القبائل العربية في سوريا... جغرافيا التمزق

آخر تحديث 2025-01-05 14:00:06 - المصدر: اندبندنت عربية

لم يكن الانسحاب من المشهد خياراً مناسباً للقبائل العربية في سوريا بعد اندلاع ثورة 2011 (أ ف ب)

في مناطق النفوذ الأربعة السابقة في سوريا (نظام الأسد، وقوات سوريا الديمقراطية، والمعارضة السورية، و"هيئة تحرير الشام") كانت تُعقد بين الحين والآخر طوال الأعوام الماضية مؤتمرات دورية كلها يندرج تحت مسمى "تجمع القبائل السورية". لكن أياً منها لا يعترف بالآخر، ففي دمشق كان النظام السابق ينظم هذه المؤتمرات داخل مناطق سيطرته، وفي الحسكة تنظمها قوات سوريا الديمقراطية، والمعارضة داخل ريف حلب، وفي إدلب كانت "هيئة تحرير الشام" مقربة من شيوخ ووجهاء قبائل عربية.

وعلى رغم هذه الانقسامات فإن جميع هذه المكونات تمثل بالفعل القبائل العربية في سوريا، والتي لها ثقل حقيقي قادر على فرض التغيير لولا انقسام أفراد القبائل وبعضهم بعضاً بسبب اختلاف الطرف الذي يوالونه، أو المصالح التي تقتضي دعم جناح على حساب آخر.

ولم يكن الانسحاب من المشهد واتخاذ الموقف الرمادي خياراً مناسباً للقبائل العربية في سوريا بعد اندلاع ثورة 2011، بل كان لزاماً اتخاذ موقف من طرف ما، لكن القبائل السورية ليست فرداً واحداً أو حزباً سياسياً أو تنظيماً، بل ينتشرون في جميع الجغرافيا السورية على رغم تركزهم في أماكن معينة. ويعمل أبناء القبائل في كل وظائف البلاد من ضباط الجيش والاستخبارات إلى الأطباء والمهندسين، وصولاً إلى الدبلوماسيين.

لذلك انقسم أبناء القبائل بين جميع أطراف النزاع السوري، إذ نجد أبناء قبيلة واحدة يقاتلون بعضهم بعضاً تحت رايات متناقضة، وعلى سبيل المثال لا الحصر تنتشر قبيلة البكارة في شمال وشرق ووسط سوريا وتمتد إلى تركيا والعراق والأردن، وأبناء هذه القبيلة من السوريين منهم من دافع عن النظام وقاتل معه، وآخرون انضموا إلى الجيش السوري الحر وقدموا التضحيات لأجل تحرير الشعب السوري، وفريق ثالث انضم إلى الميليشيات الإيرانية، ورابع قاتل تحت راية "قسد"، ومنهم من شارك أخيراً في عملية "ردع العدوان" التي أسقطت حكم "البعث".

أبرز القبائل

وتنتشر في عموم الجغرافيا السورية أكثر من 30 قبيلة وعشيرة، أبرزها البكارة والعكيدات (الكاف تلفظ جيم مصرية) وعنزة، وشمر والجيسات وبني خالد والنعيم، وحرب وطيء والجبور والمحاميد، والدليم وكنانة وبني صخر وغيرها.

أما المواقف السياسية للقبائل العربية في سوريا فهي متباينة بين أفراد كل قبيلة وفق ما ذكرنا أعلاه، وجميع القبائل تقريباً انقسم أفرادها بحسب ما تقتضيه الظروف والمصالح واختلاف الرؤية. وسنضرب في هذا التقرير مثالاً على قبيلة البكارة كونها واحدة من أكبر القبائل السورية، وموقفها يمكن أن يكون نموذجاً لمواقف باقي القبائل.

تنتشر قبيلة البكارة (أو البقارة) في سوريا والعراق، ولها وجود محدود في تركيا والأردن، وسُميت بهذا الاسم نسبة إلى جدهم الأكبر محمد الباقر الذي يقال إنه عاش خلال القرن الثامن أو التاسع الميلادي، وللقبيلة نحو 30 فرعاً (ويسمى محلياً "فخذ") ينتشرون في أربع محافظات سورية، وتمركزهم الرئيس داخل محافظة دير الزور، ويمتد وجودهم إلى الحسكة والرقة وصولاً إلى حلب، وتعد بلدة "المحيميدة" في ريف دير الزور الغربي مقراً لمشيخة القبيلة التي يقدر عدد أفرادها بـ1.2 مليون نسمة داخل سوريا وخارجها، وغالب أبناء القبيلة من سكان القرى مع وجود بعضهم في المدن وآخرين بالبادية.

 

وبحسب مشروع "الذاكرة السورية" المتخصص في بحث التاريخ السوري الراهن، فإن شيخ عشيرة البكارة نواف راغب البشير ورث مشيخة قبيلته من والده راغب البشير عام 1980، وكان عمره آنذاك 26 سنة، وأصبح عضواً في مجلس الشعب السوري بدورة 1988–1992، ثم أصدر النظام السوري السابق قراراً بمنعه من السفر خارج سوريا بعد كلمة ألقاها في مؤتمر للوحدويين الاشتراكيين بمدينة صحنايا، تحدث فيها عن الديمقراطية وطالب بقانون للأحزاب وحرية الصحافة.

وخلال عام 2004 عُقد مؤتمر للمعارضة السورية في مضافة الشيخ نواف البشير قرب دير الزور وبمشاركته، وعرف المؤتمر باسم "إعلان دير الزور" وضم أكثر من 286 شخصية من مختلف التوجهات السياسية، وأسهم خلال أكتوبر (تشرين الأول) 2005 في تأسيس تحالف إعلان دمشق لقوى التغيير الديمقراطي السوري، وأسس لاحقاً حزباً سياسياً أطلق عليه حزب المستقبل السوري، وخلال عام 2011 أعلن البشير دعمه للثورة السورية منذ اندلاعها، وتعرض للاعتقال خلال الـ11 من يوليو (تموز) 2011 ليظهر بعد نحو شهرين على التلفزيون السوري الرسمي، قائلاً إن "ما يجري في سوريا هو مؤامرة من عصابات إرهابية"، وبعد ذلك أطلق سراحه وغادر إلى تركيا.

استمر البشير في نشاطه السياسي المعارض بالخارج وشارك في غالب فعاليات المعارضة، وقدم مشروعاً لطرد تنظيم "داعش" من دير الزور بالتعاون مع التحالف الدولي الذي رحب بالفكرة، إلا أن المشروع فشل وتعاون التحالف الدولي محلياً مع الجماعات الكردية المسلحة.

مشروع البشير حمل اسم "الجبهة الشرقية"، وكان يهدف إلى تجميع مقاتلين عرب وتدريبهم في قواعد التحالف الدولي داخل تركيا، ثم نقلهم إلى سوريا لطرد "داعش" من شمال شرقي البلاد، وبالفعل دُرِّب عشرات العناصر في قاعدة "أنغرليك" بولاية أضنة جنوب تركيا لكن دبت خلافات لم تُعرف طبيعتها بين الأتراك والأميركيين، أعلن البشير بعدها تخليه عن المشروع، مما دفع غالب العناصر الذين تلقوا التدريبات للانسحاب. وبحسب تقرير للصحافي السوري محمد حسان، فإن "البشير تعرض عام 2016 لتهميش متعمد من قبل المعارضة السياسية السورية، وخاض حرباً باردة مع جماعة ’الإخوان المسلمين‘".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وفي نهاية عام 2016 أجرى البشير زيارة مفاجئة إلى روسيا وإيران استمرت أياماً عدة قبل أن يعود إلى تركيا ويعقد اجتماعاً لأهم الشخصيات العسكرية والسياسية من أبناء قبيلة البكارة، وقال في هذا الاجتماع إن "الثورة السورية انتهت، والحل يجب أن يكون سياسياً"، وأخبرهم أنه سيعود إلى دمشق للمشاركة في الحل السياسي، مما كان بمثابة صدمة لتيار واسع من المعارضين السوريين وأبناء القبائل العربية، وبالفعل غادر البشير تركيا خلال يناير (كانون الثاني) 2017 متوجهاً إلى بيروت ومنها إلى دمشق، ليظهر بعد ذلك على التلفزيون السوري الرسمي موجهاً انتقادات للمعارضة السورية ومتهماً إياها بـ"الارتهان لدول الخليج العربي وأميركا وتركيا"، قبل أن يصدر المئات من وجهاء قبيلة البكارة بياناً أعلنوا فيه "التبرؤ من نواف البشير وعزله من منصبه كشيخ للقبيلة".

وبعد أشهر قليلة من عودته إلى دمشق، أسس البشير مجموعة عسكرية للقتال إلى جانب قوات النظام ضد تنظيم "داعش" في دير الزور، وشاركت هذه المجموعة في اشتباكات ضد "قسد" قُتل خلالها أحد أبناء نواف البشير، الذي استمر في مواقفه الموالية للنظام السابق حتى سقوطه.

التقلبات وتغيير المواقف التي مر بها نواف البشير لا تعني بالضرورة أنها تعكس موقف كامل قبيلة البكارة، فكما ذكرنا آنفاً أصدر وجهاء البكارة بياناً لعزله من مشيخة القبيلة، لكنها أيضاً تعكس جانباً من اختلاف المواقف والتغيير الذي حصل بين أفرادها، مثلها في ذلك مثل باقي القبائل العربية في سوريا.

العشائر والثورة

منذ الأيام الأولى لها انضمت القبائل العربية للثورة السورية وانشق كثير من أبنائها عن النظام، ومع بدء استخدام العنف ضد الحراك الشعبي شكل أبناء العشائر فصائل محلية قاتلت مع الجيش السوري الحر ضد النظام، وقدم شيوخ العشائر مبالغ مالية كبيرة لدعم النازحين السوريين والحاجات الإنسانية التي يواجهها المهجرون.

أحد الأمثلة على ذلك أنه بعد حصول زلزال سوريا وتركيا المدمر خلال يناير 2023، أرسلت عشائر دير الزور 76 شاحنة مساعدات إلى المتضررين في الشمال السوري، وهذه المساعدات وصلت إلى مناطق سيطرة المعارضة في إدلب وريف حلب قبل وصول شاحنات الأمم المتحدة، مما جعل من الحادثة في ذلك الوقت حديث مواقع التواصل الاجتماعي لأيام.

ومن جانب آخر يشكل المقاتلون أبناء العشائر نسبة كبيرة من مقاتلي "الجيش الوطني السوري" في ريف حلب، ولديهم فصيل خاص يحمل اسم "حركة التحرر والبناء".

 

وعلى الصعيد السياسي أيضاً تشكل ما يسمى "مجلس القبائل والعشائر السورية"، ويتكون من وجهاء من مختلف القبائل السورية، وشارك بقوة في فعاليات المعارضة السياسية، وكانت وفوده تشارك في اجتماعات لجنة التفاوض السورية في جنيف، وأصدر بين الحين والآخر بيانات تندد بالمجازر التي يمارسها النظام السوري ضد المدنيين، وكانت "الحكومة السورية الموقتة" تعقد بين الحين والآخر اجتماعات مع شيوخ العشائر شمال غربي سوريا، وأخيراً اجتمع قائد الإدارة السورية الجديدة أحمد الشرع في "قصر الشعب" بوفد القبائل والعشائر العربية داخل سوريا، وبحث معه التطورات الأخيرة في البلاد وسبل المضي في تحديث المنظومة السياسية والاجتماعية.

وبحسب تقرير لصحيفة "الشرق الأوسط"، فإن مؤتمر العشائر الذي عقده النظام السوري السابق خلال سبتمبر (أيلول) 2024 في محافظة حمص شهد مشاركة من العراق ولبنان، وأعلن المشاركون في المؤتمر أنهم يقفون "خلف قيادة الرئيس بشار الأسد ويدعمون الجيش السوري، ويرفضون أية محاولات لتقسيم سوريا".

منذ تسلمه السلطة في سوريا عام 1963 أدرك حزب البعث أهمية دور العشائر وثقلها في البلاد كونها خزاناً بشرياً كبيراً، والجزء الأكبر منها يستقر داخل مناطق تتمتع بثروات باطنية مثل النفط والغاز في شمال شرقي سوريا، وحاول حافظ الأسد منح شيوخ العشائر بعض الامتيازات لضمان الولاء، وسار بشار على نهج أبيه في المحافظة على "علاقة ودية" مع شيوخ العشائر. لكن بعد عام 2011 لم يتمكن النظام السوري من كسب العشائر إلى جانبه، لذلك لعب على دعم بعضهم ضد آخرين.

ووفق تقرير لصحيفة محلية سورية، فقد "دعم النظام السوري عائلة آل بري التي تنحدر من حي باب النيرب في حلب، واشتهرت بتحالفها مع النظام ودعمها لعناصر يقاتلون إلى جانب قواته، وكان لهم دور في قمع التظاهرات بداية الثورة، وتتهم بتقاسم المخدرات والممنوعات مع شخصيات من النظام. وفي عام 2016، هدد شبيحة النائب في مجلس الشعب حسن شعبان بري أهالي حلب بـ"الذبح بالسكاكين" لمن لا يصوت له في الانتخابات التي جرت خلال العام نفسه، وهاجموا بالسكاكين محلاً في شارع كلية الهندسة داخل حلب بسبب رفض صاحبه تعليق صورة المرشح حينها على واجهة المحل، ونجح حسن بري وقتها في الفوز بمقعد داخل مجلس الشعب ضمن الدورة التشريعية 2016-2020".

 

ودعم النظام السوري آل قاطرجي من قبيلة النعيم، بحسب الصحيفة، وبرز منهم أشخاص تحولوا إلى "تجار وأمراء حرب" في مقدمتهم حسام قاطرجي، الذي صعد بصورة كبيرة على الصعيدين العسكري والاقتصادي من خلال تنظيم صفقات النفط بين النظام السوري و"قسد"، إضافة إلى امتلاكه معملاً ضخماً للحديد ضمن المدينة الصناعية في حلب وآخر للأسمنت، ويرسل عناصره باستمرار لتمشيط أجزاء البادية السورية وتأمين الطرق التي يعترضها تنظيم "داعش".

وأبرزت الصحيفة أنه على امتداد حكم الأسدين، عمل النظام السوري على استمالة وكسب ولاء العشائر مع الحفاظ على سقف محدد لأدوارهم في مفاصل الدولة، وعدم ترك مساحات واسعة أمام الزعامات التقليدية في العشيرة، وشغل أشخاص من العشيرة مناصب في مؤسسات أمنية ومدنية مثل وزارة الداخلية والزراعة ومكاتب تابعة للرئاسة، وارتفع التمثيل القبلي في مجلس الشعب ليصل إلى 12 في المئة عام 2012.

"قسد" والعرب

ما يميز العشائر والقبائل السورية أولاً أنها "عربية العرق" وثانياً "التزامها الديني" الإسلامي، فالغالبية العظمى من عشائر سوريا مسلمون سنة، مع وجود أقلية شيعية تتركز في ريف حلب وأجزاء من قرى دير الزور، وفي شمال شرقي البلاد حيث الثقل العشائري في سوريا سيطرت "قسد" على المنطقة بدعم من قوات التحالف الدولي بعد هزيمة "داعش"، ومن المعلوم أن العمود الفقري لـ"قسد" هو "القوات الكردية"، لذلك كانت السلطة الكردية في المناطق العربية إحدى أهم المشكلات التي واجهت استقرار شمال شرقي سوريا.

وبحسب تقارير سورية فإن الدعم الأميركي للقوات الكردية همش دور العشائر العربية من دون أن يقصيها، لأن قياديين أميركيين يلتقون باستمرار مع وجهاء وشيوخ هذه العشائر، كما أن التهميش من "قسد" لا يمكن إنكاره، وأقرت به واشنطن حين أصدرت وزارة الدفاع الأميركية خلال مارس (آذار) 2020 تقريراً انتقد إقصاء المكون العربي عن مفاصل اتخاذ القرارات داخل المؤسسات العسكرية والمدنية التابعة لمجلس سوريا الديمقراطية، لكن في المقابل تحرص "قسد" بصورة دائمة على إظهار تواصلها مع وجهاء وشيوخ قبائل وعشائر المناطق التي تسيطر عليها.

بالمحصلة، انقسم أبناء القبائل والعشائر العربية في سوريا، مثلهم مثل باقي أبناء البلاد، في تأييد مختلف أطراف النزاع السوري، وعلى رغم ذلك تبقى القبائل العربية في سوريا تشكل ثقلاً كبيراً في المجتمع، ويرى مراقبون أنه لا يمكن أن تشهد سوريا استقراراً من دون مشاركة فاعلة من القبائل العربية، ويكون لأبنائها دور في اتخاذ القرارات المصيرية المتعلقة بالشأن السوري.