"دير الزور"... مدينة عريقة أهملها الأسد وأنصفها التاريخ

آخر تحديث 2025-01-01 13:00:06 - المصدر: اندبندنت عربية

منظر جزئي لقرية الباغوز في محافظة دير الزور شمال سوريا، 24 مارس 2021 (أ ف ب)

على ضفتي الفرات، ثاني أكبر أنهار الوطن العربي، تتربع دير الرمان أو دير الشعار أو دير العصافير أو دير الزور في أحدث أسمائها، المدينة التي أقامت فيها عشتار مملكتها، أقام فيها عبدالملك بن مروان، واتخذ منها العثمانيون مركزاً أساساً، ووضع بها الفرنسيون حاشية، ثم استولى عليها حزب البعث وهمش ساكنيها وشوه تاريخها، دخلها تنظيم "داعش" فعاث في أهلها قتلاً، رد عليه التحالف الدولي فدمر ما بقي قائماً بها، سقط النظام السوري وبقيت المحافظة مشطورة، غربها لإدارة العمليات العسكرية وشرقها لقوات سوريا الديمقراطية، وأهلها ما بين لاجئ أو مغترب أو صابر على مرارة العيش في أرض رفض مغادرتها على رغم كثرة الأطراف التي تقاتلت على ضفاف نهرها.

في أقصى الشرق السوري تقع دير الزور، ثالث أكبر المحافظات السورية من حيث المساحة، يبلغ عدد سكانها ما يقارب مليون و200 ألف نسبة، الغالبية العظمى منهم من العرب، مع وجود أقلية كردية وأخرى أرمنية، في ثمانينيات القرن الماضي اكتشف وجود نفط في مساحات واسعة منها، مما جعل منها لاحقاً خزان سوريا النفطي، وأكسبها وجود النفط أهمية استراتيجية، فضلاً عن وجود مساحات شاسعة من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، فهي المصدر الأساس للقمح والنفط السوري.

كثير من الأسماء

تعد دير الزور واحدة من أكثر المدن التي تغير اسمها عبر التاريخ، فحملت كثيراً من الأسماء، فيقال إن أقدم اسم لها هو "شورا" أطلقه عليها السريان، وفي العصر السلجوقي أطلقوا عليها اسم "ثياكوس"، وعندما أصبحت تحت سلطة الأمويين سموها "دير البصير"، وعندما وصل إليها الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان أطلقوا عليها اسم "دير حتليف"، وهو اسم لأحد الأديرة المسيحية القريبة من المدينة، ثم أطلق عليها لاحقاً اسم "دير الرمان"، لكثرة أشجار الرمان فيها. وعندما سيطر عليها العثمانيون سموها "دير الرحبة" لوجود قرية الرحبة بقربها.

وفي القرن الـ19 سميت "دير الشعار" لكثرة الشعراء فيها، فيما سماها بعض الرحالة الأوروبيين "دير العصافير" لكثرة طيور البلابل فيها، أما سبب تسميتها "دير الزور" فقد اختلف عليه المؤرخون، إذ أطلق هذا الاسم عليها قبيل نهاية العهد العثماني، وفق بعض المصادر فإن لفظ "الزور" من لفظ الزيارة، وسميت بذلك لزيارة أهل الأرياف للدير، فيما قال آخرون، إن اسم الزور مشتق من كلمة ازورار أي "مال واعوج"، وذلك لازورار نهر الفرات عند دير الزور.

عاش الإنسان في دير الزور منذ الألفية التاسعة قبل الميلاد وفق المكتشفات الأثرية، وقامت قربها مملكة ماري الموجودة آثارها حتى اليوم منذ الألفية الثالثة قبل الميلاد، وكذلك استوطنها الآموريون والآشوريون باختلاف حضاراتهم، وبقي أهلها يتحدثون اللغة الآرامية حتى سنة 64 قبل الميلاد عندما دخلها الرومان، ومع ظهور الإسلام تبع أهالي المدينة تدريجاً الديانة الإسلامية، وأصبحت تابعة للعواصم الإسلامية واحدة تلو الأخرى، من الحكم الراشدي إلى الأمويين فالعباسيين والعثمانيين.

العهد الفرنسي

بعد خروج العثمانيين سنة 1918 تبعت دير الزور للمملكة العربية السورية، وكان يدير شؤونها الشريف ناصر ابن عم الأمير فيصل بن الحسين، وفي 11 يناير (كانون الثاني) 1919 احتلها الجيش البريطاني قادماً من العراق، وضمها إلى الأراضي العراقية، ثم خرج منها البريطانيون في نهاية العام ذاته بعد تحركات شعبية ضدهم.

وبعد دخول الفرنسيين إلى سوريا، وتقسيمها إلى دويلات تم إلحاق مدينة دير الزور بدولة حلب، ودخلتها القوات الفرنسية للمرة الأولى في التاسع من نوفمبر (تشرين الثاني) 1921.

شارك أهالي المدينة في جميع أنواع الاحتجاجات والانتفاضات السورية ضد الوجود الفرنسي، كما دارت عدة معارك بين الأهالي والقوات الفرنسية، ونتيجة المقاومة الشعبية خرج الفرنسيون من دير الزور قبل أشهر عدة من خروجهم من سوريا، فكانت أول مدينة سورية تنال الاستقلال.

الجسر المعلق

عندما تذكر دير الزور لزاماً يذكر الجسر المعلق الوحيد في سوريا، ثاني جسر معلق بني في العالم بعد جسر مماثل في جنوبي فرنسا، بدأ بناؤه عام 1925، وهو أحد أهم معالم المدينة، تعهدت بناؤه الشركة الفرنسية للبناء والتعهدات، وصممته على الطراز الغربي، واستمر العمل فيه لمدة ست سنوات، ليتم افتتاحه في مارس (آذار) 1931.

 

الجسر عبارة عن أربع ركائز حجرية طويلة، تربطها ببعضها بعضاً قضبان فولاذية، ارتفاع كل ركيزة 36 متراً، فيما يصل طول الجسر إلى 450 متراً بعرض أربعة أمتار، وأصبح لاحقاً رمزاً سياحياً في المدينة، وأحد أهم الأماكن التي يقصدها السياح في سوريا.

وفي صباح يوم الثاني من مايو (أيار) 2013 قصفت قوات النظام السوري الجسر بالمدفعية مما تسببت في انهياره وتدميره.

البعث والنفط

بعد انقلاب حزب البعث سنة 1963، وتسلمه السلطة في سوريا، أهمل غالب المناطق الشرقية من البلاد ومنها دير الزور، وفي 1987 اكتشف كميات ضخمة من النفط والغاز بأرياف المدينة، منها حقل التيم وحقل التنك وحقل كونيكو، واستثمرت في هذه الحقول عدة شركات سورية وأجنبية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وعلى رغم الأهمية الجديدة لدير الزور بعد أن أصبحت مصدراً للنفط السوري، فإن النظام السابق لم يهتم بالمدينة من حيث العمران أو البنية التحتية، إضافة إلى ذلك تعد جبال دير الزور أحد أهم مصادر استخراج الملح في سوريا.

الثورة السورية

في النصف الثاني من مارس (آذار) 2011، انضم أهالي دير الزور إلى المشاركين في التظاهرات المطالبة بإسقاط نظام الأسد، وكان النظام خلال الأسابيع الأولى للاحتجاجات يتعامل بحذر مع أهالي دير الزور بسبب التركيبة العشائرية في المحافظة، ووجود السلاح لدى الأهالي بكثرة، لكن تدريجاً بدأ النظام باستخدام العنف وإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين.

وفي 28 يوليو (تموز) 2011 تم للمرة الأولى قصف أحياء بالمدينة بالدبابات وتم اقتحام عدد من الأحياء بالسلاح الثقيل، وقتل في ذلك اليوم 19 مدنياً، مما تسبب في انشقاق عدد من عناصر وضباط في جيش النظام المتحدرين من دير الزور.

في يونيو (حزيران) 2012، سيطر الجيش السوري الحر آنذاك على مدينة دير الزور، وبعد ذلك زادت حدة القصف بالطيران الحربي والبراميل المتفجرة مما أسفر عن تدمير غالب الأحياء بما في ذلك السوق العتيقة والأماكن التاريخية والمؤسسات الرسمية والبنى التحتية.

لكن بعد نحو عام ونصف من سيطرة الجيش السوري الحر عليها، دخل "داعش" إلى المدينة، وبعد معارك عنيفة تمكن التنظيم من السيطرة على دير الزور مطلع 2014، فكانت أول محافظة سورية يسيطر عليها "داعش" وآخر محافظة يخرج منها.

وبعد تشكيل التحالف الدولي لمحاربة "داعش"، تعرضت دير الزور لمئات الغارات الجوية مما أسفر عن حدوث دمار واسع في المدينة فوق الدمار السابق، وتم إطلاق حملتين بريتين ضد التنظيم الإرهابي، الأولى تنفذها قوات سوريا الديمقراطية "قسد" بدعم من التحالف الدولي وبدأت في ريفي دير الزور الغربي والشمالي، والثانية نفذتها قوات النظام السابق بالتعاون مع الميليشيات الإيرانية ودعم الطيران الروسي.

وبعد نحو ثلاثة أعوام من المعارك المستمرة، سيطر النظام على مركز المدينة، وعدد من المدن المركزية التابعة للمحافظة مثل الميادين والبوكمال، فيما سيطرت "قسد" على أجزاء واسعة من الريفين الغربي والشمالي، وأجزاء بالريف الشرقي، وكان الفاصل بين مناطق سيطرة النظام و"قسد" هو نهر الفرات، إذ تتمركز قوات النظام غرب الفرات، و"قسد" شرق الفرات، باستثناء وجود سبع قرى شرق الفرات يسيطر عليها النظام مع الميليشيات الإيرانية.

بعد عام 2019 هدأت المعارك في عموم محافظة دير الزور، واقتصرت أسباب سقوط الضحايا على انفجار الألغام ومخلفات الحرب، أو الاشتباكات المتقطعة، فيما بقيت المحافظة طوال الأعوام الماضية مقسومة بين النظام و"قسد" حتى انطلاق عملية ردع العدوان في نوفمبر (تشرين الثاني) 2024.

بعد أيام من انطلاق عملية "ردع العدوان"، وطرد النظام وإيران من حلب وحماة والاتجاه نحو حمص، انسحب النظام السوري السابق من مدينة دير الزور من دون مقاومة، كما هرب المئات من عناصره إلى العراق من معبر البوكمال، فدخلت قوات "قسد" إلى المدينة، وبعد سقوط النظام في دمشق، انسحبت "قسد" من دير الزور ودخلتها قوات إدارة العمليات العسكرية، فيما بقي تمركز "قسد" شرقي نهر الفرات.

أهالي دير الزور

تبتعد مدينة دير الزور نحو 450 كيلومتراً عن العاصمة السورية دمشق، وهي ثاني أكبر المحافظات السورية من حيث المساحة بعد محافظة حمص، إذ تشكل 17.9 في المئة من إجمالي مساحة سوريا، وتبلغ مساحتها الكلية 33.06 ألف كيلومتر مربع، تعرضت مرات عدة للفيضانات قبل بناء سد الفرات عام 1973، وكان أحد أشهر الفيضانات هو الذي حصل في سنة 1967 عندما ارتفع منسوب مياه النهر لما يقارب خمسة أمتار، وغرقت حينها عدة جزر في نهر الفرات.

 

عرقياً غالب أهالي دير الزور هم من القبائل العربية، وجزء منهم ينحدر من اليمن والحجاز، وأكبر قبيلة في المحافظة هي قبيلة البكارة، تليها قبيلة العكيدات، ويوجد فيها أيضاً عدد من العائلات الكردية والأرمنية والسريانية، أما طائفياً فغالب الأهالي من المسلمين السنة، مع وجود أقلية مسيحية.

إضافة لوجود النفط في دير الزور، تعتمد المدينة أيضاً على الزراعة، وخصوصاً القمح والقطن، إذ تمتد أراض زراعية واسعة على طول نهر الفرات، ويزرع أهالي المدينة أيضاً الذرة والسمسم والشوندر السكري والبطيخ وغيرها، وتنتشر فيها أشجار الرمان والزيتون والمشمش، وتشتهر كذلك بتربية الحيوانات خصوصاً الأبقار والأغنام، فيما تنتشر تربية الإبل ببعض أرياف المحافظة.

في عام 1956 تم تأسيس أول مستشفى وطني في دير الزور بعدد 80 سريراً، إلى جانب مستشفى خاص آخر بطاقة 68 سريراً، ويشرف على هذين المستشفيين الوحيدين في المدينة 19 طبيباً فحسب، أما الحالات التي تتطلب علاجاً متطوراً فيتم نقلها عادة إلى حلب أو حمص، فيما تم لاحقاً بناء عدد من المستشفيات والمراكز الطبية الأخرى، فإن معظمها تعرض لأضرار بالغة خلال الفترة ما بين 2012 و2018.

أشهر الشوارع

يتوسط شارع التكايا المدينة، وهو أحد أشهر شوارعها وأقدمها، وعام 1924 تم افتتاح أول ثانوية للبنات في دير الزور في شارع التكايا، وتحوي المدينة أيضاً عدداً من الأسواق المسقوفة والأثرية، تعرض معظمها للدمار خلال الحرب السورية الأخيرة.

وأشهر مقاهي المدينة هو مقهى السرايا الذي يعود للحقبة العثمانية، ويوجد وسط دير الزور تجمع تجاري يسمى "السوق المقبى"، وهو عبارة عن سبع أسواق قديمة جداً تلتقي في مكان واحد، وهي سوق العطارين وسوق التجار وسوق الحدادين وسوق الخشابين وسوق الحبوب وسوق الحبال وسوق خلوف.

وتضم المدينة مئات المساجد وأربع كنائس، وإضافة إلى الجسر المعلق تحوي محافظة دير الزور عدداً من المعالم والمواقع الأثرية البارزة منها مملكة ماري التي تعد إحدى أهم ممالك الحضارة السومرية، وآثار دور أوربوس التي اكتشفت عام 1920 أثناء حفر الجنود البريطانيين خنادق في الصحراء، وتضم المدينة متحفين رئيسين، هما متحف دير الزور الذي يحوي نحو 25 ألف قطعة أثرية، ومتحف التقاليد الشعبية الذي تأسس عام 1957.