منذ بدأت حرب القطاع وعلامات النصر تتشابك تشابكاً مميتاً على أرض المعركة (أ ف ب)
بينما الحروب مضطرمة والصراعات محتدمة، وحتى عقب انتهاء القتال على أرض المعركة وعودة الجيوش لثكناتها والمرتزقة لسابق أعمالهم والمدنيين ممن بقوا على قيد الحياة إلى ما بقي من بيوتهم، تلتبس مفاهيم ومشاعر واعتقادات النصر والهزيمة التباساً يجعل المنتصر يزهو بنصره ولو على جثامين آلاف وربما ملايين ممن فقدوا أرواحهم أو تبعثرت حياتهم، والمنهزم هزيمة نكراء يلوح بعلامة النصر ويطلق العنان لما يمكن إطلاقه من أدوات إصدار الصخب، وكأنه يقنع نفسه قبل أن يحاول إقناع الآخرين، بأنه عاد منصوراً مجبور الخاطر مهما نالت الخدوش من خاطره والجروح من حياته، حاضرها ومستقبلها.
مستقبل الصراع في الشرق الأوسط في أوج غموضه، ولذلك يبدو تداخل وتشابك وتضارب علامة النصر التي يلوّح بها الجميع، بمن في ذلك الواقفون على طرفي النقيض، أمراً متوقعاً وإن بدا غريباً للمتابعين.
منذ بدأت حرب القطاع الضروس في اليوم التالي لعملية "حماس" في السابع من أكتوبر (تشرين الأول) 2023 وعلامات النصر تتشابك تشابكاً مميتاً على أرض المعركة، أرض المعركة من بيوت مهدمة ومستشفيات خرجت عن الخدمة وأفران تجاهد من أجل الاستمرار في خبز حفنة من الأرغفة، ومدارس تحولت إلى مخيمات يجري قصفها، وكذلك شوارع في تل أبيب وجلسات الكنيست واجتماعات مقر الجيش، وأيضاً في تظاهرات داعمة لفلسطين وحق أهلها في الدولة والحياة، وأخرى داعمة لإسرائيل وما يهتف به المتظاهرون من دعم إسرائيل وحمايتها من أعداء السامية والهجمات الإرهابية، وجميعها يشهد تشابك السبابة والأوسط تشابكاً مميتاً.
التلويح بالإصبعين لإعلان النصر أو التظاهر به أو ادعائه قديم قدم تشرشل، فرفع السبابة والوسطى ينسب إلى رئيس وزراء بريطانيا الراحل ونستون تشرشل حين لوح بهما في إشارة إلى الانتصار في الحرب العالمية الثانية، وعلى رغم أنها بدأت ببث إذاعي لكن رمز النصر اجتاح أوروبا ومنها إلى بقية أرجاء العالم، وظلت تجوب مشارق الأرض ومغاربها إلى أن استقرت في مشارقها، وتحديداً في كل ما يتصل بالقضية الفلسطينية، حتى اعتقد بعضهم أن علامة النصر من ابتكارات القضية.
انتصار بملايين القتلى
يذكر أن الحرب العالمية الثانية التي يعود تأريخ علامة النصر لها كانت أكثر حروب الأرض عنفاً ودموية في تاريخ البشرية، ويقدر أعداد القتلى بين صفوف الجيوش بنحو 15 مليوناً، وبين المدنيين بنحو 38 مليوناً، وربما هذا ما يجعل بعضهم يفكر مرتين قبل التلويح بالسبابة والأوسط في سياق هذه الحرب، سواء أكان منتمياً إلى دول المحور أو متضامناً مع الحلفاء، أو حتى عابر سبيل مهتماً بمعرفة تاريخ الحروب.
البحث عن "علامة النصر" بالإنجليزية أو الفرنسية أو الألمانية أو غيرها من اللغات الجرمانية على صور محرك "غوغل" ينجم عنه كم هائل من صور تشرشل وإيموجي النصر وعروض لبيع وشراء صور نساء ورجال يلوحون بعلامة النصر على منتج ما، أو كترويج لعمل فني أو إنجاز أدبي.
وينقلب حال صور "غوغل" رأساً على عقب بكتابة "علامة النصر" باللغة العربية من قيادات "حماس" وأهل غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية، وتظاهرات الفلسطينيين والداعمين للقضية في ربوع الأرض، ومجسمات ومنحوتات في ميادين عربية، وغرافيت على جدران مدن وقرى عربية، والأدهى من ذلك كمّ مذهل من الصور لرجال ونساء وأطفال فلسطينيين يقفون على ركام الحرب، سواء الجارية رحاها أو السلسلة التي سبقتها، وهم يلوحون بعلامة النصر.
علامة النصر ليست مجرد سبابة ووسطى أو بالأحرى لم تعد كذلك، فقد باتت تحمل وتحتمل ما لا تحمله أو تحتمله باقي علامات البشر، فعلامة النصر التي يلوح بها القاتل والمقتول والمعتدي والمعتدى عليه والمنتصر والمنهزم تحمل بروباغاندا موجهة للداخل والخارج، وعلاجاً نفسياً وتطبيباً معنوياً وتضليلاً وحقيقة وتداخلاً في المفاهيم وتضارباً في التعريف، ولما يزيد على عام وأهل غزة يلوّحون بالنصر، فهنا مصاب يصارع من أجل البقاء على قيد الحياة يلوح بعلامة النصر، ومسن يقف على ركام بيته يلوح بعلامة النصر، ونازحون من الشمال إلى الجنوب يلوحون بعلامة النصر، وعائدون من الجنوب للشمال يلوحون بعلامة النصر، ومقصوفون في مدرسة "أونروا" يلوحون بعلامة النصر، ومصطفون في طابور مساعدات غذائية يلوحون بعلامة النصر، ومشيعون لجثامين ذويهم يلوحون بعلامة النصر، وبالطبع قيادات "حماس" تلوح بعلامة النصر قبل وبعد وأثناء الاغتيالات المستهدفة لهم هنا وهناك.
في المقابل يلوح الجنود الإسرائيليون منذ بدء حرب القطاع بعلامات توحي بالنصر، وربما علامة حرف الـ "V" بالسبابة والوسطى ليست الأكثر انتشاراً، لكن قبضات اليد وعلامة القوة والهيمنة والسيطرة يجري التلويح بها بصورة أكبر، ومن على ظهر الدبابات وفي أثناء إطلاق المسيرات وبعد دك المدارس والمستشفيات والبيوت يلوحون بعلامات النصر، سواء كانت قبضة أو إصبعين.
واللافت أن كتابات ودراسات عدة صدرت من المنطقة العربية طوال العقود السبعة الماضية عن النصر وعلامته وإصبعيه، وكيف تحوّلت العلامة والتلويح إلى سلاح ردع وأداة تخويف تؤرق إسرائيل؟
إنها علامة ارتبطت في أذهان الأكبر سناً بالزعيم الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، وعلى رغم رحيله قبل عقدين كاملين فإن الصورة الذهنية المرتبطة به لا تخلو من إصبعيه السبابة والوسطى ملوحاً بالنصر أينما ذهب، وبغض النظر عن المكان والظرف والإنجاز فربما يكون الرجل الأكثر تلويحاً بعلامة النصر في التاريخ.
التاريخ ممتد إلى الحاضر وكذلك الجغرافيا، جغرافيا المنطقة العربية المتاخمة لبعضها بعضاً ألقت بظلال التلويح بعلامة النصر بصورة مكثفة ومثيرة للارتباك خلال الأسابيع القليلة الماضية، حين جرى نقل كفة الأحداث ووجهة الكارثة وقبلة الحرب من غزة إلى "حزب الله"، ووجد لبنان، ولا سيما الجنوب نفسه، لاعباً أو ملعوباً به في حرب القطاع التي انتقلت معها علامة النصر بالتباساتها وتشابكاتها وتعريفاتها المبهمة وأحياناً المتناقضة.
نصر النازحين
وبينما ينزح سكان الجنوب من قراهم ومدنهم في جنوب لبنان، ظهرت علامة النصر يلوح بها نازحون متوجهون صوب المجهول، فلم تكن تفاصيل هذا الفصل من الحرب قد اتضحت بعد، ولم تكن وجهة النازحين قد تحددت بعد، وعلى رغم ذلك لوحوا بعلامة النصر.
لوح بها أيضاً، وكذلك بقبضات اليد القوية، الجنود الإسرائيليون، ومواطنون إسرائيليون بمن في ذلك من أجبرتهم السلطات الإسرائيلية على إخلاء مستوطنات شمال إسرائيل، والجميع يلوح بعلامة النصر في هذا الفصل من حرب القطاع، ولسان حال كل يد موجهة إما إلى النفس تأكيداً على الانتصار على رغم صعوبة الموقف، أو إلى العدو أملاً في ترهيبه وعملاً على إضعاف معنوياته وتفتيت تماسكه.
علامة النصر متنازع عليها، والنزاع مكتوم لكن رسائله حادة، والتلويح للجميع، لكن بين الملوحين من يثير الدهشة لاعتقاده أنه منتصر، ومن يتسبب في صدمة لأنه وإن انتصر فإن نصره قائم على جثامين ومصائب الملايين، ناهيك عن احتمالات أن يكون نصراً بطعم مصائب تلوح في أفق المنطقة برمتها.
والمنطقة موعودة باستدامة التلويح بعلامة النصر، فقد جرى الاتفاق على وقف إطلاق النار في جنوب لبنان، فلملم أهل الجنوب متعلقاتهم، وطوال الطريق صوب بيوتهم، ما بقي منها وما تهدم، يلوح كثير منهم بعلامة النصر، وإذا كان خبراء علم النفس والاجتماع وحتى الحروب يرجحون أن إقناع النفس بالانتصار أو تحقيق الإنجاز أو التفوق على الآخرين أحياناً يكون سلاحاً لا بد منه، وعلاجاً مطلوباً في أوقات الشدائد والأزمات، فإن إصدار بيانات النصر في حالات قد تشي بالعكس أو في وسط المعارك قبل أن يتبين خيط الانتصار من خيط الهزيمة، لا تزال تحير علماء تحليل النفس والسياسة.
قبل أيام وأثناء عودة النازحين اللبنانيين للجنوب، أصدر "حزب الله" بياناً سمّاه بعضهم "بيان النصر"، وجاء فيه أن الحزب تمكن من تحقيق النصر ل ما يزيد على 13 شهراً على "العدو الواهم"، ووجّه كلماته إلى جمهوره قائلاً إن "النصر كان حليف القضية الحقة التي احتضنتموها وحملتموها عائدين لقراكم وبيوتكم بشموخ وعنفوان".
الراحة النفسية
ما تحتاجه ثقافات وتركيبات نفسية وتاريخية لتشعر بالارتياح أو تكتسب الثقة أو تتمسك بالأمل يختلف باختلاف الثقافة والتنشئة والانتماء والأيديولوجيا، وهناك إعلان قديم كان يؤكد أن "راحة الجسم تبدأ من القدمين"، لكن الأوضاع الحديثة تقول إن راحة النفس ربما تكمن في إصبعين.
وإذا كان التلويح المفرط بعلامات النصر يمد بعضهم بالراحة أو يُكسب ساسة وقتاً ثميناً لاستعادة الثقة أو القوة أو كليهما، أو هو الأوكسجين الذي يبقيهم على قيد الحياة، فإن آخرين يصدرون دراسات وأوراق توجه إلى شعوبهم والشعوب الصديقة تعطي الشعور نفسه.
وقبل أيام قليلة أصدر "معهد دراسة الحرب" ورقة عنوانها "انتصار إسرائيل في لبنان"، جاء فيها "لقد هزمت العمليات الإسرائيلية في لبنان 'حزب الله' وأجبرته على إنهاء مشاركته في حرب السابع من أكتوبر في الـ 26 من نوفمبر، توصلت إسرائيل و'حزب الله' إلى اتفاق لوقف إطلاق النار أنهى هجمات 'حزب الله' على إسرائيل، وألزم الجماعة بنزع سلاحها في جنوب لبنان، وهذه الشروط تحقق الهدف المعلن من إسرائيل لحربها والمتمثل في إعادة المواطنين النازحين إلى ديارهم شمال إسرائيل بأمان، يضمن وقف إطلاق النار حق إسرائيل في الدفاع عن النفس ضد أي تهديد مستقبلي قد يشكله 'حزب الله' أيضاً، ومن جهة أخرى تدهور حال 'حزب الله' بشدة وفشل في تحقيق هدف الحرب المعلن المتمثل في إجبار إسرائيل على قبول وقف إطلاق النار في الجنوب".
التلويح بالنصر عبر الأوراق والمستندات ليس غريباً، واعتماد الإعلام التقليدي واستعانة الإعلام غير التقليدي بما يرد في الأوراق البحثية الصادرة عن المراكز التي تحمل أسماء معروفة له مفعول السحر لدى المتلقي الباحث عن معلومة أو تحليل أو بيان يؤكد له أنه قابع على جبهة المنتصرين.
جبهات المنتصرين تزدحم بالواقفين عليها وأنهم المنتصرون المختلفون في ما بينهم على توزيع دوري النصر والهزيمة، وعلى رغم اختلاف الجسامة فإن المتهم القابع في القفص حين يلوّح بعلامة النصر في وجود القاضي وأسرة الضحية وأهله وذويه، إنما يرسل رسائل لنفسه وللآخرين لا تختلف كثيراً عن علامات النصر المتنازع عليها بين الدول والكيانات المتحاربة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الطلاق والنصر
وكذلك حال الرجل الذي طلق زوجته للتو وادعى الفقر ليحرمها من حقوقها المادية وخرج من قاعة "محكمة الأسرة ملوحاً بعلامة النصر"، ثم تتبعه طليقته ملوحة هي الأخرى بعلامة النصر بعد وعد المحامي لها بأنه له بالمرصاد، وسيأتي لها بأكثر من حقها وحق أولادها، وذلك على رغم علم الزوجين أن نصر هذا أو هزيمة هذه يدفع ثمنهما الأبناء في كل الحالات.
حال التلويح بالنصر أشبه بالوباء حين اعتادت الطواقم الطبية التي ضلعت في محاربة وباء كورونا ورعاية المرضى والعمل لساعات طويلة لا يحتملها بشر التلويح بعلامة النصر، وكانت الرسالة تصل مباشرة إلى الملايين، فكانت رسالة الأمل في خضم الوباء.
والأمل الجماعي للنصر على العدو، سواء كان دولة معادية أو جماعة شريرة أو وباء قاتلاً، سمة من سمات البشر تغذيه علامة يلوح بها بعضهم في الهواء، أو بيان يطلق عليه بيان النصر المبين، أو دراسة تعتبر نتيجة الصراع محسومة لمصلحة طرف دون آخر، أو ماكينة بروباغاندا موجهة للداخل لحمايته من الانهيار وللخارج من باب "العيار الذي لا يصيب فيدوش، أي يثير صوتاً صاخباً".
وعلامة النصر ليست وحدها المختلف عليها، لكن حتى الأمل الجماعي يجد نفسه في أوضاع المنطقة المحتدمة متهماً، وتحذر دراسة صادرة عن قسم علم النفس في جامعة كوبنهاغن عنوانها "الأمل في النصر قد يعرقل السلام" (2024) من أن الأمل الجماعي في الانتصار لا يعني تحقيق السلام في الصراعات المسلحة، لكنه يعني إلحاق الهزيمة بالعدو.
وتشير الدراسة إلى أن أمل النصر مثلاً لدى الإسرائيليين منذ أعوام مرتبط بدعم أكبر لسياسات الحرب المبالغ فيها وليس في تحقيق السلام، ويشير الصراع العربي - الإسرائيلي، بحسب الدراسة، إلى شيوع أصحاب "الأمل المزدوج"، وهو الأمل الذي يتمنى الوصول إلى السلام الذي لا يهدد الأسر والمجتمع بالويلات والمصائب، لكن في الوقت نفسه هناك حاجة إلى التأكيد على الحقوق التي يعتبرها الطرف الآخر إما احتلالاً أو إرهاباً، إضافة إلى الحاجة النفسية لإشهار النصر والتلذذ به.
التلويح الأحدث بعلامة النصر في المنطقة يدور حالياً في سوريا، ومقاتلو الميليشيات المسلحة المعروفة إعلامياً بـ "المعارضة المسلحة" يلوحون بعلامة النصر بعدما هرب الأسد وسقط نظامه، وكان جنود الجيش السوري يظهرون كذلك في مقاطع مصورة وهم يلوحون بعلامة النصر، لتبقى علامة النصر محيرة لكثيرين وعلاجاً نفسياً لآخرين، وأداة تسويق سياسي لبعضهم وترهيباً معنوياً لبعضهم الآخر، وعلامة تحتمل الصواب والدقة بقدر احتمالها الخطأ والضبابية نفسيهما، وعموماً فالانتصار النفسي أحياناً يكون أكثر أهمية من الانتصار المادي، أي أن الشعور بالانتصار قد يكون طوق نجاة لبعضهم حتى وإن كان مصيره الغرق.