طلاب يسحبون تمثالا مقلوبا للرئيس الراحل حافظ الأسد في الشارع خلال تجمع حاشد بالقرب من حرم جامعة دمشق، 15 ديسمبر 2024 (أ ف ب)
إن قراءة حسابات المكسب والخسارة في أوزان الدول بغرب آسيا خلال الأشهر الأخيرة تعطي مؤشرات لا بد من قراءتها جيداً حتى نتمكن من استيعاب ما حدث وبناء بعض التوقعات وفقاً له وإن كنت أعترف بأن الأحداث سريعة لا يمكن ملاحقتها، إذ تمضي السياسة على الأرض والمشاهد العملياتية أسرع بكثير من كتابات وتوقعات الإعلاميين والدبلوماسيين بل المفاوضين أيضاً.
إن ما شهدته منطقة غرب آسيا من أحداث توحي في مجملها أننا أمام تغيرات هائلة وانتقال جذري من مرحلة إلى أخرى وتبدو الأمور أمامنا في سياق مفزع وغريب، فنحن لا نستطيع أن نميز حالياً بصورة دقيقة من الذي حقق مكاسب مما جرى ومن الذي تكبد خسائر مما حدث، ذلك أن الرواية لم تتم فصولها ولم يسدل بعد الستار عليها، ومع ذلك فإن الرأي الباده والمشاهد الأخيرة تحتاج إلى قراءة واعية وتأمل لأوزان القوى في المنطقة، ويجب أن نميز هنا أطرافاً عدة هي إيران وتركيا ثم العرب وإسرائيل، في ظل رعاية ومتابعة ودعم الولايات المتحدة الأميركية في جانب وروسيا الاتحادية في جانب آخر.
والآن دعنا نتأمل المشهد برمته وتغيرات تلك الأوضاع المختلفة التي ذكرناها:
أولاً، إن إيران في ظني أو نظام الحكم فيها في الأقل منيت أخيراً بخسائر واضحة على المستويات السياسية والعسكرية والإعلامية، إذ إن ما جرى لـ"حزب الله" في لبنان محسوب على طهران بالدرجة الأولى، كما أن الموقف الصعب الذي مرت به الدولة اللبنانية خلال الأشهر الأخيرة يُعدّ إضافة سلبية للوزن الإيراني في المنطقة، فـ"حزب الله" كان أكبر وكلائها وأهم أدواتها في الصراع مع إسرائيل والمواجهة المباشرة لها، فجاءت الضربات التي بلغت ذروتها بمقتل زعيم الحزب حسن نصرالله وعدد من رفاقه بعد مقتل إسماعيل هنية في إيران الذي كان يقود حركة "حماس" ويعتبر نفسه قريباً من طهران وموالياً لها، ثم توالت مواكب الشهداء وسط ألحان حزينة في منطقة لا تؤمن بالضرورة في مجملها بسياسات إيران ولكنها تدرك أن طهران كانت ولا تزال خصماً مما حققته إسرائيل من مكاسب مرحلية في الفترة الأخيرة.
ولا شك في أن الخسارة الفادحة الأكبر التي أصابت السياسة الإيرانية في الشرق الأوسط هي فقدان الحليف الأهم وهو أهم من "حزب الله" بالنسبة إليها وأعني به الدولة السورية التي خرجت عن طابور الولاء لوكلاء إيران بعد سقوط نظام بشار الأسد والتحولات الدرامية التي شهدتها المنطقة في أعقاب ذلك، فلقد بدا واضحاً أن طهران تلقت ضربة صاعقة بالانهيار السريع لنظام الأسد في دمشق ولجوئه إلى روسيا الاتحادية بعد أكثر من نصف قرن كانت فيه سوريا ترزح تحت حكم ذلك البيت العلوي الذي أصاب الجسد العربي عموماً في مقتل، خصوصاً أن هوية الثوار الجدد الآتين من إدلب وما حولها من تنظيمات وميليشيات لا تزال كلها قيد البحث والفحص للتأكد من أن تغييراً جذرياً طرأ على شباب تلك التنظيمات جعلهم ينضوون تحت رايات العروبة والولاء لدولة سورية موحدة، ترفع شعارات التماسك والاستقرار كما حملته منذ عصر معاوية الذي أسس للحكم على قاعدة الملكية الوراثية في ظل الدولة الأموية التي حددت شخصية الشام الكبير ومكانة سوريا الإقليمية، إنني أظن أن إيران تواجه إعصاراً عاصفاً لم تشهد له مثيلاً منذ سقوط حكم الشاه ووصول الملالي إلى سدة الحكم.
ثانياً، لا شك في أن تركيا من أكبر الرابحين في الأحداث الأخيرة، إذ تحقق لها سقوط نظام الأسد الذي لم يكُن على وفاق معها وأضحت بالتالي هي التي تمسك بمفاتيح الحكم في دمشق ولو بعد حين، وبذلك فإن ما خسرته طهران اكتسبته أنقرة تلقائياً، واضعين في الاعتبار أن الدولة العربية خسرت بذلك معركة أمام الترك، على رغم أننا نظن أن نظام الأسد لا يستحق الأسف عليه، خصوصاً بعد أن انتشرت فضائحه وجرائمه بحق المسجونين وأنواع التعذيب التي أتقنتها أجهزته والتي تركت بصمات حزينة على وجه الشام وجعلت التنبؤ السياسي بما هو آتٍ أمراً صعباً، فالسياسة فرع من العلوم الاجتماعية التي لا تسمح مقدماتها بالضرورة بالتنبؤ الدقيق بالمستقبل القريب والبعيد لأن كل الظواهر البشرية لا تخضع لحسابات رياضية محددة، فهي ترتبط بالعنصر البشري الذي لا يمكن القياس عليه بصورة حاسمة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ولا شك في أن شخصية رجب طيب أردوغان تعطيه مرونة واضحة في المواقف السياسية وتعفيه من التزام مبادئ وشعارات لا يرفعها علناً في كل وقت، فتركيا تصفي دائماً حساباتها التاريخية مع العرب من خلال مواقفها من أحداث الصراع العربي- الإسرائيلي، إذ إن أنقرة داعم علني للفلسطينيين ولكنها أيضاً على صلات عادية بالدولة الإسرائيلية، لذلك فإنني أزعم أن تركيا رابح كبير من تلك الأحداث الأخيرة التي لا نعفيها من الضلوع فيها، فتخلصت أخيراً من الفصائل أو هي في طريقها إلى ذلك، كما أنها كانت داعماً غير مباشر لتنظيم "داعش" الذي يحاول جاهداً العودة للمسرح السياسي في المشرق العربي، خصوصاً سوريا والعراق. كذلك فإن أنقرة أصبحت لديها قدم في كل مكان على نحو يسمح لها بكبح جماح حزب العمال الكردستاني العدو الأول لنظام الحكم التركي.
ثالثاً، إن إسرائيل بلا جدال بكل أساليبها العنصرية والعدوانية وجرائمها المتعددة التي تمر بلا عقاب هي أكبر الرابحين في المنطقة وهي التي حققت مكاسب كبرى وأرباحاً هائلة خرجت بها من حربي غزة ولبنان، فضلاً عن تدميرها للآلة العسكرية السورية في ظل ظروف مشبوهة ودوافع لا تفسير لها، فمع سقوط نظام الأسد تحركت إسرائيل بصورة تلقائية وقامت بعملية تدمير شامل للبنية العسكرية السورية جواً وبراً وبحراً، فإسرائيل لا تضيع فرصة إلا وانتهزتها من أجل تحطيم جيرانها العرب والسعي القوي إلى تصفية القضية الفلسطينية، وها نحن نرى رئيس وزرائها نتنياهو وهو يصول ويجول متباهياً بما تحقق لإسرائيل، مؤكداً أنه يعيد رسم خريطة المنطقة بحيث تصبح الدولة اليهودية هي مركز الثقل في الشرق الأوسط.
رابعاً، إذا نظرنا إلى روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية، فسنجد أن موسكو تدرك الخسارة الكبيرة لفقدان نظام بشار الأسد بل تعمل جاهدة على حفظ ما بقي لها وتساوم وتقايض على قاعدتين بحريتين في المتوسط على امتداد الساحل السوري في منطقتي اللاذقية وطرطوس، في وقت تشير النذر إلى احتمالات تصاعد الحرب الروسية- الأوكرانية ذات الأولوية الأولى لموسكو مهما كانت الظروف.
أما عن الولايات المتحدة الأميركية، فحدّث ولا حرج وكأن البيت الأبيض يستعد لاستقبال سيده الجديد بأفكاره الغريبة وسياساته الشاذة التي يصعب التنبؤ بنتائجها أو دراسة مسارها، إلا أن الأمر المؤكد أن الآتي أسوأ مما مضى وأن العرب على مشارف مرحلة صعبة في المنطقة نحتاج فيها إلى تكاتف تقوده مصر والسعودية وينضم إليه العراق والأردن وقطر والإمارات، بل كل دول الخليج والمشرق العربي لأنه صراع أخير بين الحياة والموت في منطقة شديدة الحساسية من قلب العالم العربي في بؤرته، متطلعين إلى المستقبل بتفاؤل حذر أحياناً وتشاؤم متأصل أحياناً أخرى... دعنا نرقب الأحداث ونتابع المشهد عن قرب!.