الثابت هو اللعبة والمتغير هو المعادلات

آخر تحديث 2024-12-28 02:00:05 - المصدر: اندبندنت عربية

علم الاستقلال السوري يرفرف في مهب الريح فوق العاصمة دمشق (أ ف ب)

يروي المحلل الأميركي - الإيراني الأصل كريم سادجادبور أن شاه إيران بعث برئاسة إلى الملك فيصل بن عبدالعزيز آل سعود دعاه فيها إلى "الليبرالية في السعودية". رد الملك فيصل في الرسالة الجوابية بالقول، "هل عليَّ تفكيرك يا صاحب العظمة بأن 90 في المئة من شعبك مسلمون؟". وعلى مثال ملك السعودية الراحل يمكن تذكير أصحاب الدعوات إلى "إعادة تشكيل الشرق الأوسط" بحقيقتين، أولاهما أن شعوب المنطقة ليست عجينة قابلة لأخذ أي شكل مطلوب منها، والثانية أنه لا طرف بين القوى الكبرى أو القوى الإقليمية المتوسطة يستطيع بمفرده إعادة تشكيل الشرق الأوسط.

وليس حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو المتكرر بأنه "يعيد تشكيل الشرق الأوسط" نتيجة حربي غزة ولبنان سوى تمارين في الغطرسة. كذلك الأمر بالنسبة إلى اندفاع الرئيس التركي رجب طيب أردوغان نحو تغيير المنطقة بالشكل الملائم له بعد سقوط النظام السوري. فلا الحكم الجديد في سوريا يكفي لبناء شرق أوسط على قياسه. ولا أميركا التي جربت مرتين إقامة "شرق أوسط جديد" تعلمت من الفشل. وما كان سوى سعي ضد طبائع الأمور في المنطقة طموح الجمهورية الإسلامية لحكم المنطقة بعد المفاخرة بحكم أربع عواصم عربية جرفت الأحداث ما بدا ثابتاً في عاصمتين.

صحيح أن "الحرب ستستمر في تشكيل الشرق الأوسط"، كما تقول "ذا إيكونوميست" البريطانية في عددها السنوي. وصحيح أيضاً أن" الحروب ليست أحداثاً عارضة"، حسب أريك لين غرينبورغ الأستاذ في معهد (أن أي تي) للتكنولوجيا في الولايات المتحدة، لكن الصحيح أيضاً، وأيضاً أن التغيير الكبير لا يحدث إلا في الحروب الكبيرة والشاملة معظم القوى. فالمنتصرون في الحرب العالمية الأولى هم الذين أعادوا تشكيل الشرق الأوسط والبلقان وتركيا بعد هزيمة السلطنة العثمانية والإمبراطورية النمسوية - المجرية وألمانيا. والمنتصرون في الحرب العالمية الثانية هم الذين أعادوا تشكيل أوروبا وسلموا بحصول دول الشرق الأوسط على الاستقلال، وهندسوا الطريق إلى قيام إسرائيل على أرض فلسطين.

 وعلى مدى الأعوام الماضية كان الانطباع السائد هو أن التنافس بين ثلاث قوى إقليمية هي إيران وإسرائيل وتركيا يقرر النظام الإقليمي الأمني في الشرق الأوسط، لكن ذلك اصطدم بحقائق أساسية، أولها أن التنافس الإقليمي هو الطريق إلى الأزمات والفوضى، لا إلى نظام إقليمي. وثانيها أن التصرف كأن العالم العربي ملعب لهؤلاء وليس لاعباً أو غير جاهز لأن يأخذ دور اللاعب هو خطأ كبير، لأن اللاعب العربي استعاد دوره إلى حد ما ولا شيء يمنعه من دور كبير، وثالثها أن القوى الكبرى، أي أميركا وروسيا والصين، تترك للقوى الإقليمية فسحة لترتيب أمورها، لكنها لن تتخلى لها عن إدارة الشرق الأوسط بحروبه واتفاقاته.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

والعامل الجديد بعد سقوط النظام السوري هو إضعاف اللاعب الإيراني الذي تلقى ضربات قوية عبر وكلائه في غزة ولبنان، وخسر الجغرافيا السورية المهمة، مقابل كثير من حرية الحركة للاعبين التركي والإسرائيلي، والبروز الإضافي للاعب العربي. تركيا تتمدد في سوريا براً وعينها على حصة من ثرواتها البحرية، بحيث صارت تلعب في قلب الجغرافيا العربية بعدما كانت تلعب على الأطراف في ليبيا والسودان وشمال العراق.

وليس من المفاجآت أن يعود الحديث بقوة عن "العثمانية الجديدة". وإسرائيل تلعب في قلب فلسطين وتتوسع في سوريا وتدمر الأسلحة الاستراتيجية للجيش السوري، وتكمل حربها في لبنان بالتقسيط وتراهن على الرئيس الأميركي دونالد ترمب لإخراج إيران من مجمل اللعبة الإقليمية، لكن حدود اللعبة ليست بلا ضوابط، أميركية أولاً، وروسية ثانياً. واشنطن لن تقبل أن تضعها أنقرة أمام خيار محدد، تركيا أو الكرد. وموسكو تقول بلسان وزير الخارجية سيرغي لافروف إن على تركيا وضع "مصالحها الأمنية" في إطار الحفاظ على وحدة سوريا وسلامة أراضيها. وتركيا ستكتشف في النهاية أنها لا تستطيع الحصول على كل شيء. وإن كانت لها حصة مهمة في سوريا الجديدة، فضلاً عن أن إسرائيل محكومة في النهاية بالتراجع عما احتلته من جديد بحجة أنه لا دولة في سوريا حتى الآن تحفظ خط اتفاق الفصل 1974 في الجولان.

لكن الكل يعرف أن ما تغير هو المعادلات بعد سقوط نظام بشار الأسد، أما اللعبة فإنها ثابتة، على قاعدة التنافس والصراع. فلا إيران تسلم بالخسارة من دون محاولة لاستعادة ما خسرته أو أقله من دون زرع الشوك والفوضى على طريق الحكم الجديد في سوريا وراعيه التركي مع الراعي الأميركي. ولا شيء سهلاً في سوريا. فما بدأ سهلاً في الأيام الأولى بعد الساعات الغامضة لما حدث وجعل النظام يبدو كأنه تبخر واختفى يوحي أنه لن يبقى كذلك. لا فقط لأن طهران تهدد بمعاقبة كل من أسهم في إسقاط النظام السوري وهو جزء من إسقاط المشروع الإيراني، بل أيضاً لأن تعقيدات الوضع السوري وتكرار الخطأ الذي حدث في العراق، وهو حل الجيش في فراغ وظروف اقتصادية وأمنية ضاغطة. والضمان المؤكد لمواجهة العواصف والفوضى وعمليات العصابات هو بناء الدولة على التنوع السوري.

وقديماً قال الجاحظ، "القسوة رأس الخطايا".