أحمد شيخ الغنمة الذي كان يسكن في مخيم الركبان برفقة زوجته وولده يعود إلى دمشق (بيل ترو)
8 آلاف نازح عاشوا في أكواخ من الطين وسط الصحراء، وكابدوا أشد حصار شهدته الحرب الأهلية السورية. فقد ترك هؤلاء لمصيرهم في مخيم الركبان المعزول، الذي اعتقدوا أنهم لن يخرجوا منه أحياءً.
على مدار تسع سنوات، فرض نظام الأسد حصاراً خانقاً على إمدادات الطعام والمياه والأدوية التي يسمح بدخولها المخيم، حتى إنه أغلق جميع قنوات التهريب، فاكتسب المخيم لقب "أرض المنسيين". وهذا على رغم أنه لا يبعد سوى كيلومترات قليلة عن قاعدة عسكرية أميركية وعن الحدود الأردنية، وفي منطقة كانت تحت السيطرة الفعلية للولايات المتحدة.
وصلت العائلات التي سكنت المخيم إليه بعد فرارها من الهجمات بالأسلحة الكيماوية ومن الحصار في مناطق أخرى من البلاد، يحدوها الأمل بالهرب عبر الحدود الأردنية التي أغلقت بصورة شبه تامة في عام 2015، فعلقت هنا. وعاشت طوال 10 سنوات تقريباً على الخبز المتعفن وحفنات من الرز، وشاهدت أطفالها يموتون من أمراض يمكن الوقاية منها، وتضرعت للبقاء على قيد الحياة في الأراضي القاحلة التي كانت مسكنهم.
آخر قافلة للأمم المتحدة سمح لها بالدخول إلى المخيم كانت في سبتمبر (أيلول) 2019. وكان الشريان الوحيد للحياة هو منظمة غير حكومية صغيرة مقرها الولايات المتحدة، "المنظمة السورية للطوارئ"، التي ناشدت الجيش الأميركي السماح لها بنقل الإمدادات من القواعد الأميركية وتهريبها إلى المخيم.
ويقول أحمد شيخ الغنمة، البالغ من العمر 27 سنة، والذي يتحدر أساساً من إحدى ضواحي دمشق الشرقية، وهو يبكي فيما يدخل مسقط رأسه للمرة الأولى منذ أكثر من 10 سنوات، "كان أقسى حصار في الحرب كلها".
كان أحمد لا يزال مراهقاً في عام 2011 عند اندلاع الثورة التي سرعان ما تحولت إلى حرب أهلية، وقد انضم عندها إلى الثوار وفر إلى مخيم الركبان بعد نجاته من هجوم بغاز السارين استهدف الغوطة، وهي الضاحية الشرقية للعاصمة في أغسطس (آب) 2013 وأسفر عن مقتل 1700 شخصاً، بحسب التقديرات.
ومكث في الركبان برفقة زوجته وطفلهما الذي بقي على قيد الحياة. حين علم بفرار بشار الأسد من البلاد. قال لـ"اندبندنت" بعد دخوله دمشق، "بكيت لدرجة أنني كدت أفقد الوعي بعدما علمت بسقوط نظام الأسد. خرجنا إلى نقطة التفتيش وحررناها. كان تحررنا حلماً. في غضون ساعات، قالوا إن الأسد قد هرب". ويضيف باكياً، "كان أصعب الأمور هو عدم وجود أطباء. أنجبت زوجتي مولودة لم تبق على قيد الحياة بسبب تأخر الجراحة. فقدت ابنتي". وأردف، "بعض الأشخاص اختنقوا وتوفوا بسبب الأمراض والحمى مثل كورونا. لم نعرف حتى ما نوع المرض الذي أصابهم. لم يكن بإمكانك العثور على عقار باراسيتامول حتى. ما من شيء قد يعينك، حتى وإن كان الأمر هو الإصابة بالصداع".
شكلت المنظمة السورية للطوارئ شريان الحياة الوحيد للمخيم، إذ فاوضت الجيش الأميركي كي يسمح لها بنقل الطعام عبر سلسلة معقدة من القواعد في المنطقة، بدءاً بقواعد في العراق والأردن، ووصولاً إلى قاعدة التنف في سوريا على بعد 16 كيلومتراً فقط من المخيم. ومن تلك النقطة، تعين على المنظمة أن تهرب الإمدادات عبر النقاط الخاضعة لسيطرة النظام.
كان معاذ مصطفى، مؤسس المنظمة الذي عمل في الكونغرس الأميركي مع النائب فيك سنايدر والسيناتورة بلانش لنكولن برفقة أحمد عندما دخل المدينة. وقال إن منظمته كانت على وشك الإفلاس في محاولتها توفير الإمدادات واللوازم لـ8 آلاف شخص يائس يسكنون المخيم، وكانت تشعر بالقلق خلال الأشهر التي سبقت إطاحة الأسد، إزاء المدة التي يمكنها أن تستمر فيها بالعمل.
وقال لـ"اندبندنت" بصوت باكٍ، "خاطر بعض الأشخاص في الركبان بحياتهم من أجل العودة إلى مناطق النظام بسبب وجود أمل، ولو كان واحداً في المئة، أن يتعالج أطفالهم، لكنهم أخضعوا في النهاية إلى التحقيق والتعذيب الذي قد يصح القول إنه أسوأ من الموت". وأضاف، "لم يكن في المخيم أطباء. أحياناً كان البعض يتصلون بي كي يقولوا: توفي ولدي. لا أعلم السبب. هل يمكن أن يشخص أحدهم السبب كي أعلم إن كنت سأخسر أطفالي الباقين أيضاً؟".
ذاع صيت هذه البقعة الصحراوية الصغيرة والمعزولة سيئة السمعة عالمياً بسبب شدة الحصار المفروض عليها على رغم قربها من قاعدة عسكرية أميركية ومن الحدود الأردنية.
في يوليو (تموز) الماضي أثارت نائب منسق الشؤون السياسية في المملكة المتحدة لورا ديكس مأساة الأشخاص العالقين في المخيم أمام مجلس الأمن الدولي، ودعت النظام السوري إلى السماح الفوري والعاجل بوصول السلع التجارية والمساعدات الإنسانية إلى المخيم.
لو استسلمنا وقلنا 'لا يمكن الاستمرار بهذا الوضع' كان هؤلاء الأشخاص لقوا حتفهم. اتصل بي كثر مذاك ليقولوا لي 'شكراً أنك أطعمتنا كل تلك المدة كي يتسنى لنا العودة إلى ديارنا. وإلا كان كل شيء لينتهي'.
معاذ مصطفى، مؤسس المنظمة السورية للطوارئ
وفي سبتمبر (أيلول) أفادت منظمة العفو الدولية أن الأردن مستمر في سياسات "ترحيل السوريين بصورة غير قانونية" إلى الركبان على رغم ظروف المخيم غير الصالحة للعيش. واتهمت الولايات المتحدة بعدم بذل جهد كافٍ لتحسين الوضع اليائس مع أنها قادرة على ذلك، واصفة الوضع بـ"غير المفهوم".
تأسس المخيم في هذا المكان في عام 2012 بسبب وجوده في المنطقة الواقعة بين الحدود الأردنية والعراقية، مما سمح للعائلات الهاربة من الحرب أن تحل فيه بصورة موقتة في طريقها لطلب اللجوء في الأردن.
لكن ذلك انتهى في عام 2015 حين توقفت الأردن، الذي غص بمئات آلاف اللاجئين، عن استقبال السوريين ما لم يكن بحوزتهم إقامات أردنية أو يستوفوا الشروط في حالات استثنائية محددة. وفي العام التالي، أعلنت الأردن تحول المناطق الحدودية مع سوريا والعراق إلى مناطق عسكرية مغلقة بعد مقتل ستة من جنودها عقب تفجير انتحاري في المكان.
وفي تلك الفترة تقريباً، شددت الحكومة السورية حصارها على المنطقة التي أقامت فيها نقاط تفتيش قطعت كل طرقات التهريب غير الرسمية التي اعتمد عليها سكان المخيم للحصول على الإمدادات والمستلزمات الأساسية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في عام 2018، بدأ سكان المخيم بتشييد أكواخ من الطوب الطيني باستخدام التراب والحصى والقش والمياه التي تشكل وتجفف في الشمس. وأتت هذه الخطوة بعد غرق رضيعة عمرها ستة أشهر عند هطول أمطار غزيرة دمرت خيمة عائلتها.
وظلوا على هذه الحال حتى الأسبوع الجاري.
ويقول معاذ مصطفى لـ"اندبندنت"، "كنت أقول دائماً إنني لا أعرف كيف سنستمر في تلبية الطلب. فنحن منظمة صغيرة الحجم، فلا وجود للأمم المتحدة ولا المجتمع الدولي، فيما الحدود مغلقة وهناك حصار كامل. لم أعرف مدى استدامة الوضع، لكنني قلت، حتى لو أفلست المنظمة كلياً، فنحن الوحيدين نقدر على دخول المخيم". وأضاف، "لو استسلمنا وقلنا 'لا يمكن الاستمرار بهذا الوضع' كان هؤلاء الأشخاص ليلقوا حتفهم. اتصل بي كثر منذ ذلك الحين ليقولوا لي 'شكراً أنك أطعمتنا كل تلك المدة كي يتسنى لنا العودة إلى ديارنا. وإلا كان كل شيء قد انتهى'".
بالنسبة إلى أحمد، كانت المرة الأولى التي يدخل فيها مسقط رأسه دمشق منذ 15 عاماً. ولم يتسن له بعد أن يرى والدته التي فرت عبر الحدود إلى لبنان. وقد وصل إليه خبر فقدان ثلاثة من أصدقائه الذين اختفوا داخل "مسلخ" سجن صيدنايا، ويرجح أنهم أعدموا. وقال، "طيلة 13 عاماً، كان أملنا الوحيد بالله. والآن لدينا أمل بالمستقبل وبالإنجازات التي حققناها بأنفسنا. أتمنى لو كان كل من ماتوا خلال الـ14 عاماً الماضية قادرين أن يكونوا معنا كي يشهدوا على هذا اليوم. نشكر الله أننا حققنا أهدافهم وآمالهم وأحلامهم".