سنوات سوريا الجديدة: ورشة واسعة وبطيئة

آخر تحديث 2025-01-01 02:00:06 - المصدر: اندبندنت عربية

يحلم السوريون بوطن جديد يلبي حاجاتهم ويراعي جميع طوائفه (أ ف ب)

تحديات العام الجديد أمام سوريا الجديدة لا حدود لها، وسوريا ليست من دون تجربة سياسية غنية قبل الوحدة وحكم البعث والإنقلابات العسكرية، تجربة سبقت الاستقلال وتلته في أربعينيات القرن الـ20 حتى انقلاب حسني الزعيم عام 1949، ثم جرت معاودة التجربة بعد سقوط حكم الشيشكلي السلطوي عام 1954، وكانت ذروة النجاح بين عامي 1954 و1958، إذ تشارك اليمين البرجوازي واليسار في نظام ديمقراطي برلماني ضمن أقصى حد من الحريات العامة، في إطار دستور مدني وتفاعل بين المجتمعين المدني والأهلي والأحزاب السياسية التي تمثل مجمل الطيف السوري. لكن هذا النظام الملائم لطبائع المجتمع وتنوعه صار ضحية أنظمة رئاسية شديدة ضربت التنوع وقمعت الحريات وألغت الحياة الحزبية على أيدي انقلابيين عسكريين ثم عسكريين ارتدوا الثياب المدنية، وكانت المرحلة الأقسى على مدى 54 عاماً من حكم عائلة الأسد.

وأسوأ ما يمكن أن يواجه سوريا الجديدة بعد سقوط حكم بشار الأسد فرض نظام رئاسي من نوع آخر، فالإمساك بالسلطة هو بداية طريق طويل متعرج وصعب، وليس أخطر من الإفراط في الإمساك بالسلطة وممارستها سوى الفلتان والفوضى. وإذا كانت القوى العربية والدولية تعمل حالياً على "تأهيل" أحمد الشرع للزعامة العامة، فإن عليها تعلم دروس التجربة لتجنب كوارث صنعها النظام الرئاسي المطلق السلطات والعودة لـ"تأهيل" تجربة النظام الديمقراطي البرلماني.

وليس من المتوقع أن تكون المرحلة الانتقالية في سوريا قصيرة أو سريعة كما حدث في العراق وليبيا وسواهما. والمقصود ليس المرحلة الانتقالية الأولى من سقوط النظام إلى "حكومة إدلب" في مارس (آذار) عام 2025، بل المرحلة الانتقالية المطلوبة لمشاركة التنوع السوري في السلطة وإنجاز الدستور قبل الانتخابات. فالتسرع في الانتخابات قاد إلى هيمنة على السلطة ولم يعكس دقة التنوع والتعدد، والمماطلة في الانفتاح الحقيقي هي بطاقة دعوة إلى حكم سلطوي توتاليتاري في قبضة طرف واحد يقوده زعيم أوحد. ولا بأس عند البدء في التطمينات إلى التسامح وحماية الأقليات والحرص على الجميع. لكن هذه في النهاية مطالب من نظام ديني، والمطلوب بالفعل هو أن تكون "المواطنة" عماد السلطة، فالجميع مواطنون على قدم المساواة تحميهم دولة وطنية في نظام ديمقراطي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ولا مبرر لاستسهال الأمور، فالسقوط السهل للنظام أمام الفصائل المسلحة ليس صدفة، والعمل الصعب بعد السقوط السهل هو إدارة ما بعد السقوط، وسوريا تحتاج إلى "ورشة" واسعة طويلة ومعقدة يشارك فيها المواطنون في الداخل والأصدقاء في الخارج، ورشة لإعادة الإعمار في البنية التحتية وكل شيء وورشة لإعادة "إعمار" الدولة التي جرى ضربها لمصلحة النظام، وورشة للنهوض الاقتصادي والتنمية البشرية، وورشة للانتقال إلى جودة التعليم بعد عقود من المستوى الهابط للتعليم حتى في الجامعات، وورشة لإعادة إعمار البنية الفوقية الثقافية التي تسلّط عليها الفكر الواحد وحجب تنوعها الثقافي وفرض "التصحر" على الإبداع الأدبي والفني والفكري، وورشة لعودة الروح للسوريين وثقتهم بأنفسهم والبلد بعد مشهد المسالخ البشرية في السجون، وورشة لإعادة اللاجئين السوريين من الخارج واستعادة الكفاءات والكادرات السورية المهاجرة إلى البلدان المتطورة وورشة لمنع عودة "داعش" وكل "داعش" آخر.

وهذه الورشة المتنوعة أكبر من إمكانات أي إدارة عسكرية وإدارة مدنية وأكبر من قدرات تركيا وطموحاتها الجامحة المعرضة للتناقض مع التنوع السوري والاصطدام به وأكبر من مجرد الاستعدادات للمساعدة العربية والدولية، فهي في حاجة إلى كل هؤلاء وسواهم. ومفتاحها ليس في يد طرف واحد، وإن كان من يمسك بإعادة الإعمار يحمل مفتاح الضغط لبناء حياة سياسية حقيقية في سوريا ومنع الانفراد بالسلطة لدى أي طرف.

والتحديات هائلة بالنسبة إلى حماية الورشة الكبيرة من الفساد والفوضى، فما ظهر حتى الآن من تمرد و"حرب عصابات" هو ظاهرة لا بد من وضعها في الحسابات عند تغيير الدول، وحل جيش وأجهزة وميليشيات مسلحة في وضع اقتصادي واجتماعي بائس ووضع سياسي يائس. والقوى الخاسرة في الإقليم بسقوط النظام السوري لن تتورع عن أي محاولة لاستعادة ما خسرته أو بعضه، والمناخ ملائم لعصابات على شكل "داعش".

والأقوى في سوريا ليس القوي بقوة الفصائل بل الحكيم القادر على جمع كل الأطياف السورية في ورشة الإعمار والحكم.

والدرس تقدمه أستاذة العلوم السياسية شيري برمان في كتاب "ديمقراطية وديكتاتورية في أوروبا: من النظام القديم إلى اليوم" بالقول إن "الديمقراطية الليبرالية لا تحدث فقط بفعل رجال ونساء عظام بل أيضاً نتيجة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة، ولكي تنجح فإنها تحتاج إلى وحدة وطنية ودولة قوية".