بقايا جوبر المدمرة مع عودة السكان إليها (بيل ترو/ اندبندنت)
تسير على الطريق الرئيس السريع شمال دمشق، فتطالعك من الجانبين هياكل المباني المدمرة الممتدة أميالاً طويلة- كأنها معلم قاتم يذكّرك بإحدى أعتى المعارك التي دارت بين قوات بشار الأسد والثوار عند انطلاق الثورة منذ أكثر من 10 أعوام.
لم يتمكن أي من سكان جوبر- قلب الثورة في وقت من الأوقات- من العودة لديارهم أو إعادة بنائها مع تواصل فصول الحرب الأهلية في سوريا، حتى بعد إعادة فرض النظام سيطرته على المنطقة.
والآن، بعد هزيمة الأسد المذهلة، تنقب العائلات التي كان بعضها قد فر إلى خارج البلاد، بين الركام الأسمنت المتناثر الذي كان ذات يوم من الأيام دوراً تؤويها. وتجتمع الأسر عند مقبرة جوبر الرئيسة المدمرة للمشاركة في أول جنازة تقام هنا منذ 13 عاماً.
ويقول أيمن عبش، وعمره 54 سنة، وهو يقف مذهولاً وسط ركام منزله والغبار يلفه "سنضطر إلى إعادة البناء من الصفر". سُجن الرجل عام 2011 على يد النظام وقبع سنتين وراء القضبان بعد أن لُفّقت له تهم "الإرهاب" بسبب مشاركته في التظاهرات التي خرجت في المنطقة.
"كانت المنطقة تحت الحصار ووتيرة القصف لا تهدأ. كنا مضطرين إلى الاختباء في أقبية منازلنا".
"استخدمونا كساحة اختبار لكل أنواع الأسلحة التي يمتلكونها... هذه أول مرة آتي إلى هنا وأرى المكان. وهو مدمر بالكامل".
تشكل ضخامة الدمار الحاصل هنا تذكيراً قاسياً بالتحديات الهائلة التي تواجه سوريا الآن، تلك الدولة التي سيتعين عليها أن تنفض عنها غبار أكثر من 50 عاماً من حكم عائلة الأسد تخللتها أكثر من 10 أعوام من الحرب الأهلية يضاف إليها الانهيار الاقتصادي التام الذي شهدته خلال السنوات الأخيرة.
وهذا هو محور النقاشات التي تدور في طوابير الخبز الطويلة المنتشرة في كل أرجاء العاصمة.
وتقول سيدة في معرض شرحها مصاعب الشتاء ونقص الخبز "نحصل على ساعة أو ساعتين من الكهرباء يومياً". فتضيف أخرى "نأمل في أن تتغير الحال".
قبل خمسة أعوام مضت، وصلت كلفة إعادة إعمار سوريا بحسب تقديرات الخبراء إلى 400 مليار دولار (313 مليار جنيه)- وهو رقم أضخم بكثير من الموازنة الحكومية السنوية السابقة قبل انهيار النظام.
لكن لا أحد يعلم كم تبلغ كلفة إعادة الإعمار الآن.
فإعادة إعمار البلاد مهمة جسيمة بعد حرب دموية ذهب ضحيتها مئات آلاف القتلى- وأسفرت عن أكبر أزمة لجوء وتهجير في التاريخ الحديث. فقد سوّى القصف مدناً وأحياء مثل جوبر بالأرض، وأفرغت مساحات شاسعة من الأرياف من سكانها فيما أطيح الاقتصاد بفعل العقوبات الدولية التي لم ترفع بعد. وما زال ملايين اللاجئين يعيشون داخل المخيمات في بلدان مختلفة.
والآن، تدير البلاد على ما يبدو مجموعة خاصة من قوات المعارضة بقيادة "هيئة تحرير الشام"، أي الجماعة الإسلاموية التي كانت قد بايعت تنظيم "القاعدة" في السابق إنما قضت أعواماً في محاولة النأي بنفسها عن ماضيها "الجهادي". والآن يلقى المرء مقاتليها في الشوارع، حيث يعمل بعضهم على إدارة السير أحياناً. وقد كلفوا مهمة إحلال السلام وإدارة مساعي توحيد أحد أكثر المجتمعات انقساماً في الشرق الأوسط.
وقد وُضع هذا العبء على كاهل محمد البشير، الرجل الذي كلفه زعيم "هيئة تحرير الشام"، أبو محمد الجولاني، تشكيل حكومة انتقالية. ويقول البشير الذي أدار سابقاً حكومة مصغرة يقودها الثوار في جيب من شمال غربي سوريا، إن هدفه هو إعادة ملايين اللاجئين إلى البلاد وتحقيق الوحدة وتوفير الخدمات الأساسية. لكنه يقر بأن إعادة الإعمار مهمة شاقة، لا سيما في ظل قلة التمويل المتاح.
وفي حوار مع الصحيفة الإيطالية كورييري ديلا سيرا أمس الأربعاء، قال البشير "ليس في الخزانة سوى عملة سورية معدومة القيمة تقريباً. فالدولار الواحد يساوي 35 ألفاً من عملتنا".
وأضاف: "لا نملك أي عملات أجنبية أما بالنسبة إلى القروض والسندات، فما زلنا نجمع البيانات. لذلك صحيح أننا في وضع مالي صعب جداً".
من جانبه، قال أحد كبار المسؤولين في وزارة الإعلام السورية الناشئة علي الأمين لـ"اندبندنت" إنه متفائل بالمستقبل على رغم الضغوطات. وأضاف أن "هيئة تحرير الشام" وغيرها من الفصائل الأخرى "الآن في وضع انسحاب مع تدخل قوات الشرطة وقوات الأمن لإعادة فرض النظام".
وشرح أن الخطة تتضمن فترة انتقالية تستمر ثلاثة أشهر قبل تسلم حكومة جديدة- يفترض أنها مدنية- زمام الأمور جدياً.
وتابع لـ"ندبندنت"، "على رغم التحديات، فالوضع أفضل مما عاناه البلد في ظل حكم نظام الأسد، حين كان ينهار من كل حدب وصوب. وأي تحدٍّ نواجهه الآن، مهما كان، أسهل علينا من الذي تحملناه تحت حكم بشار الأسد".
"نتكلم عن سوريا جديدة… سوريا تصبّ تركيزها على التنمية. ونريد إن شاء الله سوريا لكل سوري، مكاناً يشهد ولادة جديدة".
لكن هناك تحديات أخرى.
فالمعارك مستمرة في شمال شرقي البلاد بين الفصائل الثورية المدعومة من تركيا و"قوات سوريا الديمقراطية" التي يقودها الأكراد وتدعمها الولايات المتحدة. وفي هذه الأثناء، يفيد شهود على الحدود مع العراق بأن جنود النظام الذين فروا إلى تلك المنطقة لم يغادروها بعد. وتغص الحدود مع لبنان بسوريين من مناصري النظام على ما يبدو، يستميتون للخروج من البلاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يقترب رجل يُدعى بسام أحمد من "اندبندنت" طلباً للمساعدة في وسط دمشق، ويقول إن عدد المفقودين من الذين جندهم النظام قد يصل إلى الآلاف. كان ابنه محمد، 23 سنة، فقيراً ولا يستطيع دفع المبلغ المطلوب لتجنّب الخدمة العسكرية الإلزامية وعلى رغم إصابته البالغة في الميدان، لم يُعطَ أي إعفاء طبي من القتال لأن نظام الأسد كان بحاجة إلى أكبر عدد ممكن من الرجال خلال الأعوام الأخيرة.
ويتابع بسام بيأس "آخر مرة اتصل بي ابني كانت منذ 10 أيام، حين أخبرنا أنه في محافظة إدلب وأن قائده وهو جنرال في الجيش، فرّ وترك الجميع لمصيرهم".
"لا علم لي بما حلّ به أو بفرقته، أو بمكانهم. أخبروني إن كان ميتاً أو حياً- هذا كل ما أريد معرفته".
يتعاطى المسؤولون الأجانب بحذر مع الثوار السابقين، خصوصاً أن "هيئة تحرير الشام" التي تعتبر الأقوى بينهم، مصنفة حتى الساعة منظمة إرهابية دولية من قبل واشنطن والأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي وغيرها من الجهات. ويأمل كثيرون في سوريا في أن يتغير هذا الوضع ويتطلعون إلى التغيير من الغرب.
وقال وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن الذي اتجه إلى الشرق الأوسط أمس بغية الإعداد للمرحلة الانتقالية في سوريا إن الولايات المتحدة تدعم "انتقالاً جامعاً يقوده السوريون نحو حكومة مسؤولة تمثل الجميع".
وتابع أن الحكومة الجديدة "يجب أن تتمسك بالتزامات واضحة بالاحترام الكامل لحقوق الأقليات وتسهّل تدفق المساعدات الإنسانية لكل المحتاجين وتمنع تحول سوريا إلى قاعدة للإرهاب أو إلى خطر على جيرانها".
في جوبر، تعبّر الأسر التي تقف أمام أكوام الأنقاض المكدسة الشاهقة عن عزمها على البقاء مكانها وإعادة الإعمار.
وقال أنس، 30 سنة، فيما كان يصطحب والدته وأطفاله بعيداً من أنقاض منزلهم "هذه أرضنا وهذا بلدنا. وُلدنا هنا وكل ما نملك هنا".
"نأمل في أن يعود السكان لمنازلهم وأن تزدهر البلاد وأن يجد الجميع وظائف. علينا العمل معاً كي يتحقق ذلك".