مبنى السفارة الإيرانية في دمشق تعرض للتخريب بعد سيطرة فصائل المعارضة السورية على العاصمة (أ ف ب)
من وسط دمشق، التي يسميها أهلها "عاصمة الأمويين"، ظهر القائد العام لإدارة العمليات العسكرية أحمد الشرع ليصرح بأن "سوريا ليست بصدد دخول حرب مع إسرائيل"، مما أثار سخط كثر ورضا آخرين، لكنه تصريح هدأ من روع سوريين أرهقتهم حروب مزقت بلادهم إرباً، وشردت أهلها، وأخرجت آلاف الجثث من السجون.
من الضفة الأولى تبدو تصريحات الشرع إعلاناً بأن "سوريا الجديدة لن تكون ضمن محور المقاومة"، ويبرر سوريون ذلك بأن رفض دمشق الانضمام إلى المحور الإيراني ليس كرهاً في فلسطين، وإنما لأن النظام المخلوع استخدم القضية الفلسطينية على مدى عقود حجة لإدخال إيران وتغلغلها، وفي المقابل لم يطلق رصاصة واحدة تجاه إسرائيل، وعلى العكس تماماً كان النظام السوري مأمون الجانب بالنسبة إلى تل أبيب التي لم تتدخل في الحرب السورية لمصلحة أحد، وغالب ضرباتها كانت تستهدف التجمعات والمقار الإيرانية، متجنبة المواقع العسكرية لجيش النظام السابق.
في الضفة الثانية، إيران كانت حليفة موثوقة للنظام السوري منذ عهد الأسد الابن، وبعد ثورة 2011 تحول التغلغل الإيراني في سوريا من ثقافي طائفي محدود إلى عسكري ديموغرافي واسع، وكانت الميليشيات الإيرانية تستخدم العنف بهدف الترويع، فوثقت المنظمات الحقوقية استخدامها السكاكين والحرق لقتل معارضي النظام بما في ذلك المدنيون وحتى الأطفال، وعملت على استحضار التاريخ، فأعلنت إيران على لسان مرشدها علي خامنئي أنها تبحث عن ثأر قد مضى عليه أكثر من 14 قرناً، فقبل أسابيع قليلة قال المرشد في تغريدة على حسابه الرسمي في منصة "إكس"، إن "المعركة بين الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية مستمرة"، في المقابل يقول السوريون إنهم لا يعرفون الجبهات التي يتحدث عنها المرشد، وليس لديهم إلا جبهة واحدة وهي إسقاط الأسد وبناء "سوريتهم" بعروبتها وتنوعها العرقي والطائفي، فحققوا الهدف الأول، وتقول المؤشرات الحالية إنهم يتجهون إلى تحقيق الهدف الثاني.
بسقوط الأسد، على الفور اتضح الرابح الأكبر والخاسر الأكبر من ناحية المبدأ، الخاسر الأكبر هو إيران، وهذا ما اعترف به المسؤولون الإيرانيون صراحة، واعترف به أيضاً الأمين العام لـ"حزب الله" اللبناني نعيم قاسم، لكن هل تحاول إيران العودة إلى سوريا؟
الذاكرة السلبية
الباحث في مركز "جسور" للدراسات، الصحافي السوري فراس فحام يقول إن "إيران هي أكبر الخاسرين من سقوط نظام بشار الأسد، لأنها عملت على الاستثمار به لأعوام طويلة، وهي على عكس روسيا كانت تحصر خياراتها في شخص بشار الأسد، وكانت تعول على بقائه بهدف تحويل مجهودها الحربي وما بذلته إلى مكاسب اقتصادية وسياسية".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يضيف فحام أن "الإشكالية الأساس التي تعترض إيران اليوم هي أن الذاكرة السورية أصبحت سلبية تجاه إيران، لذا فلم يعد هناك أطراف في سوريا يمكن لإيران أن تتعامل معها من أجل تأمين مصالحها، وبالنسبة إلى الطائفة الشيعية في سوريا فعددها قليل ولا يشكل نسبة كبيرة من السوريين بخلاف العراق، فهم أقلية موجودون في أربع أو خمس مناطق فقط وبأعداد قليلة نسبياً".
البوابة الكردية
ويشير الصحافي السوري إلى أنه "من الواضح اليوم أن إيران تحاول استمرار التدخل في سوريا عبر تيار محدد ضمن قوات سوريا الديمقراطية، وهذا التيار الموجود ضمن تنظيم ’قسد‘ هو عبارة عن مجموعة تسمى (قوات الدفاع عن عفرين)، وهذه المجموعة بالذات من ’قسد‘ لديها ارتباطات بالحرس الثوري الإيراني، كذلك فإن لدى حزب العمال الكردستاني علاقات وثيقة مع إيران، لكن على رغم ذلك فلا يمكن لطهران التعويل بصورة كبيرة على هذا المكون، لأنه بحسب ما يبدو هناك توجه إقليمي لإنهاء مشروع ’قسد‘ وتحويله إلى مكون سوري ينخرط في الحل السياسي".
ويعتقد الباحث السوري أن "إيران ستبقى تراقب الفرصة من أجل أن تؤجج بعض النزاعات في سوريا لمحاولة تأمين موطئ قدم جديد، لكنها قد تصطدم بعائق كبير وهو وصول الرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب إلى السلطة قريباً، واحتمالية أن يشدد الضغوط على إيران بصورة كبرى، ومن ثم ستُعوق إيران عن محاولات العودة إلى الساحة السورية، وربما أيضاً يتراجع نفوذها في العراق".
خسارة درة التاج
ويتفق الصحافي السوري ناصر العدانان مع وجهة نظر فحام، ويوضح أنه "من الناحية العسكرية أعتقد أن إيران خسرت درة تاج مشروعها الذي هو (مشروع ولاية الفقيه في المنطقة العربية)، فهي لم تخسر سوريا وحسب بل خسرت لبنان أيضاً، وذلك لأن طريقها إلى لبنان يمر بالضرورة عبر سوريا، ومن جانب آخر خسرت التوزع الجغرافي لميليشياتها، فلدينا إحصاءات توثق وجود أكثر من 66 ميليشيا لإيران في سوريا قبل سقوط نظام بشار الأسد، لذا فهي خسرت نفوذها العسكري في سوريا الذي كان يحمي نفوذها الاقتصادي".
ويتابع العدانان "أما من الناحية السياسية فسيكون هناك موقف حازم وصارم من الدولة السورية الجديدة حيال العلاقات مع إيران وطبيعتها، فإذا لم تكن مقطوعة كلياً فإنها ستكون حذرة للغاية، فلا يمكن لسوريا أن تتجاهل أن إيران تورطت في جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية في سوريا، ولن تكون العلاقات الدبلوماسية معها سليمة كبقية الدول، باختصار شديد لدي قناعة بأن هناك إجماعاً سورياً على أن إيران سبب رئيس في كل القتل والخراب الذي حل بسوريا على مدى 13 عاماً".
من جانب آخر يرى الباحث المتخصص في الشأن الإيراني ضياء قدور أن "ما حدث من نتائج لعملية ردع العدوان هو خسارة تاريخية لا تعوض بالنسبة إلى إيران، حتى وإن حاولت طهران اليوم استغلال الاستفزازات الإسرائيلية للتقرب من القيادة السورية الجديدة، وإرسال إشارات بأنها تصطف إلى جانبها، لكن القضية أكبر من ذلك بكثير، فهو ليس موقفاً سياسياً عادياً، وإنما القضية تتعلق بسجل تاريخي دموي لإيران في سوريا، فخلال أكثر من عقد خلقت طهران الحقد والكراهية ضدها بقلوب السوريين، وإذا اتخذت الحكومة السورية الجديدة موقفاً يتقبل إيران ولو سياسياً فلا أعتقد أن خطوة كهذه ستكون مقبولة شعبياً".
يضيف قدور "من الأفضل للساسة الإيرانيين حالياً التخلي عن محاولات عودتهم إلى سوريا، لأن الصورة الدموية لإيران في أذهان السوريين تحتاج إلى زمن طويل جداً حتى تُزال إن أزيلت، ولا أبالغ في القول إن إيران قد تكون خسرت سوريا إلى الأبد، وما يعزز هذا هو الحضور العربي الكبير أخيراً، فقد شهدنا تحركاً عربياً جاداً، وقد يكون جزء من هذا الحراك العربي هو استباق لإيران وللتأكد من أنه لن يكون لإيران أي نفوذ مستقبلي في سوريا، باختصار لا وجود لإيران في سوريا على المديين القصير والمتوسط".
الاحتمالات الأربعة
في المحصلة يجمع المراقبون أن إيران هي الخاسر الأكبر في سوريا بعد سقوط نظام الأسد، ومحاولاتها للعودة تصطدم بعوائق كثيرة، وستنحصر العلاقات السورية - الإيرانية مستقبلاً في أربعة سيناريوهات، أولها الصدام مجدداً من خلال ميليشياتها في العراق أو تلك التابعة لحزب العمال الكردستاني المقربة من الحرس الثوري الإيراني، لكن ذلك السيناريو مستبعد لأسباب عدة، أبرزها أن الأكراد اليوم يبحثون عن حل مع الإدارة السورية الجديدة، وليس لديهم رغبة في التورط بأية أعمال تخريبية من شأنها أن تؤدي إلى عملية عسكرية في شمال شرقي سوريا، ومن ثم يخرج المشروع الكردي من دون أية مكاسب، إضافة إلى أن الجماعات الكردية المسلحة تربطها علاقات جيدة بقوات التحالف الدولي والولايات المتحدة، والأخيرة لن تسمح لها بالتعاون مع طهران.
السيناريو الثاني هو أن تصر القيادة الجديدة لسوريا على عدم إقامة أية علاقات دبلوماسية أو سياسية أو تجارية مع إيران بأي صورة من الصور، وهذا السيناريو أيضاً غير مرجح، لأن إيران على رغم ما فعلته في سوريا تبقى جزءاً من المنطقة، وقد لا ترغب الحكومة السورية الجديدة بأن تشكل إيران جبهة تهديد لها.
أما السيناريو الثالث، وهو الأقرب للواقع، فسيكون فيه لإيران تمثيل دبلوماسي حذر، من دون أن يسمح لها بالتدخل في أي شأن من شؤون سوريا، ومن دون أن تقوم هذه البعثة الدبلوماسية بأية إجراءات من شأنها تهديد أية دولة من دول الجوار، بما في ذلك التعامل مع "حزب الله"، وهذا سيكون بمثابة "مصالحة مشروطة"، ولا يستبعد أيضاً أن تطلب الحكومة السورية من إيران تقديم اعتذار رسمي للشعب السوري، ودفع تعويضات لأسر الضحايا الذين قتلوا على أيدي الميليشيات الإيرانية.
أما السيناريو الرابع المتمثل بسقوط النظام الإيراني، فهو غير مستبعد، وليس بالأمر البالغ الصعوبة، لأسباب عدة، منها خسارة إيران في لبنان وسوريا، والاقتصاد الإيراني المتهاوي، والعقوبات الدولية المفروضة على طهران، وقدوم إدارة أميركية متشددة ضدها، إضافة إلى ذلك كله التصريحات والتهديدات الإسرائيلية العلنية بأنها قد تضرب النظام الإيراني في أية لحظة، وأية ضربة من إسرائيل ستتلقى بالضرورة دعماً أميركياً مباشراً، وفي حال تغيير النظام في إيران فلن تمانع سوريا إقامة علاقات دبلوماسية وحتى اقتصادية.