البرلمان السوري عريق ويعود تواجده إلى أكثر من قرن (أ ف ب)
"الطبل والزمر ضروريان" هذه الجملة ليست مقتبسة من مسلسل كوميدي أو تجمع شبابي للتسلية، بل صدرت رسمياً في مجلس الشعب السوري، على لسان النائب في المجلس محمد قبنض، المعروف بتأييده المطلق لنظام الأسد، وهو أيضاً النائب نفسه الذي انتشر له تسجيل مصور على أبواب غوطة دمشق بعد خمسة أعوام من حصارها، يوزع فيه الماء على الخارجين من الحصار، لكن لا يعطي قارورة ماء إلا لكل من يقول "الله، سوريا، وبشار وبس".
تقارير إعلامية نقلت الواقعة الحقيقية التي تجلت تحت قبة البرلمان السوري العريق، البرلمان الذي أنشأ منذ أكثر من قرن، وجلس على مقاعده عدد ليس بقليل من قامات سوريا منذ تأسيس الجمهورية في ثلاثينيات القرن الماضي، وحتى استيلاء حزب "البعث" على السلطة بعد انقلاب 1970.
ولاية سوريا... أول تجربة برلمانية
في الـ20 من فبراير (شباط) 1877 شهدت سوريا أول انتخابات برلمانية في تاريخها، على رغم أنها كانت في ذلك الوقت ولاية تابعة للدولة العثمانية، إذ أسست حينها ما يسمى "مجلس المبعوثين"، وهو البرلمان العثماني، خصص لسوريا سبعة نواب منهم أربعة مسلمين وثلاثة من غير المسلمين، وأشرف والي سوريا حينها ضياء باشا على الانتخابات التي تشمل سوريا ولبنان، ومن بين أهم الأسماء التي فازت أمين الجندي من دمشق، ودرويش الشنبور من طرابلس، ونقولا النقاش من بيروت (عن فئة غير المسلمين)، ونقولا نوفل من طرابلس (أيضاً عن فئة غير المسلمين)، وسعيد مرعشلي ونافع الجابري وحسني باقر زادة من حلب، فكان هؤلاء أول من دخل البرلمان في التاريخ ممثلاً عن سوريا ولبنان.
استمر انتخاب سبعة نواب من سوريا ولبنان في البرلمان العثماني حتى عام 1918، ثم غادرت البعثة العثمانية سوريا، وفي الـ19 من يونيو (حزيران) 1919 انعقدت أول سلطة تشريعية في سوريا، وهي المؤتمر السوري العام المؤلف من 85 عضواً من مختلف المناطق والأعراق والطوائف السورية، واستمر المؤتمر حتى إعلانه استقلال سوريا في الثامن من مارس (آذار) 1920، وتتويج فيصل بن الحسين ملكاً عليها، لكن هذا لم يعجب الحلفاء الذين لم يعترفوا بالاستقلال، وفرضوا الانتداب الفرنسي على سوريا ولبنان.
قيام الدولة السورية
الجنرال هنري غورو، كان أول مندوب سامٍ لفرنسا على سوريا ولبنان، في سبتمبر (أيلول) 1920 أصدر غورو ما يسمى "مراسيم التقسيم"، الذي ينص على إقامة دولة جبل لبنان الكبير، وإقامة دويلات عدة أخرى داخل سوريا مثل دولة حلب ودولة دمشق وغيرهما، هذا التقسيم ينص أيضاً على أن يكون لكل دويلة "مجلس تمثيلي"، يُعين ثلثه من المفوضية الفرنسية، وينتخب الشعب الثلثين، لكن بسبب الرفض الشعبي الواسع للتقسيم إلى دويلات، وتلاه قيام "الثورة السورية الكبرى" عام 1925، وافقت فرنسا على قيام "الدولة السورية"، ثم مُهد الطريق أمام انتخابات جمعية تأسيسية لكتابة دستور لسوريا، تلا ذلك تعيين تاج الدين الحسني أول رئيس للدولة السورية.
وفي الفترة ما بين الـ10 والـ24 من أبريل (نيسان) 1928 جرت انتخابات الجمعية التأسيسية لانتخاب 68 نائباً، وتم الوضع كما هو حتى إقرار دستور 1930 الذي نصت "المادة 30" منه على استحداث سلطة تشريعية تحت اسم "مجلس النواب"، وهي بمثابة أول برلمان سوري بعد قيام "الدولة السورية".
مجلس النواب الجديد يراوح عدد النواب فيه ما بين 68 و136 نائباً، يُجدد انتخابهم كل خمسة أعوام، لكن في عام 1933 رفض مجلس النواب بغالبية الأصوات الموافقة على "معاهدة الصداقة والتحالف مع فرنسا"، وذلك لأنها "تمس بحقوق الأمة"، نشأ عن ذلك أزمة بين مجلس النواب السوري والمفوضية الفرنسية، انتهت بإصدار المندوب السامي الفرنسي قراراً بتعليق عمل مجلس النواب، واستمر عمل المجلس معلقاً لثلاثة أعوام.
عام 1936 توصلت المفوضية الفرنسية لاتفاق مع "الكتلة الوطنية" السورية، أدى إلى إنهاء تعليق عمل مجلس النواب وإجراء انتخابات برلمانية ثم رئاسية، أسفرت عن انتخاب هاشم الأتاسي رئيساً لسوريا، وتحسنت العلاقات مع فرنسا حتى توصل الطرفان إلى "معاهدة الاستقلال"، فصوت عليها البرلمان السوري في ديسمبر (كانون الأول) 1936، ولكن عند عرضها على البرلمان الفرنسي رفض المصادقة عليها.
الجلاء الفرنسي
في الانتخابات البرلمانية والرئاسية عام 1943 فازت "الكتلة الوطنية" بغالبية مقاعد مجلس النواب، وفاز شكري القوتلي بالرئاسة، وخلال فترة حكمه شهدت سوريا خطوات ملموسة نحو الاستقلال، مثل عدم ضرورة موافقة المندوب الفرنسي على التشريعات التنفيذية، وعام 1945 انطلقت "انتفاضة الاستقلال"، فرفض حرس البرلمان السوري تأدية تحية العلم الفرنسي، فدهم الجيش الفرنسي البرلمان، وحصلت اشتباكات أدت إلى مقتل 29 جندياً من حرس البرلمان، وانتهت الانتفاضة بالتوصل إلى اتفاق استقلال سوريا وجلاء فرنسا من البلاد وإعلان الاستقلال بصورة رسمية في الـ17 من أبريل 1946، وأصبح يوم عطلة رسمية يحتفل به السوريون كل عام تحت مسمى "عيد الجلاء".
بالمحصلة كان البرلمان السوري خلال فترة الانتداب الفرنسي يمثل الإرادة الشعبية، وأسهم مجلس النواب السوري بالتعاون مع حكومة شكري القوتلي في استقلال سوريا.
انقلابات بالجملة
بعد عام من الاستقلال السوري عن فرنسا، جرت أول انتخابات برلمانية من دون تدخل فرنسي، وحقق "حزب الشعب" الفوز في غالبية المقاعد، وفي عام 1948 جرى تعديل دستوري وافق عليه البرلمان، يقضي بالسماح لشكري القوتلي بالترشح لولاية رئاسية جديدة، لكن مع حدوث نكبة فلسطين، وهزيمة الجيوش العربية بما فيها الجيش السوري، عقد البرلمان السوري جلسة مغلقة مع قيادة الجيش، ووجه له انتقادات لاذعة، وحمله مسؤولية خسارة الحرب في فلسطين، أسفر ذلك، مع أزمة اقتصادية في سوريا، عن خلق صدع بين البرلمان والمؤسسة العسكرية، فأدى ذلك لاحقاً إلى حدوث أول انقلاب عسكري في تاريخ سوريا الحديث بقيادة حسني الزعيم في الـ30 من مارس 1949، فألغى حسني الزعيم الدستور وحل البرلمان، لكن الزعيم لم يستمتع بالسلطة سوى أشهر معدودة حتى تاريخ الـ13 من أغسطس (آب) 1949 لينفذ سامي الحناوي انقلاباً على حسني الزعيم، ليسجل التاريخ السوري انقلابين عسكريين خلال أقل من ستة أشهر.
الحناوي أدار سوريا من خلال سلطة مدنية أجرت انتخابات لـ"الجمعية التأسيسية الجديدة"، وفاز في الانتخابات "حزب الشعب"، وأراد الحناوي تحقيق تقارب مع العراق بهدف الوحدة بين البلدين، وكان يسعى إلى ما يسمى "سوريا الكبرى"، فأسست علاقات قوية اقتصادية وسياسية، وكان هناك أمل حقيقي بالوحدة العراقية السورية، لكن هذا أيضاً لم يدم سوى أشهر قليلة، ففي الـ19 من ديسمبر 1947 نفذ الضابط أديب الشيشكلي انقلاباً عسكرياً على سامي الحناوي، لكن الشيشكلي لم يحل الجمعية التأسيسية، بل تابعت عملها ووضعت دستور 1950 الذي عزز من صلاحيات البرلمان وقلص صلاحيات رئيس الجمهورية، لكن الجيش بقي يتدخل في شؤون السياسة والسلطة التشريعية، حتى إنه اعتقل النائب في البرلمان منير العجلاني، على رغم أن الدستور ينص على حصانة نواب البرلمان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذا الوضع لم يعجب أديب الشيشكلي، ففي الـ29 من نوفمبر (تشرين الثاني) 1951 نفذ انقلابه الثاني واعتقل الرئيس هاشم الأتاسي، وحل البرلمان وعلق الدستور، وأصبح هو الحاكم الفعلي للبلاد، وعام 1953 أراد الشيشكلي تغيير شكل نظام الحكم في سوريا لجعله نظاماً جمهورياً رئاسياً بدلاً من البرلماني، واقترح دستوراً جديداً ومجلس نواب جديداً يتكون من 82 نائباً، وجرت الانتخابات النيابية في التاسع من أكتوبر (تشرين الأول) 1953، إلا أن غالب السوريين والأحزاب السياسية قاطعت الانتخابات، ولم يشارك بها سوى 16 في المئة من مجموع الناخبين، وعلى رغم ذلك فاز حزب "حركة التحرر العربي" الذي يقوده الشيشكلي بـ72 مقعداً من أصل 82 مقعداً بالبرلمان، ووصفت هذه الانتخابات بأنها أول انتخابات تخلو من الديمقراطية في سوريا منذ قيام الدولة السورية.
ظهور حزب "البعث"
بعد أشهر من هذه الانتخابات، جرى ما سمي "انقلاب حلب"، وهو انقلاب عسكري في الـ25 من فبراير 1954، وهو خامس انقلاب عسكري منذ استقلال سوريا، وسمي "انقلاب حلب" لأن الوحدات العسكرية تحركت من حلب، وبعد إطاحة الشيشكلي تعرض البرلمان السوري مثل عدد من المقار الحكومية لأعمال تخريب ونهب، فيما أسفر الانقلاب عن عودة العمل بدستور 1950، وعودة النظام الجمهوري البرلماني التعددي.
وفي الـ24 من سبتمبر 1954 جرت الانتخابات البرلمانية، حصل فيها "حزب الشعب" على غالبية المقاعد، وشهدت سوريا خلال هذه الفترة ما بين 1954 حتى 1958 فترة سميت "ربيع الديمقراطية" بسبب التعددية الحزبية والحياة الديمقراطية الفريدة التي عاشتها سوريا في تلك الحقبة، على رغم أنها نتجت من انقلاب عسكري، كما شهدت هذه الفترة صعود "حزب البعث العربي الاشتراكي".
عام 1958 قامت "الجمهورية العربية المتحدة"، بعد إعلان الوحدة بين مصر وسوريا، وهنا تم دمج البرلمان السوري بالبرلمان المصري ليشكلا "مجلس الأمة"، على أن يكون ثلثه من السوريين وثلثاه من المصريين نظراً إلى الفارق الكبير في عدد السكان، وبعد انهيار الوحدة بين سوريا ومصر عام 1961، عاد مجلس النواب السوري إلى عهده ما قبل الوحدة، وفي العام نفسه جرت انتخابات برلمانية ورئاسية انتهت بفوز ناظم القدسي برئاسة سوريا.
انقلاب البعث
لم يكمل القدسي عامه الثاني في الحكم، ففي الثامن من مارس 1963 قامت فرقة عسكرية تابعة لحزب "البعث" بتنفيذ انقلاب عسكري، وحل البرلمان وتعطيل الدستور، تحت مسمى "ثورة الثامن من آذار"، ليتم بعد هذا الانقلاب تشكيل ما يسمى "مجلس قيادة الثورة"، الذي تولى السلطة التشريعية بدلاً من البرلمان المنتخب، واستمرت الحال كما هي عليه حتى عام 1971، عندها أنشئت مؤسسة برلمانية جديدة حملت اسم "مجلس الشعب"، لكن مجلس الشعب بدورته الأولى عُين نوابه بقرار من السلطات الحاكمة من دون انتخابات، وفي عام 1973 ألغيت التعددية السياسية، وحلت غالب الأحزاب الموجودة في البلاد، وحصرت الحياة السياسية بـ"الجبهة الوطنية التقدمية" التابعة لحزب البعث، التي فازت في جميع الانتخابات التي جرت بعد ذلك التاريخ حتى دورة يوليو (تموز) 2024.
بعد عام 1973 حُظرت كل أنواع الحياة السياسية في سوريا، وقُيدت صلاحيات مجلس الشعب، وصدر قرار بعدم اشتراط موافقة مجلس الشعب على الحكومة، ولا يطلب منه منحها الثقة، ولا يوافق أو يرفض تعيين الوزراء، بل كان النظام يتهم بأن الانتخابات تجري فقط شكلياً فيما تعرف أسماء الفائزين مسبقاً.
تعديل لا يقبل التنفيذ
في الـ15 من مارس 2011 اندلعت الثورة السورية ضد نظام الأسد، فواجهها بالقمع، وفي المقابل نفذ النظام ما سماها "إصلاحات سياسية"، فأصدر في عام 2012 دستوراً جديداً للبلاد، يعطي صلاحيات إضافية لمجلس الشعب تشمل أنه "يجب على الحكومة التقدم ببرنامجها الوزاري خلال شهر من تاريخ تشكيلها، وكذلك يجب على الحكومة تقديم بيان سنوي عن أعمالها للمجلس، ويمنح الدستور مجلس الشعب الحق في عقد جلسات استماع، أو مناقشة مع الحكومة، ويمنح الحق للأعضاء في توجيه أسئلة خطية أو شفهية للحكومة أو الوزير المختص، ويمنح البرلمان الحق في تشكيل لجان تحقيق نيابية بعلم الوزارة أو أحد الوزراء، وطلبه للاستجواب أمام مجلس الشعب، وحجب الثقة عنه، مما يعني دستورياً استقالة الوزير أو الحكومة بكاملها في حال حجبت الثقة عن رئيس الوزراء"، لكن على أرض الواقع لم يُطبق أي مما ذكر أعلاه، فمنذ إعلان الدستور الجديد وحتى سقوط النظام لم يحجب مجلس الشعب الثقة عن أي حكومة أو أي وزير.
أتراك وأردنيون في مجلس الشعب السوري
من شروط الترشح لعضوية مجلس الشعب السوري عدم امتلاك جنسية ثانية غير الجنسية السورية، وفي الـ15 من يوليو 2024، جرت انتخابات الدورة الأخيرة لمجلس الشعب التابع لنظام الأسد، شهدت هذه الدورة ترشيح وفوز عدد من حملة الجنسيات الأجنبية، ثم أسقط المجلس لاحقاً عضوية عدد من نوابه من حملَة الجنسيات الأجنبية، من بينهم رجلا الأعمال محمد حمشو وشادي دبسي اللذان يحملان الجنسية التركية، ثم أنس محمد الخطيب الذي يحمل الجنسية الأردنية، فيما أكدت تقارير إعلامية مقربة من النظام السابق بأن هناك أعضاء آخرين يحملون جنسيات أجنبية معظمهم يحملون الجنسية التركية.
مجلس الشعب للإنتاج والتوزيع الفني والعسكري
خلال دورات مجلس الشعب التي جرت بعد اندلاع الثورة السورية شهد المجلس مشاركة عدد من الممثلين والمخرجين الموالين للنظام، من بينهم المخرج نجدت أنزور والممثل عارف الطويل ونقيب الفنانين الممثل الراحل زهير رمضان، الذي أصدر قراراً بفصل جميع الفنانين المعارضين للنظام.
من بين الذين تقدموا لعضوية مجلس الشعب السوري بعد الثورة الممثل السوري توفيق إسكندر، وهو الذي انضم إلى "ميليشيات الدفاع الوطني"، وشارك بعمليات عسكرية ضد المعارضة السورية، وكان مشهوراً بـ"القنص"، ونشر صوره للترشح مع شعار "المبدع المقاوم توفيق إسكندر"، وعلى رغم كل هذا لم يفز بالانتخابات، لكن فاز بالانتخابات حسام أحمد قاطرجي، وهو زعيم ميليشيات القاطرجي، ومالك إمبراطورية "القاطرجي" لتجارة النفط، والوساطة لبيع النفط من مناطق سيطرة تنظيم "داعش" إلى مناطق سيطرة النظام، وبعد القضاء على تنظيم "داعش" قاد الوساطة بين "قسد" والنظام.
نهاية البعث
في الثامن من ديسمبر 2024، استطاعت الثورة السورية إطاحة نظام الأسد، وبعد يومين من سقوط النظام أعلنت السلطات الجديدة تعليق البرلمان والدستور لمدة ثلاثة أشهر، لتنتهي بذلك سيطرة حزب "البعث" على البرلمان لأكثر من ستة عقود.