعد اغتيال الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني الذي كان يشكل "عمود خيمة" محور المقاومة ووحدة الساحات، وأن خسارته بالنسبة إلى طهران ومشروعها الإقليمي كانت أقسى وأشد تأثيراً من خسارتها لقائد قوة القدس قاسم سليماني فجر الثالث من ينار (كانون ثاني) عام 2020 في بغداد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
إن الانسحاب في هذا الوقت يعتبر مناسباً وضرورياً للحفاظ على ما بقي من قوة وقدرات قتالية لدى هذا الحزب، بخاصة بعد ما تعرض له من خسائر قاسية وصعبة جراء المواجهة القاسية التي خاضها مع إسرائيل على مدى 75 يوماً وما انتهت إليه من مساعي للعودة لتطبيق القرار الدولي رقم 1701 الذي رعى عملية وقف إطلاق النار في حرب (تموز) عام 2006.
والانكشاف الإيراني لا يقتصر فحسب على الجانب العسكري المرتبط بالحلفاء، خصوصاً على الساحة اللبنانية، إضافة إلى ما وصل إليه من قناعة بصعوبة الاحتفاظ بالأسد ونظامه، بل يمتد أيضاً إلى الداخل الإيراني وما قد يواجهه من أخطار أمنية خارجية وداخلية. فالاستمرار أو التمسك بسوريا والعودة لدوامة الحرب فيها لم يعُد مضمون النتائج، وأن تداعيات مثل هذا القرار قد تضع الجغرافيا الإيرانية في دائرة النار والخطر، وقد تواجه تهديداً بحرب مباشرة سعت على مدى الأشهر الماضية إلى الابتعاد منها والنأي عن نارها.
يضاف إلى هذه المخاوف، ما يعانيه الداخل من أزمات اقتصادية ومعيشية معقدة جعلت المجتمع الإيراني يقف على حافة الانفجار والانهيار الذي يهدد استقرار النظام وبقاءه، بخاصة الاحتجاجات التي انفجرت بعد مقتل الفتاة مهسا أميني، وتحولت إلى تحدٍّ حقيقي للنظام ووضعته في دائرة الخطر المحدق، إلى جانب مستوى عالٍ من التململ بين جماعات قومية ودينية في محافظات الأطراف (خوزستان وكردستان وسيستان وبلوشستان وأذربيجان)، وما زالت تبعاتها موجودة إلى الآن.
وإذا ما كانت الحكومة الجديدة التي يقودها الإصلاحي المحافظ مسعود بزشكيان تبذل جهوداً كبيرة من أجل معالجة الأزمات الاقتصادية المعقدة التي ورثتها من سلفها إبراهيم رئيسي، فإنها تدرك أن المخرج لهذه الحلول يمر فقط عن طريق العودة للحوار حول أزمتها الأساسية مع المجتمع الدولي حول الملف النووي الذي يشكل حله مفتاح الخروج من تأثيرات العقوبات الاقتصادية الخانقة التي تعانيها وتشل الاقتصاد الإيراني وتفشل أي عملية لإعادة ترميمه، وأن عدم حصول هذا الحوار قد يعني انفجاراً داخلياً، كثيراً ما حذر منه كثير من المسؤولين ونواب البرلمان من مختلف التوجهات السياسية المحافظة والإصلاحية.
هذا الإدراك لدى النظام لحجم التحديات والتهديد الوجودي الذي يشعر به، سواء التهديد العسكري الناتج من الحرب التي تشهدها المنطقة والتحولات المرافقة لها، أو نتيجة حساسية الوضع الداخلي وإمكان تفاقمه ذاتياً أو بمساعدة العوامل الإقليمية، دفع عدداً كبيراً من المسؤولين وبعض المرجعيات الدينية في الحوزة الدينية بمدينة قم وعدداً من النواب المحافظين في لجنة الأمن القومي والسياسية الخارجية في البرلمان إلى مطالبة حكومة بزشكيان بالامتناع عن تنفيذ القانون الجديد الذي أقره البرلمان حول الحجاب والمعروف بقانون "العفاف والحجاب" لأنه سيشكل عامل تفجير في هذه المرحلة الدقيقة والحساسة، وقد يتحول إلى أزمة حقيقية ويكرس الثنائية والقطبية داخل المجتمع الإيراني، بالتالي قد يدفع النظام إلى مواجهة أخطار انفجار ويتحول إلى عامل مساعد للإطاحة به من دون أن تكون لا إسرائيل ولا أميركا بحاجة إلى التدخل المباشر.
هذه المخاوف لم تكُن مطروحة خلال الأعوام الماضية بهذه الحدة والحديث عنها يكشف عن مدى إحساس القيادة الإيرانية بدقة هذه المرحلة وحساسيتها، مما يفرض عليها السير بين النقاط حتى لا تقع في المحظور، بالتالي فإن خسارة حليف أو اثنين وأكثر وحتى أحد الرموز الدينية (الحجاب) قد لا تشكل فاجعة ما دام أن الهدف النهائي هو الحفاظ على أصل النظام واستمراره وبقائه.