إسقاط تماثيل الزعماء... صرخة مقهور في وجه صامت

آخر تحديث 2024-12-15 18:00:05 - المصدر: اندبندنت عربية

تمثال لحافظ الأسد تدوسه أقدام السوريين (أ ف ب)

جماهير محتشدة تجذب تمثالاً ضخماً موثقاً بالحبال حتى يتهاوى ويسقط، لتنطلق في تدميره بعنف مصحوب بصيحات الاحتفال، تكرر هذا المشهد مرات عدة مع سقوط أنظمة سياسية مختلفة، بفعل الثورات أو الانقلابات أو تغير الأنظمة السياسية، ونظم الحكم لأسباب متباينة.

بعض مشاهد إسقاط تماثيل الزعماء أصبحت مع الزمن أيقونية وتمثل رمزاً للانتقال من عهد إلى آخر، أو من أيديولوجية إلى أخرى، وأحياناً كانت ترتبط بأحداث فاصلة شكّلت لحظة فارقة في تاريخ العالم، مثل تحطيم تماثيل هتلر إبان نهاية الحرب العالمية الثانية.

وفي الأيام الأخيرة طالع العالم مشاهد لتدمير السوريين وإسقاطهم تماثيل بشار الأسد بعد القضاء على نظامه وهربه إلى روسيا، وأخرى لحافظ الأسد الرئيس السابق أشهرها تمثال ضخم في اللاذقية، ولا تعد هذه هي المرة الأولى التي تدمر فيها الجماهير تماثيل لحافظ الأسد، إذ شهد عام 2013 إسقاط تمثال ضخم له في مدينة الرقة بعد سقوطها في يد المعارضة المسلحة.

ظاهرة تحطيم تماثيل الزعيم السابق ليست بالجديدة، لكنها قديمة قدم التاريخ وحضارات كثيرة شهدت قيام الحاكم الجديد بتدمير آثار سلفه من التماثيل وغيرها، باعتبارها رمزاً لعهد بائد وذكرى يجب محوها قبل قيام حكم جديد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومن أبرز مشاهد إسقاط تماثيل الزعماء في العصر الحديث، سقوط تمثال الرئيس العراقي السابق صدام حسين عام 2003 في ساحة الفردوس الشهيرة ببغداد بعد الاحتلال الأميركي للعراق، ويمكن القول إن هذا المشهد ربما كان ملهماً لكثير من الشعوب لاحقاً مع تصاعد أحداث ما أطلق عليه حينها الربيع العربي منذ بدايات عام 2011.

الأحداث التي شهدتها ليبيا في أعقاب إطاحة القذافي لم تخل من تدمير تماثيله التي كانت منتشرة في كل أنحاء البلاد فجرى تداول كثير من الصور لمتظاهرين يسقطون التماثيل ويحطمونها، وبعضهم يدوس عليها بالأحذية.

وفي عام 2014 ومع تصاعد الأحداث في أوكرانيا آنذاك جرى إسقاط وتدمير عدد من التماثيل للينين الزعيم السوفياتي الشهير للرغبة في التخلص من آثار هذا العصر المرتبط باحتلال السوفيات لأوكرانيا، وفي عصر سابق وتمرداً على حكم السوفيات أيضاً دمرت تماثيل لستالين في بودابيست إبان ثورة المجر عام 1956، وفي عام 2019 أضرم محتجون في فنزويلا النار في تمثال للرئيس الراحل هوجو تشافيز، مطالبين بإجراء انتخابات رئاسية جديدة، وإنهاء حكم الرئيس نيكولاس مادورو لاعتراضهم على سياسته وسلفه تشافيز.

بين السياسة والعمارة

متلازمة إسقاط تماثيل الزعماء التي صارت شائعة، هل من الممكن أن تدفع الحكام حالياً ومستقبلاً إلى عدم المبالغة في تشييد التماثيل؟ وما دافعهم لإنشاء التماثيل الضخمة بهذه الكثافة؟ وهل بالفعل تقلص هذا الأمر حديثاً مقارنة بعصور سابقة كانت فيها تماثيل الزعماء ظاهرة منتشرة في عدد من البلدان العربية والغربية على السواء؟

يجيب أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق، "هناك ارتباط بين السياسة والعمارة على مر العصور، فبناء الأهرام وأبو الهول والمعابد العظيمة في مصر القديمة على سبيل المثال هو إحدى أدوات التعبير عن الحكم الراسخ القوي، وفي العصر الحديث كثير من الدول العربية تعاني ضعفاً في ثقافة المواطن، ومن هنا بعض الحكام يتجهون إلى الاعتماد على خلق ثقافة بصرية من خلال التماثيل الضخمة والصور المنتشرة في كل مكان للإيحاء بالعظمة والقوة ولتخويف المعارضين من خلال رسم صورة ذهنية للزعيم بهذه الهيئة الضخمة، وهناك أكثر من مثال على ذلك من بينها تماثيل صدام حسين في العراق، والقذافي في ليبيا، وأخيراً تماثيل بشار الأسد وأبيه في سوريا التي دمرتها الجماهير بعد سقوط أنظمتهم".

 

ويضيف صادق "أحياناً يصنع الناس أنفسهم التماثيل للحاكم من باب النفاق، أو ليثبت لمن حوله صلته بالحكام، فهذه ثقافة سياسية راسخة في المجتمعات، ولن تتغير بسهولة، وطالما هي مستمرة فستبقى ظاهرة التماثيل الضخمة ولن تنتهي، وبخاصة مع فترات الحكم الطويلة لبعض الحكام".

ويشير أستاذ علم الاجتماع السياسي إلى أنه في الغرب "لا نجد هذه الظاهرة منتشرة، لأن الرئيس غالباً يحكم فترة محددة، ويجري تداول السلطة بصورة مستمرة، في الوقت نفسه أحياناً تدمير التماثيل الضخمة كان يحدث من الحاكم الجديد لمحو أثر من سبقه، وهناك أمثلة عدة على ذلك من كافة عصور التاريخ القديم والحديث على السواء فهو ليس بالضرورة مرتبطاً بالجماهير الغاضبة أو الثائرة على نظام معين".

ليس مرتبطاً بالزعماء وحدهم

لم يقتصر إسقاط التماثيل على الحكام، لكنه امتد في بعض الأحيان إلى شخصيات كانت رموزاً لأفكار أو توجهات معينة مرتبطة بالظلم أو العنصرية، فأحياناً تتغير الأفكار والمفاهيم السائدة في مجتمع معين خلال فترة زمنية محددة، لتصبح مع الزمن مرفوضة ومستهجنة، مما يدفع الناس إلى تدمير تماثيل رموزها إن وجدت والأمثلة على ذلك عدة ولا تقل عن حالات إسقاط تماثيل الزعماء.

في الولايات المتحدة عام 2020 وبعد حادثة مقتل جورج فلويد (الأميركي من أصل أفريقي) على يد شرطي أبيض تفجّرت احتجاجات واسعة تناهض العنصرية، نتج منها إسقاط محتجين تماثيل لأشخاص مثل روبرت إدوارد لي، الذي يعتبر من قادة الحرب الأهلية في أميركا، إضافة إلى كثير من التماثيل لرموز الكونفدرالية، إذ اعتبرهم المحتجون يمثلون نظاماً كان يستعبد البشر، انتقد الرئيس ترمب حينها أعمال تخريب التماثيل قائلاً إنها تمثل جزءاً من تاريخ أميركا.

 

وبالتواكب مع هذه الأحداث وتضامناً مع الحق في المساواة شهدت بريطانيا موجة احتجاجات ضد العنصرية، إذ أسقط محتجون في مدينة بريستول تمثالاً لإدوارد كولستون، وألقوا به في النهر باعتباره كان تاجراً للعبيد، ويقال إنه نقل أكثر من 80 ألف شخص من أفريقيا للأميركتين خلال القرن الـ17، وأزيل تمثال لتاجر آخر للعبيد، وهو روبرت ميليغان، كما جرى تلطيخ تمثال رئيس الوزراء السابق تشرشل بالطلاء.

وفي أوغندا عام 2020 طالب عدد من النشطاء البرلمان الأوغندي بإصدار قرار بإزالة التماثيل المتعلقة بالمستعمرين البريطانيين، وإعادة تسمية الشوارع، وكان من بين التماثيل المتنازع عليها تمثال اللورد فريدريك لوجارد، وكان مسؤولاً عسكرياً بارزاً خلال الفترة التي كانت أوغندا فيها مستعمرة.

وشهدت إثيوبيا أيضاً عام 2020 تحطيم محتجين في مدينة هرر تمثال هيلا سيلاسي آخر أباطرة إثيوبيا على أثر مقتل مغن إثيوبي معارض بالرصاص، وتزامناً مع هذه الاحتجاجات دُمر تمثال آخر للإمبراطور نفسه على بعد آلاف الأميال من التمثال الأول، إذ كان في واحدة من حدائق لندن، إذ عاش سيلاسي في ويمبلدون خلال منفاه بعد الغزو الإيطالي لبلاده عام 1936.

سيكولوجية الجماهير

تكررت مشاهد إسقاط التماثيل في العالم أجمع، وبات المشهد مكرراً بالتفاصيل نفسها لا فوارق كبيرة بين الشرق والغرب أو بين أصحاب التوجهات السياسية والأيديولوجيات المختلفة المتراوحة من اليمين إلى أقصى اليسار، فالتمثال هنا هو رمز للطاغية أو لعهد ترغب الجماهير في التخلص منه، لكن ماذا يمثل إسقاط تماثيل الزعماء للشعوب؟ وما الدافع النفسي الجمعي الذي يؤدي إلى تكرار المشهد بالتفاصيل ذاتها وإن تغيرت السياقات؟

 

يقول أستاذ علم النفس الاجتماعي والسياسي علي سالم، "هذا الفعل يعتمد على اللاشعور الجمعي للناس، فهذا الشخص هو رمز السلطة بالنسبة إليهم، وتدمير كل ما يرتبط به من تماثيل أو صور هي طاقة عدوانية لا شعورية تخرج في هذا التوقيت، نتيجة للقهر وعدم وجود أية آلية للمقاومة على مدار فترة حكمه، فيمثل إسقاط تماثيله وتدميرها شكلاً من أشكال الانتقام باعتبار أنها تمثل هذا الحاكم وترمز له".

ويضيف، "هذه الحال التي تكررت كثيراً على مدار التاريخ ترتبط بسيكولوجية الجماهير ففي خضم هذه الأحداث ومع التجمعات الضخمة التي تحدث بعد إسقاط نظام سياسي قد يقوم شخص واحد بفعل معين، وهو تدمير أحد تماثيل رأس هذا النظام، فيحاكيه آخرون بصورة لا شعورية، ومع انتشار المشاهد بفعل وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي حالياً قد يتكرر الفعل في كل مكان في الدولة توجد فيه تماثيل لهذا الحاكم، وربما حتى خارجها في أماكن مثل السفارات وغيرها، ويشجّع على هذه الأفعال وجود حال من عدم الانضباط والفوضى يشهدها هذا البلد في هذا التوقيت الذي يسقط فيه النظام الحاكم فيها".