شخصيات في "سيرك" جواد الأسدي (خدمة العرض)
في أجواء قاتمة، ومقبضة، تدور أحداث مسرحية "سيرك" التي كتبها وأخرجها العراقي الرائد جواد الأسدي، وقدمها على مسرح الرشيد بالعاصمة بغداد، ضمن فعاليات مهرجان بغداد الدولي للمسرح، في دورته الخامسة. المسرحية، التي لم يستطع كاتبها ومخرجها الفكاك من واقعه، في استجابة طبيعية لذلك الثقل الذي فرضه، ويفرضه هذا الواقع، لا تحدد مدينة بعينها تدور فيها الأحداث، وإن أفصح سياقها أنها تدور في الزمن الحالي.
تجريد المكان هنا، جاء لغرض أن تنسحب الأحداث، وهي تنسحب، على مجمل المدن تحت القهر، وتحت الحرب، وتحت الاستلاب، المدن التي لا تقتصر المعاناة فيها على الإنسان وحده، بل تتجاوزه إلى الحيوانات والنباتات والجمادات كذلك. ثمة كلب في المسرحية يتم ذبحه، لأنه أزعج ضابط الأمن بنباحه، وثمة أشجار، في عمق المسرح، ذابلة، وغير مثمرة، ولا حراك فيها، و كذلك سيرك مهدم، فضلاً بالتأكيد، وفي المقام الأول، عن أن لديناثمة بشراً معذبين، تائهين، يرجون الخلاص من تلك الكوابيس التي تطبق على أرواحهم.
صرخة موجعة
هي صرخة موجعة، يطلقها الأسدي، في إطار جمالي، بعيداً من المباشرة، واضحة وغير ملتبسة، وكأنه يعري جراحنا، ويلفت نظرنا إليها، ويضع أيدينا عليها. يطلق أسئلته العميقة والنافذة، ويمضي من دون أن يقدم إجابات، فهي مسرحية الأسئلة الشائكة والمقلقة، عن ذلك المصير الذي صرنا إليه، في محاولة تلمس الأسباب، لعل وعسى نستعيد ذواتنا التي تهدمت، وأرواحنا التي تشوهت، سواء أكان التشوه والتهدم، لحقا بنا بواسطتنا، أو بواسطة الغير.
تقشف جواد الأسدي كثيراً في ديكوراته، وإن أفرط في تشويهها، انعكاساً لواقعه الذي يراه مشوهاً ومهدماً، وربما لا أمل في أن ينهض مجدداً من تحت الرماد، إلا بالدعاء إلى الله أن يكشف الغمة، ويزيح ذلك الظلام القابض على الأرواح، والخراب الذي طاول كل شيء، وكأنه ملك الموت. مجموعة من الألواح الخشبية السوادء، موزعة يمين ويسار المسرح في غير اتساق، وفي العمق ما يشبه حديقة، أو غابة، ذابلة أشجارها، أما المنتصف فمنضدة معدنية باردة، ومقعدان لا أكثر، يتم تغيير وضعياتها تبعاً للمشهد المراد تجسيده، وبواسطة الإضاءة ونقلاتها ومصادر إسقاطها، يتغير المشهد في سلاسة ويسر.
لم يذهب جواد الأسدي إلى السيرك الذي نعرفه، فلا ملامح واضحة تشير إلى أننا بصدد سيرك. إن السيرك المتهدم هنا، جراء الحرب، ما هو إلا رمز، ليس للمدن المهدمة فحسب، لكنه أيضاً رمز للأرواح المهدمة، والمستلبة، بفعل القهر، وسيطرة أولئك الذين يتحكمون بالبشر، ويذلون أعناقهم بحيوانية مرعبة وقاسية.
السيرك، بما فيه من ألعاب مبهجة ومسلية، تحول إلى أثر من بعد عين، إلى مكان آخر بلا ملامح تدل عليه، تماماً كما تحول البشر، حتى الكلب، الذي كان مصدر جذب للرواد، يذبحه صاحبه بعد أن تجرأ على ضابط الأمن ونبح في وجهه، إرضاء للضابط وخوفاً من بطشه.
تسمية مجازية
لم يستخدم جواد الأسدي "ألف لام" التعريف، في تسمية عرضه، اكتفى فقط بـ "سيرك"، فالتسمية هنا، كما يبدو، مجازية، تشير إلى حس ساخر، وأسيان، لدى كاتب ومخرج العمل. ربما لو استخدم التعريف لحصر مسرحيته في تأويل واحد، لكنه، هنا، فتح الباب واسعاً لتعدد التأويلات، وهو ما يشير إلى ذكائه وخبرته، الذكاء والخبرة اللذان تجسدا أيضاً في إدراكه الواضح للغة الخشبة، وإجادة صناعتها، والتركيز على عنصر الصورة، والحوارات السريعة والمقتضبة، باستثناء ذلك المونولوغ الأخير الذي جاء على لسان البطلة (شذى سالم) ربما كان زائداً عن الحد، هو بالتأكيد يمثل صرخة للانعتاق من كل ما تعانيه، هي وغيرها، من قهر، وخيبة أمل، لكن الرسالة كانت قد وصلت. صحيح أن هذه الممثلة الكبيرة أدت المونولوغ بشكل يجسد كل خبرتها المسرحية، وكل ما تختزنه من ألم ومعاناة، استدعت ذلك كله، واستجابت لها صالة المسرح، لكن هذه الطريقة بدت خارجه، أو هكذا أظن، عن سياق العرض، الهامس، المتقشف.
ثلاث شخصيات
يبدأ العرض بصاحب السيرك (علاء قحطان) جالساً إلى المنضدة، يتحدث إلى زوجته (شذى سالم) في الهاتف ويطالبها بالعودة، بعد أن هربت إلى الحدود، وهناك كذلك الروائي (أحمد شرجي) يتحدث على الجانب الآخر من المنضدة، إلى شخص ما. ثم يبدأ استرجاع الأحداث، ونعرف القصة من خلال تلك الحوارات المقتضبة بين الشخصيات الثلاث، فالزوج منسحق، ومطعون في شرفه، بعد أن اغتصب الضابط زوجته، والزوجة، بعد الاغتصاب، لم تعد لديها القدرة على الاستمرار وقررت الهروب، أما الروائي، الذي أحب الزوجة في صباها، ففقد هو الآخر فحولته، ليست الفحولة الفسيولوجية فحسب، بل حتى فحولة الإبداع والقدرة على الكتابة، بعد قهره وتجاهله، وكان في صباه ذائع الصيت. كل الشخصيات هنا، مقهورة ومشوهة، ومحبطة، ولا حيلة لديها، هي شخصيات ميتة أصلاً، كالأشجار التي تنتصب في الخلف، لا حياة فيها ولا ثمر.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كان لافتاً أن أغلب الأحداث تدور خارج خشبة المسرح، تهدم السيرك، قيام الضابط باغتصاب الزوجة، نباح الكلب في وجه الضابط، قيام الزوج بذبح الكلب، علاقة الروائي بالزوجة. كل ذلك لم يتم تجسيده على الخشبة، هو محكي عنه، فهل أراده المخرج كذلك، ضمن منهجه في الاختزال والتكثيف، أم أن أمراً كهذا، يبدو بديهياً، قد فاته؟ ربما يكون الأمر مقصوداً، الابتعاد عن الثرثرة، والاكتفاء فقط بإبراز تأثير ما حدث، وليس تجسيده بشكل منظم، تقود فيه الأحداث إلى غيرها. خبرة الأسدي ترجح ذلك.
عنصر التمثيل
وإذا كان جواد الأسدي قد تقشف في ديكوراته، وحواراته، فإنه لم يتقشف في جرعة التمثيل التي حرص على إشباعها، مدركاً أن هذا العنصر تحديداً، هو الأهم هنا، والأكثر قدرة على حمل الرسالة، فجاء التمثيل في العرض ممتعاً ومتدفقاً، مسيطراً على الفضاء، ومشكلاً له، ومسهماً في صناعة صورته، عوضاً عن التقشف المقصود في الديكور. ولعب أحمد شرجي دور الروائي المهدم، فاقد الفحولة، برصانة ممثل صاحب خبرة، سواء من خلال استخدام مفردات جسده، أو طبقة الصوت التي اعتمدها، في خفوتها وأساها، فبدا مقنعاً، وواعياً إلى طبيعة الشخصية وأزمتها، ونجح في ضبط انفعالاته وترشيدها، كرجل هزمته الأيام والأحداث.
أما الزوجة (شذى سالم) فقد استدعت كل خبراتها الفنية والحياتية، لتجسد أزمة تلك المرأة المقهورة، المغتصبة، فاقدة الأمان والسند، حتى زوجها، الذي خيب أملها بانسحاقه وتعاونه مع القاهر، على رغم كراهيته له، فبدت راسخة ومقنعة وذات حضور لافت. ولعب علاء قحطان دور الزوج، الذي تصارعه عديد المشاعر المتضاربة والمضطربة، وهو ممثل صاحب حضور جيد، وإن غلبته انفعالاته في بعض الأحيان، ما أدى إلى عدم ضبط مخارج الحروف، فلم يصل بعض كلماته بالوضوح المطلوب.
أجمل ما في هذا العرض هو تقديمه الجيد لصورة المسرح العراقي، الذي يستعيد عافيته الآن، ويستعيد دوره، الذي لطالما أثرى المسرح العربي، سواء على يد رواده، أو على يد شبابه، وهم كثر.