عمل للفنانة السورية نور عسلي (من كتاب"معتقلون ومغيبون")
في كتاب "معتقلون ومغيبون: الفن يوثق والأرشيف يتحدث" الصادر حديثاً عن دار رياض الريس (478 صفحة) والعاملين على تجميعه وتوثيقه، بالتعاون مع مجموعة من المؤسسات الداعمة، نصوص وجداول بأسماء مخطوفين ومعتقلين وصور ووثائق من تجارب فنانين معاصرين ورسامي كاريكاتور وكتاب وشعراء وفنانين وسينمائيين وفناني فيديو وشهادات ناجين، تعكس الصورة الحية ليوميات المثقفين السوريين قبل الحرب وخلالها، في "شتاء طويل" من بكاء العيون، كما يصفه الشاعر السوري المعتقل سابقاً في سجن صيدنايا مفيد نجم.
يطرح الكتاب في مقدمته مفهوم السجن بصفته منظومة عنيفة، واعتباره كائناً حياً لأنه في تطور مستمر وتوسع، أما بذرة هذا الكائن فهي تعود للعام 1949 وما حملته فترة الخمسينيات من تغييرات أدت إلى انهيار قيم الاستقلال مع صعود الأحزاب الأيديولوجية المخابراتية التي أدت إلى وصول حزب البعث العربي الاشتراكي لسدة الحكم.
وُلد السجن كائناً حياً مع الأسد الأب (من عام 1970 حتى عام 2000) واستمرت مع بشار الابن منذ ذلك التاريخ حتى أضحت سوريا سجناً كبيراً، إذ يحمل هذا النموذج مجموعة من الصفات والعوامل المساعدة في استمراره، وأبرزها حضور السجن في الجسد الفيزيائي والجغرافي أمام السوريين، أي مرحلة "سجن الأبد" أو "الإبادة" كهوية أو كأداة قهرية ضد المجتمع السوري بحواضنه المعارضة، ووسيلة الحكم بالقهر والخوف، إذ إن الحضور الكبير للسجن يظل ماثلاً في أجساد المدن والقرى السورية، وكذلك في أجساد المعتقلين السابقين التي تحتفظ بآثار التعذيب والتشويه.
إنه أرخبيل السجن العملاق الذي يرعاه النظام بأدواته ومخابراته العسكرية وأجهزته الأمنية وقواته المسلحة التي ارتكبت منذ السبعينيات أبشع جرائم القتل الجماعية من دون عقاب، في مرحلة ما قبل عدسات التصوير والبث عبر شبكات التواصل الاجتماعي التي حولت المساحات العامة في المدن السورية إلى أماكن لتعذيب المعتقلين أو لدفن القتلى جماعياً، مثل الحديقة العامة في حلب وتحت أشهر الفنادق في حماه والوادي الأحمر في تدمر وغيرها كثير.
طوال 50 عاماً وسردية السجن تولد كموجات متجددة مع كل عفو رئاسي أو حملة اعتقالات تتجدد فيها موجة الحكايات المروعة عن جحيم تدمر أو صيدنايا، وهي الأضخم بين المؤلفات في عناوينها وأحداثها، إذ إنه لا يمكن اعتبارها سردية تخص الضحايا وتجاربهم الذاتية وحسب، ولكنها سردية الجلادين وعلاقتهم بضحاياهم الذين نالوا فرصة تسجيل هذه التجربة ونشرها.
ولم يمنع ذلك السوريين من التحرك ضد السجن وضد النظام، بدءاً من أطفال درعا الذين كانوا أول من طاولتهم حملة الاعتقالات التي رسمت ملامح الثورة والاحتجاجات عام 2011، والاعتقالات لشعراء وكتاب وممثلين معروفين ومثقفين وصحافيين عرب وأجانب، ومخرجين سينمائيين وفنانين تشكيليين، بينهم الرسام نجاح البقاعي وبعض رسامي الغرافيت وأبرزهم أحمد الخانجي ونور حاتم زهرا. كما ظهرت أعمال إبداعية تضامناً مع الحراك الشعبي في سوريا لفنانين من أمثال النحات خالد ضوا فضلاً عن المصورين الفوتوغرافيين جابر العظمة وشادي ابو كرم وريما بدوي، ورسامي الكاريكاتور وبينهم ياسر أبو حامد وكاميران شمدين، ويُذكر أنه في الـ 13 من أغسطس (آب) 2018، أفردت صيحفة "ليبراسيون الفرنسية" في تقرير حمل عنوان "دمشق: بيروقراطية الموت" خمس صفحات كاملة للوحات أنجزها الفنان والمعتقل السابق نجاح البقاعي بعد نجاته من الاعتقال، عكس فيها ويلات الاعتقال وأساليب التعذيب والقتل والوحشية في أقبية السجون السورية الشبيهة بالمسالخ البشرية.
من تجارب المعتقل
شكلت تجربة الاعتقال والموت من التعذيب وقهر السجون ومآسي أهالي المعتقلين والمخفيين والسجناء أبرز الثيمات التعبيرية التي ميزت رسوم يوسف عبدلكي بطابعها المأتمي والتذكاري، والموصوفة بتراجيديا إنسانية معاصرة، ولا سيما وأن الفنان ذاق مرارة الاعتقال أكثر من مرة.
وعلى غرار مأساوية عبدلكي يذهب عمران يونس إلى المشهدية الجنائزية في تجسيد الهلع والموت وأشكال مقابر الأطفال التي تنبح فوقها الكلاب، مع تفاقم موجات التدمير وارتفاع وتيرة المجازر، خصوصاً امام صعوبة إقامة الحداد بسبب اختفاء الجثث، ومع تفاقم الكوارث على سوريا في ضلوع تنظيم الدولة الاسلامية في العراق والشام (داعش) بارتكاب جرائم ضد الانسانية، استمر النظام الأسدي بحملات الاعتقال والخطف وقتل الصحافيين واعتقال الفنانين من رسامين ونحاتين ورسامي كاريكاتور، فمنهم من قضى نحبه تحت التعذيب مثل وائل قسطون ومحمد خضر طليمات وفادي عبدالله مراد وأكرم رسلان، ومنهم من أفرج عنه، ومنهم من لا يزال مصيره مجهولاً، فقد سجل عام 2014 اعتقال المخرج السينمائي محمد ملص والفنانة التشكيلية عتاب الحمود اللذين أفرج عنهما لاحقاً، وقد بلغ أعمال "أرشيف ذاكرة إبداعية" الموثقة ضمن مشروع معتقلون ومغيبون لعام 2016 قرابة 144 عملاً، من بينها سرديات حول وقائع المعتقلات وشهادات عن اغتصاب النساء في سجون "داعش" وسجون النظام السوري، وكثير من الأفلام والفيديو التي أنجزتها فنانات سوريات مثل ديمة نشاوي وميريام سلامة ولينا شقير، فشكلت نافذة على عذابات السوريات في سجون الأسد، مع التنويه بفيلم "العنف الجنسي بقوة السلاح" لمؤسسة دولتي، وفيلم "عيوني" للمخرجة ياسمين فضة.
تطول قافلة الفنانين الذين عمدوا إلى إخفاء هوياتهم الحقيقية عند المجاهرة بالجرائم، خصوصاً في مجال تصوير أفلام الفيديو أو الأعمال التسجيلية لشهادات الناجين الذين غالباً ما تكون مرتجلة وبلا مونتاج حفاظاً على صدقيتها، عدا عن الملصقات والصور والافلام المتداولة على صفحات "فيسبوك" والصور المنشورة على المنصات التي أنشأها الناشطون وأهالي المفقودين.
ونتوقف عند تجربة ميريام سلامة وتنصيباتها النحتية عن عذابات النساء في السجون عبر عملها التجهيزي "الداخل مفقود والخارج مولود"، وكذلك أعمال عبير وابراهيم فرهود وملصقات يارا النجم عن سجن تدمر، ولوحات هشام مروان والوجوه المشوهة التي رسمها أسعد فرزات، ورسوم بشار العيسى التي تستحضر ذاكرة العنف والمحرقة، ناهيك عن مظاهر المجون والتهتك في أعمال غيلان الصفدي بطابعها الرمزي، والصور المأتمية لنساء في الحرب في لوحات خالد تكريتي، وغياب الديموقراطية وسلب الإرادة في أعمال عبدالكريم مجدل بك.
الجسد بين العدمي والمطلق
إنه الجسد ومراياه المكسورة وهو يبزغ مفككاً مكلوماً ومبعثراً وممزقاً، لا يكف عن غزو الواقع والمخيلة، إنها أيضاً المرآة المخضبة بالدم في مواجهة السطح الطافح بالقلق حين لا تصدق العيون ما تراه، وحين تصبح الصورة شاهدة وشهيدة ومستعصية على الإدراك، وحين لا تعود الجثة تشبه نفسها من شدة الغرابة، وقد تكون الغرابة الجثثية أيضاً من غرابة الصورة، ففي كتاب "صور من لحم ودم: الجسد في الواقع السوري 2011 - 2021"، شواهد فنية تندرج ضمن أبواب الجسد المعذب والمتشظي والمقتول، متمثلة في رسوم أو صور ضوئية أو رقيمة، نذكر من بينها صور جابر العظمة "جنة جنة".
فرضت اللقطة المشهدية نفسها كقانون ضمني لكتابة الحقيقة من خلال الصورة الرقمية التي لجأ إليها عدد كبير من الفنانين، وفي هذا السياق نسلط الضوء على الصورة الرقمية للفنان عمران وفي التي جسدت ما يمكن تسميته بـ "البورتريه التدميرية"، وهي عبارة عن تمثال نصفي لرأس بشار الأسد، مكونة من حطام أبنية ومنازل مهدمة تحيل جميعها إلى ملامحه من موقع اتهامي، فوجه الطاغية يجسد الحطام بصفته ممثلاً لسوريا الحديثة. أما الرسام محمد عمران المقيم في فرنسا فقد اتجهت أعماله نحو التورية في الاتهام والسخرية والتشويه الـ "غروتسكي" (الشيطاني) ولا سيما حين يستبدل الاعضاء الانسانية بآلات القتل، ومن أبرز أعماله رسم بعنوان "عالم الرجال"، وهو عبارة عن تكاوين لأجساد تبدو متناسخة لرجال كأنهم مجرمين وقتلة.
وتشكل صورة السلطة أهم المواضيع التي اشتغل عليها النحات خالد ضوا الذي عاش تجربة الاعتقال في سجن النظام قبل أن يستقر في فرنسا، إذ اكتشف مأساة الجسد العدمي رفقة الجثث حتى بات يشعر بأنه جثة حية، فتتقاطع حالات الجسد عند خالد ضوا خصوصاً في منهجي التدمير مع ما سماه سيغموند فرويد "نزعة الموت"، وتهجس منحوتاته المصنوعة غالباً من الصلصال بأجساد بدينة وقبيحة محكومة بقانون الخمول في وجه دينامية معاكسة هي الثورة، وتظهر التدميرية بشكل جلي حين يهدم أجساده المنحوتة بكسر أطرافها وحَفر ثقوب فيها كما يظهر في سلسلة: "هشاشة" و"عرشك نعشكَ" و"ملك البراميل" و"زعيم الكلاب"، إشارة إلى بشار الذي يستخدم البراميل المتفجرة لقصف السوريين ويحشد كلابه لترويعهم. والمفارقة أن شخصية المستبد الأثيرة في أعمال ضوا ليست مصنوعة من مواد معمرة كما جرت العادة من الرخام، بل من الطين، وهي مادة هشة لا تعمر طويلاً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يتخطى جسد الأنثى مفاهيم التحريم والمحاذير ويتعداها إلى مسائل وجودية وأخرى متعلقة بالهوية والانتماء في تجارب بعض فنانات سوريا المعاصرات، ومن بينهن تجربة نور عسلية التي خاضت في جسد الأنثى ككيان فني ارتبط بالهشاشة، ولا سيما مع العمل التركيبي الذي حمل عنوان "رسالة من فرجينيا وولف"، وهو منبثق من تجربتها الشخصية في منفاها الباريسي وعلاقتها بهشاشة البنية الأدبية في رسالة الكاتبة البريطانية قبيل انتحارها، فقد وضعت الفنانة داخل صندوق خشبي منحوتات لرؤوس وأيد بشرية مقطعة وملفوفة بقماش، تشير إلى الإغماضة الجماعية لوجوه الموتى بين الخلود والفناء.
وفي وصف استثنائي متحرر من شوائب التحفظ تطرح ليلة مريود عبر المنتج الفوتوغرافي العلاقة الحسية لجسد المرأة مع محيطها في ثنائية الوجود والمظهر، من خلال نساء مع ضمادات وسجينات القناع الاجتماعي وسجينات الصمت والآلام، أما مجموعة "المسلخ" لهبة الأنصاري فهي تعكس العلاقة التبادلية بين الجسد الحي والجسد الميت، بحضور جسد الفنانة مباشرة داخل الصورة الفوتوغرافية وهي تتعامل مع الأشلاء الإنسانية.
وتبدو تجربة الفنانة عزة أبو ربعية مميزة في تأكيد رغبتها في الحياة، فتدعونا دُميتها المتبسمة التي صنعتها في السجن من خيوط بطانيتها البالية إلى التفكير بالدينامية التي يمثلها فعل مقاومة العنف، أما معركتها مع الأسود والأبيض فهي رسومها التي أنجزتها للتذكير بتجربة الاعتقال والخوف والترهيب والاستجواب بعد خروجها إلى الحرية.