أكد السكرتير الصحافي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف أن رئيس النظام السوري توصل بصورة مستقلة إلى استنتاج مفاده أنه سيستقيل من منصب رئيس الدولة (أ ف ب)
تعددت الروايات والقصص حول طريقة هرب رئيس النظام السوري المخلوع بشار الأسد من البلاد ليلة الثامن ديسمبر (كانون الأول) الجاري، إلا أن جميعها اتفقت على أن إقناعه بضرورة المغادرة الفورية وتنظيم عملية الفرار وتأمين وسيلة النقل التي أقلته إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية قرب اللاذقية، تولاها ضباط كبار من المخابرات الروسية، وبعد ذلك أمّنوا عملية سفره جواً إلى العاصمة الروسية موسكو.
وذكر موقع "قفقاز إنفو" أن الأسد تمكن من الفرار من البلاد بمساعدة مباشرة من ضباط المخابرات الروسية الذين نظموا تحركه الآمن إلى قاعدة حميميم الجوية الروسية في محافظة اللاذقية ومن هناك إلى موسكو.
وأكدت مصادر هذا الموقع أن الطائرة التي استقلها الأسد من دمشق إلى حميميم طارت في طريقها مع إيقاف تشغيل أجهزة الإرسال والاستقبال الخاصة بها لتجنب تعقبها وضربها من قبل الدفاعات الجوية التي يحتمل أن تكون لدى المناوئين له.
ووصفت مديرية المخابرات العامة الروسية المعلومات التي انتشرت حول احتمال تحطم الطائرة التي كانت تقّل الأسد بأنها معلومات مضللة استخدمتها روسيا لتغطية عمليتها لإنقاذ رئيس النظام السوري ودائرة محدودة من الأشخاص المقربين منه.
"المعركة خاسرة... غادر فوراً"
وقبل إقلاع الطائرة بـ 15 دقيقة أقنعت الاستخبارات الروسية الرئيس السوري السابق بأنه سيخسر المعركة ضد المتمردين المسلحين، وأن جيشه يتقهقر أمام قوات المعارضة ويترك مواقعه من دون أن يبدي أي مقاومة تذكر، وأن موسكو غير قادرة على إرسال قوات لوقف تقدمهم، وقالت ثلاثة مصادر مطلعة في موسكو لهذا الموقع إن ضابطين من المخابرات الروسية عرضا على الأسد طريقة آمنة للمغادرة إذا وافق على القيام بذلك على الفور، فالكرملين الذي لا تزال تطارده مشاهد الفيديو التي تظهر مقتل وتقطيع أوصال حليفه الزعيم الليبي السابق العقيد معمر القذافي على يد حشد من الغوغاء خلال الحرب الأهلية الليبية عام 2011، خشي أن يلقى الأسد المصير ذاته وأن يُحمل مسؤولية عدم المسارعة إلى تخليصه من براثن مناوئيه، لذلك اتخذ خطوات سريعة وحاسمة لإنقاذ حليفه عندما خلص إلى أنه لم يعد بإمكانه دعم النظام السوري.
وأكدت الممثلة الرسمية لوزارة الخارجية الروسية ماريا زاخاروفا تقديم الجانب الروسي مساعدة حاسمة في سفر الأسد إلى الخارج، وقالت "جرى تقديم المساعدة بالقدر المطلوب ضمن اللفتة الإنسانية المذكورة"، مضيفة "سأصيغ الأمر بهذه الطريقة".
وأكد السكرتير الصحافي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف أن رئيس النظام السوري توصل بصورة مستقلة إلى استنتاج مفاده أنه سيستقيل من منصب رئيس الدولة، ووفقاً له "لقد كان هذا قراراً شخصياً للأسد".
الخارجية الروسية
بعد ساعات قليلة من ظهور معلومات عن فرار الأسد من دمشق ذكرت وزارة الخارجية الروسية أن الأسد "قرر ترك المنصب الرئاسي وغادر سوريا وأعطى تعليماته بتنفيذ عملية انتقال سلمي للسلطة"، وأن روسيا لم تشارك في هذه المفاوضات.
وقالت الوزارة في بيان "نناشد جميع الأطراف المعنية بدعوة مقنعة لنبذ استخدام العنف وحل جميع قضايا الحكم من خلال الوسائل السياسية".
وقال نائب وزير الخارجية الروسي سيرغي ريابكوف خلال مقابلة مع شبكة "إن بي سي نيوز" إن الأسد موجود في روسيا وهو آمن، ووفقاً له فقد جرى إحضار رئيس النظام السابق إلى البلاد "بطريقة آمنة" تماماً.
وأكد ريابكوف "أن الأسد محمي، وهذا يظهر أن روسيا تتصرف كما هو مطلوب في مثل هذا الوضع الطارئ".
وأضاف نائب وزير الخارجية أن "ليس لديه أي فكرة عما يحدث للأسد الآن"، موضحاً أنه "سيكون من الخطأ للغاية بالنسبة إليّ أن أخوض في التفاصيل حول ما حدث وكيف جرى حله".
وبحسب ريابكوف فإن موسكو ستواصل دعم الأسد، وتعليقاً على إمكان تسليمه بناء على طلب المحكمة الجنائية الدولية، أشار نائب وزير الخارجية إلى أن روسيا "ليست عضواً في الاتفاق الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية".
وكما أشار ريابكوف فإن روسيا مقتنعة بقوة بأن سوريا "يجب أن تكون ذات سيادة وموحدة ومتكاملة" بغض النظر عمن سيتولى السلطة فيها، وأعرب الدبلوماسي عن أمله "في ألا يكون لدينا وضع هناك" يعني فصل أجزاء من سوريا عن بعضها بعضاً، كما دعا ريابكوف إلى "النظر بجدية لما يحدث في هضبة الجولان"، ووفقاً له فإن "إسرائيل ملزمة بالامتثال لاتفاق وقف إطلاق النار عام 1974 ويجب ألا تنتهك وحدة الأراضي السورية".
الأسد استعد مسبقاً للفرار
فور انهيار النظام في سوريا وفرار أركانه كشفت الصحافة الروسية أن عائلة بشار الأسد التي منحها الكرملين حق اللجوء الإنساني في روسيا تمتلك ما لا يقل عن 19 شقة فاخرة داخل مجمعات سكنية باهظة الثمن في موسكو، وذكرت أن الكلفة الإجمالية للعقارات المذكورة تبلغ 40 مليون دولار، وأن الأسد وعائلته اشتروا هذه العقارات قبل أكثر من 10 أعوام، مما يعني أنهم فكروا في إيجاد مكان آمن للجوء إليه في حال الاضطرار، حتى قبل التدخل الروسي لدعم نظام الأسد صيف عام 2015.
وتقع الشقق الـ 19 على أراضي حي راقٍ وفاخر في العاصمة الروسية يعرف باسم "موسكو سيتي"، وهو حي بنته شركات تجارية للمقتدرين داخل العاصمة الروسية. وراجعت صحيفة "فايننشال تايمز" الوثائق التي حصلت عليها منظمة مكافحة الفساد "غلوبال ويتنس"، وبحسب معلوماتهم فإن 13 شقة من هذه الشقق مملوكة مباشرة أو من خلال شركات يسيطر عليها ابن خال للأسد من آل مخلوف، كما أن زوجة ابن خاله الآخر رجل الأعمال السوري النافذ رامي مخلوف لديها شقتان من هذه الشقق.
وتشير "فايننشال تايمز" إلى أن "أربع شقق في الأقل تُستخدم للسكن، إحداها مملوك للأخوين التوأم إيهاب وإياد مخلوف، وهما أيضاً أبناء خال الأسد".
وبالنسبة إلى التعاملات فقد استخدمت عائلة بشار الأسد شركات خارجية لشراء هذه الثروة العقارية، إذ قامت بتسجيل العقارات رسمياً.
ويشار إلى أن جميع إخوة الأسد الذين يمتلكون عقارات في موسكو يخضعون لعقوبات دولية، ووفقاً للسفير الروسي السابق لدى السعودية أندريه باكلانوف فإن الأملاك العقارية لعائلة رئيس النظام السوري المخلوع في موسكو هي نتيجة للعقوبات التي فرضتها الدول الغربية على عائلة الأسد.، وقال السفير باكلانوف "من الطبيعي تماماً أن يستثمر أفراد النخبة السورية أموالهم في بلدان لن يحدث فيها أي شيء لهم".
ويقع المجمع السكني المكون من ناطحتي سحاب ويضم الشقق التي اشتراها آل الآسد في منطقة تشتهر ببنيتها التحتية الفاخرة، وتقول الصحافة الروسية إن عائلة الأسد تواصل العيش بأسلوب حياة فاخر.
وكتبت "إندكس" أن أسماء الأسد، زوجة بشار الأسد، المعروفة بعاداتها الباهظة في التسوق، ظلت تواكب زوجها وأنفقت مئات آلاف الدولارات على الأثاث والملابس وغيرها من السلع الفاخرة، وبحسب المصادر فإن عائلة الأسد تخفي أصولها في كثير من الحسابات والشركات الوهمية، فيما تقدر ثروتها بـ 2 مليار دولار.
وتعتقد ممثلة منظمة "غلوبال ويتنس" لمكافحة الفساد، إيزابيل كوشيف، أن الاتفاقات العقارية هي دليل على كيفية مساعدة روسيا للمتعاونين مع النظام السوري الخاضعين للعقوبات، وبرأيها فإن "هذا يسمح لعائلة الأسد باللجوء إلى موسكو والتمتع بأسلوب حياة فاخر بينما تشتعل سوريا".
ولم يرد المتحدث باسم الكرملين ديمتري بيسكوف على طلب للتعليق على سبب حظر الاقتراب من الحي الذي يقطنه آل الأسد.
إنقاذ ما يمكن إنقاذه
وفيما لم يعلق الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بعد على سقوط آل الأسد ولو بكلمة واحدة، على رغم مرور أكثر من أسبوع على ذلك، قال مصدر مقرب من الكرملين إن سيد الكرملين طالب مخابرات بلاده بتفسير لماذا لم تلاحظ قوات الأمن الروسية في السابق التهديد المتزايد لنظام الأسد.
وأكد المصدر أن الجنود الروس المتمركزين في سوريا هاجموا في البداية الجماعات المتمردة المسلحة في سوريا وحاولوا تعزيز وضع قوات نظام الأسد، لكن لم يكن بوسعهم وقف تقدم المسلحين بقوتهم وحدها.
وتفسيراً لذلك قال أحد المصادر إنه نظراً إلى سلبية قوات النظام السوري والاقتراب السريع للمتمردين من دمشق، فقد خلصت روسيا إلى أنها لا تستطيع حماية نظام الأسد.
وقال رئيس مركز تحليل الصراعات في موسكو، رسلان بوخوف، إنه كان "من المنطقي للغاية أن تطلب روسيا من الأسد الاستسلام لأنها تريد تجنب حمام دم يعاني فيه حليفها الأسد المصير نفسه الذي لقيه القذافي أو الرئيس العراقي الراحل صدام حسين".
وبينما تخشى روسيا على مصير قاعدتين عسكريتين رئيستين لها في سوريا، الميناء البحري في طرطوس والقاعدة الجوية في حميميم، فإنها تحاول الحفاظ على جو من الثقة بعد تسلم المتمردين السريع مقاليد الأمور في سوريا.
وانعكس التطور الخاطف للأحداث سلباً على روسيا، فالدولة التي تدخلت وأرسلت جنودها وأبقت على نظام الأسد حتى النهاية لم تكن تتوقع أن ينهار النظام السوري بين ليلة وضحاها، على رغم أنها سحبت معظم قواتها من هناك عند بدء عمليتها العسكرية الخاصة في أوكرانيا في الـ 24 من فبراير (شباط) 2022، ولم تبقِ سوى المجندين الذين يحرسون القواعد العسكرية وهم غير قادرين على مواجهة تقدم المسلحين.
ويشير بوخوف إلى أن "روسيا قصفت المتمردين في البداية لكنها توصلت لاحقاً إلى استنتاج مفاده أنها لا تستطيع حماية النظام مع دخول قوات المعارضة إلى مدينة حمص الإستراتيجية".
وكتبت الصحف الروسية تصف الهجمات التي أسقطت نظام الآسد وتقول "لقد ركّبوا الأسلحة بشكل مذهل على الدراجات النارية وسيارات الجيب عبر الصحاري السورية كما في فيلم 'ماد ماكس' واحتلوا العاصمة، ولم يواجه المعارضون أي مقاومة من الجيش السوري في طريقهم، فقد غادرت بعض الوحدات المدينة من دون قتال، واتجه بعضهم الآخر إلى جانب المتمردين وفر بعضهم إلى العراق المجاور".
وأضافت، "بعد سقوط نظام بشار الأسد فقدت روسيا حليفاً رئيساً لها في الشرق الأوسط، وكان الاهتمام الرئيس لروسيا في سوريا ولا يزال هو الحفاظ على القواعد العسكرية في طرطوس وحميميم، والتي تعتبر مهمة للنفوذ الروسي في كل من الشرق وأفريقيا".
تحميل الأسد مسؤولية ما حدث
تصر وسائل الإعلام الروسية على أن الأسد هو المسؤول عن هزيمته، وأن موسكو حافظت على كلمتها وعهدها معه بعدم التراجع عن ذلك طالما استطاعت إلى ذلك سبيلاً، وقال السكرتير الصحافي للرئيس الروسي دميتري بيسكوف إن أولوية بلاده في المقام الأول هي تحقيق أهدافها في أوكرانيا وإحراز النصر هناك، وكذلك تحرير مقاطعة كورسك التي استولت عليها قوات أوكرانية هجينة قبل تقديم أية مساعدة لأي طرف خارجي.
واعتبر الباحث في معهد الدراسات الشرقية التابع للأكاديمية الروسية للعلوم والمحاضر الأول في المدرسة العليا للاقتصاد بجامعة الأبحاث الوطنية غريغوري لوكيانوف، أن "الأسباب السياسية الداخلية لعبت دوراً رئيساً في سقوط نظام بشار الأسد"، ووفقاً له "فبعد دخول القوات الروسية عام 2015 واستقرار الوضع لم تقم حكومة الأسد بأية إصلاحات اقتصادية وسياسية جدية، وبالتالي لم تتبع توصيات السلطات الروسية والإيرانية ولم تنفذ الاتفاقات المبرمة بصيغتي أستانا وجنيف"، وأكد الباحث الأكاديمي المقرب من بوتين أن "هذا بدوره حال دون القضاء على المشكلات ذاتها التي أدت إلى 'الربيع العربي' والحرب الأهلية، وهي الفساد وسوء الإدارة والمحسوبية في الخدمة المدنية والقوات المسلحة، يضاف إلى ذلك عدم إحراز تقدم في التعافي الاقتصادي بسبب العقوبات الأميركية".
وفي عام 2015 أعلن الرئيس بوتين عقب تدخل قواته في سوريا آفاق الحوار السياسي بين الأطراف السورية، وأن دلائل تشير إلى أن قيادة البلاد تعتقد "أنها بحاجة إلى البدء بالتفاوض"، مضيفاً أن "المعارضة تريد محاربة تنظيم 'داعش' وهي تفعل ذلك عملياً، ونحن ندعم جهودهم تماماً مثل جهود الجيش السوري، ونحن نرى عملية تقارب والقيادة السورية نفسها تعتقد أننا بحاجة إلى البدء في التوصل إلى اتفاق"، لكن بوتين ختم قائلاً "من الآن فصاعداً لن نكون سوريين أكثر من السوريين أنفسهم".
وقال لوكيانوف إنه "في ظل هذه الظروف بدأ الجيش السوري، وهو الجيش نفسه الذي جرى تشكيله خلال الحرب بدعم من المستشارين العسكريين الإيرانيين والروس، بالانكماش لأن الحكومة لم يكن لديها فعلياً الأموال اللازمة لدفع كلفة خدماته"، ونتيجة لذلك تخلت الحكومة السورية عن التعبئة والتجنيد ولم يتبق سوى جيش ليس لديه أي إمداد عملياً، ونتيجة لذلك انخفض حافز القوات المسلحة إلى الحد الأدنى تقريباً وتراجعت احترافيتها أيضاً.
واستمر الوضع في التدهور وسط ركود العمليات العسكرية بعد الهدنة في مارس (آذار) 2020، وأشار الخبير إلى أن النظام السوري لم يهتم بإعادة تسليح جيشه وإعادة تجهيزه، وفي الوقت نفسه كانت "هيئة تحرير الشام" تعمل على تعزيز قواتها، وكتبت صحيفة "فايننشال تايمز" أيضاً أن المجموعة مجهزة بأسلحة حديثة وقد أنشأت إنتاجها الخاص من الصواريخ بعيدة المدى والقذائف الصاروخية وقذائف الهاون، وهي تستخدم الطابعات ثلاثية الأبعاد لتصنيع بعض الأجزاء.
وقال العالم السياسي والخبير المستقل في مجال صراعات الشرق الأوسط، كيريل سيمينوف، إنه "طوال الحرب الأهلية كانت 'هيئة تحرير الشام' بالفعل القوة الأكثر استعداداً للقتال، لكنها استمرت في زيادة إمكاناتها وبنشاط بعد عام 2020، ولقد أتقن أفرادها مهارات وأساليب حربية جديدة، وافتتحوا كلية عسكرية، وجرت إعادة تدريب جميع أمرائهم وحصلوا على رتب عسكرية، وجرى تقديم تسلسل هرمي عسكري صارم، ثم اتبعت جميع المجموعات التي وحدت في مديرية العمليات العسكرية المسار نفسه".
من جهته يشير لوكيانوف إلى أن "الوضع الجيوسياسي لعب أيضاً دوراً ثانوياً ولكنه مهم"، مشيراً إلى أن "الأولوية الرئيسة بالنسبة إلى روسيا كانت العملية العسكرية في أوكرانيا، فلقد جرى إضعاف موقف إيران بصورة كبيرة بسبب المواجهة مع إسرائيل، كما أن جماعة 'حزب الله' الموالية لإيران والتي تحملت عبئاً كبيراً خلال القتال البري في سوريا أصبحت الآن منضمة في الصراع مع إسرائيل ولا يمكنها تقديم المساعدة لا للأسد ولا لإيران".
ويعتبر لوكيانوف أن "الدعم الذي قدمته الولايات المتحدة وتركيا وإسرائيل للجماعات السورية في إدلب مهم أيضاً"، مضيفاً أنه "على رغم بعض أوجه التشابه مع صعود حركة 'طالبان' إلى السلطة لكن الوضع في سوريا مختلف تماماً، فهناك كثير من الجماعات العاملة على الأراضي السورية و تتمتع بإمكانات عسكرية كبيرة وأيديولوجيات مختلفة.، وفي ظل هذه الظروف فمن غير المتوقع أن تتمكن قوة سياسية واحدة من فرض توازن قوى إيجابي ورؤية للمستقبل على الجميع، ومن ناحية أخرى فالمجتمع السوري منهك ومتعب، والناس على حافة البقاء على قيد الحياة، وبالتالي فهم مستعدون لدعم أي حكومة مستعدة لضمان السلام والرخاء لهم، وفي الأقل بعض التحسن في نوعية الحياة، وإضافة إلى ذلك تشكل الخلايا النائمة لتنظيم 'داعش' والمتشددين المفرج عنهم من السجون تهديداً خطراً"، فيما لم يستبعد الخبير "إمكان عودتهم للكفاح المسلح أو الاندفاع إلى الدول المجاورة، مستغلين أجواء الحرب في غزة ولبنان".
كذلك اعترف سيميونوف أيضاً بتزايد نشاط تنظيم "داعش" المحظور نتيجة انسحاب قوات الحكومة المنهارة من جنوب شرقي سوريا، لكنه استبعد حدوث نمو قوي في نفوذ الجماعة، إذ لم يحدث أي فراغ على هذا النحو هناك إلا وملأته التشكيلات الكردية وقوات أخرى، وقال "يجب أن نفهم أنه لا يمكن التوفيق بين 'داعش' وهيئة تحرير الشام".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
روسيا وفية لأصدقائها
كان وصول رئيس النظام السوري السابق بشار الأسد إلى موسكو بمثابة إشارة للغرب بأن روسيا تواصل دعمها وأنها لا تتخلى عن حلفائها، وقد صرح بذلك أستاذ السياسة الدولية بجامعة تافتس، دانييل دريزنر، بحسب ما ذكرت صحيفة "وول ستريت جورنال".
وأعربت الصحيفة عن اعتقادها بأن "سقوط نظام الأسد، وهو أحد شركاء الكرملين، من المفترض أن يكون له تأثير سلبي في سمعة روسيا في الدول الأفريقية"، وتشير "وول ستريت جورنال" إلى أن "قادة الدول في المنطقة الأفريقية ينظرون إلى موسكو على أنها ضامنة للاستقرار على خلفية التهديدات من الخارج أو الداخل"، ويعتقد دريزنر أن "وصول الأسد إلى موسكو يدل بوضوح على ولاء روسيا لحلفائها حتى في مواجهة الضغوط الدولية"، مؤكداً أن "هذا يثبت أن روسيا لا تتخلى عن نفسها".
أردوغان في دائرة الشك
فور انهيار النظام السوري وفرار الأسد إلى موسكو شكك الإعلام الروسي في الدور "الإسخريوطي" (نسبة ليهوذا الإسخريوطي الذي سلّم السيد المسيح لصالبيه) الذي لعبه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وقالت مواقع تابعة للمعارضة الروسية إن الرئيس التركي أظهر لبوتين كيف ينبغي أن تكون الحرب الخاطفة التي تحقق نصراً سريعاً ولم تستطع القوات الروسية إحرازه في أوكرانيا خلال عمليتها العسكرية المستمرة هناك منذ أكثر من 34 شهراً.
وأعرب الخبير العسكري أوليغ جدانوف عن رأي مماثل، مؤكداً أنه "من المفيد لتركيا إخراج روسيا من الشرق الأوسط"، مشيراً إلى أن "المسلحين المناوئين للأسد قاتلوا بشكل رئيس في حملات عسكرية خاصة بدأت تتشكل بعد اختفاء ميليشيات 'فاغنر' الروسية الخاصة عن الأنظار في سوريا".
وأضاف، "نظراً إلى أن روسيا ليس لديها ما يكفي من القوات والمعدات في سوريا وأن الوضع السياسي لم يكن في مصلحتها، فقد قرر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان التصرف بمكر من دون استخدام جيشه للإطاحة بنظام الرئيس السوري الذي رفض عروضاً كثيرة للاجتماع معه".
وأوضح أوليغ جدانوف أن "روسيا حولت انتباهها في الواقع عن سوريا واستغلت تركيا ذلك"، مضيفاً أن "المتمردين السوريين اتفقوا على شن هجوم كبير مع تركيا، الداعم الرئيس للمعارضة، قبل ستة أشهر من سقوط نظام بشار الأسد".
انقلاب أقرب حلفاء الأسد في موسكو عليه
في غضون ذلك علق السفير السوري في موسكو بشار الجعفري، الذي يعتبر من أقرب الدبلوماسيين للرئيس السوري المخلوع، على هرب الأسد من دمشق قائلاً إن "انهيار النظام الفاسد في غضون أيام يشير إلى عدم شعبيته وقلة الدعم سواء في المجتمع أو في الجيش والقوات المسلحة، وإن الهروب المخزي والمهين لرئيس هذا النظام تحت جنح الظلام من دون أي شعور بالمسؤولية الوطنية تجاه الوطن، يؤكد الحاجة إلى التغييرات التي حدثت، ويثير الأمل بمستقبل أفضل وتوفير فرص التنمية للناس والبنية التحتية للبلاد."
ووصف السفير بشار الجعفري الذي ترأس سابقاً بعثة سوريا في الأمم المتحدة ودافع بشراسة عن سياسات النظام السوري ضد مناوئيه، ما قام به الأسد بالفرار "المخزي والمهين" من البلاد، والأهم أنه قال ذلك في برنامج "بكلمة واحدة" على قناة "آر تي" العربية التابعة للكرملين.
وبحسب الجعفري فإن سوريا عانت "المصالح الدائمة لتجار الوطن والمتلاعبين والشعارات الرخيصة والكذابين المحترفين الذين استفادوا من كرامة الشعب منذ عقود، لكن نظام الفساد سقط في غضون أيام، مما يدل على عدم شعبيته وقلة دعمه سواء في المجتمع أو في صفوف الجيش والقوات المسلحة"، معرباً عن أمله في "تغييرات سلمية مع تجنب مزيد من الضرر لسوريا وشعبها".
وقال دبلوماسي رفيع في السفارة السورية في موسكو لصحيفة "كوميرسانت" الروسية "نعم إنه موجود في موسكو"، موضحاً أنه لا توجد اتصالات بين البعثة الدبلوماسية السورية وبشار الأسد.
وبعد رفع علم الثورة السورية على مبنى السفارة السورية في موسكو خلال اليوم التالي لوصول الأسد إليها، أقامت الجالية السورية في روسيا اليوم الثلاثاء احتفالاً حاشداً بإسقاط ما سمته "نظام الأسد المجرم"، ودعت إلى هذا الاحتفال أبناء الجاليات السورية والعربية والأجنبية، وممثلي وسائل الاعلام العربية والروسية والأجنبية لتوثيق انتصار الثورة السورية العظيمة في مقر السفارة السورية في موسكو.
يانوكوفيتش السوري
وأصبحت روسيا ملجأً لكثير من الرؤساء المنفيين وأحدثهم بشار الأسد، والذي سيدفع ثمناً باهظاً في موسكو لتسببه بمشكلة إضافية لبوتين المثقل بالمشكلات وبأصدقاء هاربين إلى حِماه، لكن الأسد لن يزأر بعد اليوم وسيحافظ على صمته وعلى معلوماته في الوقت الحالي، لكنه في غضون أعوام قليلة قد يحذو حذو الرئيس الهارب فيكتور يانوكوفيتش الذي أراد الكرملين إعادته لرئاسة أوكرانيا بعد بدء حرب واسعة النطاق، وقد يواجه الأسد مصير يانوكوفيتش نفسه المنسي حالياً في مدينة بعيدة عن موسكو.
وفيما صارت روسيا ملجأً لكثير من الرؤساء المخلوعين والفارين، صار الأسد مثله مثل عشرات قادة الدول الأخرى اللاجئين في سهوب الثلج الروسية بعد الإطاحة بأنظمتهم، مثل الرئيس السابق لقيرغيزستان عسكر أكاييف، والرئيس السابق لأنغولا خوسيه إدواردو دوس سانتوس، والرئيس السابق لمنغوليا يومزاجين تسيدينبال.
وكل هؤلاء لا يعيشون مجاناً، لذا فإن عائلة بشار الأسد ستدفع أيضاً للمسؤولين الروس مبالغ غير قليلة في مقابل العيش في موسكو، ولذلك فإن الروس مستعدون لبيعه الجنسية والحماية الروسية، والأهم من ذلك أن الرئيس الرابع لأوكرانيا فيكتور يانوكوفيتش فرّ أيضاً إلى روسيا و لم يسمع عنه أحد لفترة طويلة، ولكن في بداية الحرب الروسية واسعة النطاق على أوكرانيا أحضرت السلطات الروسية الرئيس الأوكراني الهارب إلى بيلاروس، وكان الكرملين يأمل في إعادته مرة أخرى إلى الرئاسة الأوكرانية، وقد يواجه بشار الأسد مصيراً مماثلاً.
وإذا بدأت أية مناقشات في سوريا خلال 10 إلى 20 عاماً فقد ترشحه روسيا وتقول لمحاوريها "لدينا الرئيس السوري السابق بشار الأسد، هل تريدونه أم لا؟".
وقال الباحث الإستراتيجي السياسي ميخائيل شيتلمان إن "الأسد الآن سيلتزم الصمت وينصرف إلى حياته الشخصية، ومع ذلك ففي غضون أعوام قليلة سيبدأون في الحديث عنه أكثر فأكثر، كما فعلوا مع يانوكوفيتش بعد الـ 24 من فبراير 2022".
يذكر أنه قبل ساعات من فراره أكد الأسد للعشرات من قادة الجيش والأمن أن الدعم العسكري الروسي قادم، وكان آخر من تحدث معه هو رئيس الوزراء السوري محمد الجلالي الذي تحدث عن "الذعر والرعب" في الشوارع، ورد الأسد على ذلك قائلاً "سنرى كيف تصبح الأمور غداً"، فالأسد المرعوب ضلل رئيس مكتبه الذي أخبره بأنه سيعود لمنزله بعد يوم عمل، ومستشارته الإعلامية بثينة شعبان التي طلب منها الحضور إلى منزله لكتابة كلمة، ومع ذلك لم يكن هناك أحد، فقد اختفى الأسد من عرينه وتوجه إلى المطار.
ويبدو أن الهرب كان سريعاً، إذ ترك المنزل مع طعام مطبوخ على الموقد وبعض المتعلقات الشخصية مثل ألبومات الصور العائلية، وقال مساعدون إن الأسد فشل أيضاً في إبلاغ خططه إلى شقيقه الأصغر ماهر الذي كان يقود فرقة مدرعة خاصة وفر بعد ذلك إلى موسكو، ولم يعرف ابنا خاله اللذين كانا يحاولان الوصول إلى لبنان بالسيارة عن هروبه، ولكن في الطريق أطلق المتمردون النار على أحدهما فقتلوه وأصابوا الآخر، إلا أنه لم يكن هناك تأكيد رسمي للوفاة، وقد هرب الأسد إلى موسكو بالطائرة حيث كانت زوجته وأطفاله الثلاثة بانتظاره بعد أن قادهم إلى العاصمة الروسية قبل أيام قليلة من فراره.
ويدعو الروس إلى أن يكون موقف بلادهم تجاه هؤلاء الرؤساء مختلفاً عن أولئك الذين دافعوا عن أفكارهم ومبادئهم حتى وهم يتلقون الرصاص المعادي في صدورهم، مثل الرئيس التشيلي سلفادور أليندي والزعيم الليبي معمر القذافي والرئيس الأفغاني الموالي لموسكو محمد نجيب الله، وغيرهم من الأشخاص الذين ماتوا والسلاح بأيديهم فلقوا تعاطفاً أكبر بكثير من أولئك الهاربين إلى مزبلة التاريخ.
وربما كان سقوط نظام بشار الأسد في سوريا أحد أكبر الاضطرابات في تاريخ الشرق الأوسط، في الأقل خلال العقود القليلة الماضية، والواقع ليس فقط أن أحد أقدم الأنظمة السياسية في هذه المنطقة المعقدة قد انتهى، بل إن العصر الذي يمكن تسميته تقليدياً بـ "الاشتراكية العربية" والذي نشأ بعد الحرب العالمية الثانية وسط موجة شعبية من الأفكار الاشتراكية قد انتهى أيضاً، وعلاوة على ذلك لا يرتبط هذا فقط بالتاريخ الطويل للعلاقات بين سوريا وحزبها الحاكم مع الاتحاد السوفياتي، على رغم أن هذا التاريخ لم يكن مشرقاً جداً مع أنه كان حافلاً بأحداث جسام.