تحن غالبية أبناء هذه الطائفة إلى "الزمن الأول" قبل أن تعصف بلبنان التحولات الكبرى التي تلت اغتيال رفيق الحريري عام 2005 (ا ف ب)
القيادة المفقودة التي انعكست موقفاً وسطياً رمادياً لدى الطائفة السنية في لبنان على رغم التحولات الجذرية التي حصلت في بلاد الأرز والمنطقة وخصوصاً في سوريا، هي ظاهرة استوقفت كثيرين. فعلى رغم التبدلات في الأوضاع التي كانت في أساس أسباب تراجع الدور السني، في انعكاس لمشروع إضعاف بدأ من العراق، وتوسع وتكرس في سوريا، وعلى رغم وجود فرصة لدى معظم القوى التي كانت خارج محور الساحات المرتبط بإيران إلى إعادة التوازن والدور، لا يزال الموقف العام السني "خجولاً" أو متردداً ومشتتاً، ويقتصر على مواقف فردية في بعض الأحيان غير مؤثرة.
ويتخذ السنة على سبيل المثال من استحقاق رئاسة الجمهورية اللبنانية موقفاً هو أقرب إلى المتفرج، كما بدا لافتاً تريث رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، المعتكف عن السياسة منذ عامين، قبل إعلان موقفه من تطورات سوريا وسقوط نظام بشار الأسد والضربات الكبرى التي تعرض لها "حزب الله" ومن ضمنها اغتيال أمين عامه السابق حسن نصرالله. وهنا فسر كثيرون هذا التريث بأنه "ضعف" في الموقف بخاصة أن الحريري الإبن كان يفترض، على حد قولهم، أن يكون أول المصفقين لسقوط الأسد المتهم باغتيال والده رفيق الحريري، وغيره كثيرون.
فما أسباب غياب الدور السني البارز وسط كل ما يحصل، وكيف يتطلع ممثلو هذه الطائفة، الروحيون والسياسيون، إلى الدور المستقبلي نتيجة التغيرات الكبيرة في لبنان والمنطقة، خصوصاً أن تراجع دور السنة يمثل تحدياً ليس فقط للسنة بأنفسهم، ولكن من أجل استقرار لبنان ككل؟
يتخذ السنّة على سبيل المثال من استحقاق رئاسة الجمهورية اللبنانية موقفاً هو أقرب إلى المتفرج (رويترز)
الزعامة الواحدة لن تتكرر
عد نائب سابق من "تيار المستقبل"، عايش مرحلة الزعامة الحريرية، أن فهم الواقع السياسي داخل الطائفة السنية يتطلب معرفة تركيبتها الاجتماعية المختلفة عن باقي الطوائف اللبنانية، فالطائفة السنية هي "مدينية" بامتياز، إذ يسكن معظم أبنائها في مدن طرابلس وبيروت وصيدا، وقلة تسكن القرى في الجبال، مما يضفي عليها طابع الاهتمام بالتجارة والنقل البحري والعلاقات الداخلية والخارجية. وشرح النائب السابق، الذي فضل عدم الكشف عن اسمه، أنه قبل رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري لم يكن في لبنان ما يعرف بالزعامة السنية الواحدة، وكانت زعامات مناطقية، ولم تتكون فكرة الزعامة السنية الواحدة إلا مع الحريري الأب، و"اليوم تغيب زعامة سنية قادرة على استقطاب العدد الكبير من الطائفة، بسبب الفروق الاجتماعية بين منطقة وأخرى في العادات والتقاليد على المستوى الاجتماعي والمادي"، ويضيف مشدداً على أن التشتت الظاهر اليوم داخل هذه الطائفة كان موجوداً أيضاً قبل زمن الحريري، وسط تعدد الزعماء المناطقيين أمثال رشيد كرامي (رئيس حكومة راحل) في طرابلس، وصائب سلام (رئيس حكومة راحل) في البسطة، وآل سعد في الجنوب، ووفق هذا النموذج المتعدد سيعاد تكوين الواقع السني.
وفي السياق نفسه يضيف النائب السابق "حتى الجماعة الإسلامية لم تتمكن من خرق الطائفة السنية، وهذا ما يفسر غياب الأحزاب السنية وغياب السنة في الأحزاب، بسبب الظاهرة الاجتماعية وبسبب ارتباط الطائفة تاريخياً بالدولة حيث كانت تعد نفسها من أيام الأمويين حتى اليوم أنها جزء من الدولة، ولم تشعر بضرورة أن يكون لديها نوع من وجود سياسي أو مواجهة سياسية مع السلطة بصورة أو بأخرى. وانطلاقاً من كل ما تقدم لن تكون هناك قيادة سنية واحدة في لبنان، والمرحلة الجديدة ستكون شبيهة بالمرحلة التي تلت الاستقلال حيث كانت في كل منطقة قوى سياسية سنية مختلفة. دور السنة لا يمكن أن يكون إلا تحت عنوان الدولة وبزعامات مختلفة، وفي عقلهم الباطني المرجعية السعودية بصفتها المرجعية الدينية والسياسية معاً".
تيار المستقبل والتحولات الكبرى
لا يزال تيار المستقبل حاضراً بقوة في الشارع السني في لبنان، وتحن غالبية أبناء هذه الطائفة إلى "الزمن الأول" قبل أن تعصف وتبدل المشهد الداخلي التحولات الكبرى التي تلت اغتيال رفيق الحريري عام 2005، لكن همساً يدور منذ سنوات في كواليس هذا الحزب كما مناطق شعبيته بأن قرارات لم تكن صائبة اتخذت من قبل القيادات السنية الكبرى في مراحل مصيرية، أدت إلى ما أدت إليه اليوم من ضعف في وحدتهم وقوتهم.
عضو "تيار المستقبل" النائب السابق محمد الحجار رد على ما طال التيار من انتقادات قائلاً إن التيار الأزرق لم يتخذ موقفاً رمادياً من التطورات السريعة في المنطقة وخصوصاً في سوريا، لكنه أخذ الوقت الكافي لمراقبة الأمور والتفكير بالأحداث الجديدة قبل الكلام عنها".
وذكر الحجار بموقفين صدرا عن "تيار المستقبل" في اليوم نفسه الذي سقط فيه نظام بشار الأسد، "الأول للأمين العام للتيار أحمد الحريري، والثاني عبر عنه بيان رسمي صدر عن التيار، ثم كان بعد ستة أيام موقف للرئيس سعد الحريري رحب فيه بسقوط النظام الذي تاجر بفلسطين وباع الجولان.
وعن دور السنة في ظل التطورات والتغيرات أكد الحجار أن الحريرية السياسية وقيادة تيار المستقبل عملتا "على تعزيز وتثبيت قناعة أساسية عند عموم اللبنانيين المسلمين السنة ترتكز على الإيمان بالدولة والولاء لها ولمؤسساتها الدستورية. رسالتهم هي الاعتدال والحفاظ على العيش الواحد في دولة عربية ديمقراطية مستقلة سيدة بقواها الشرعية فقط على كامل أراضيها، والعمل دائماً على تمتين الوحدة الوطنية بين مختلف الأطياف على قاعدة احترام الآخر وحقه في الاختلاف تحت سقف الدولة الواحدة الجامعة لأبنائه".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
النواب الجدد
ينظر مراقبون باهتمام إلى تصويت النواب السنة في جلسة انتخاب رئيس للجمهورية في التاسع من يناير (كانون الثاني) الحالي، بخاصة أن تصويتهم قد يحسم هوية الرئيس المقبل، بعدما تيقن الثاني الشيعي كما المعارضة أن لا قدرة لديهم على إيصال مرشح إلى قصر بعبدا.
لا كتلة سنية نيابية واحدة حالياً على غرار كتلة "تيار المستقبل" في البرلمان السابق، ويتوزع النواب السنة في مجلس النواب عام 2022 بين قلة مع المعارضة وأخرى مع "الثنائي الشيعي" (حزب الله وحركة أمل)، وأكثرية وسطية تغييرية مستقلة غير موحدة، يسعى قسم منها إلى الالتقاء في كتلة وسطية جامعة أول اجتماعاتها سيكون الإثنين المقبل.
في صفوف النواب الجدد ممثل بيروت النائب إبراهيم منيمنة الذي استغرب الكلام عن ضرورة وجود قيادة سنية واحدة، ورفض القول إن الحريري لا يزال الممثل الوحيد للطائفة السنية، معتبراً أن هذا الأمر لن يتوضح إلا بعد الانتخابات النيابية المقبلة. وسأل منيمنة، "هل المنطلق الأصح يفترض وجود موقف سني موحد من التطورات والتغيرات في المنطقة"، مضيفاً "إذا كان الثنائي الشيعي يعبر عن موقف الطائفة الشيعية فإن الأمر مختلف على سبيل المثال لدى الطائفة المسيحية في ظل تنوع القيادات فيها على رغم أن مزاج المجتمع المسيحي في موقع واحد في غالبيته".
ورأى منيمنة أن هناك توجهات عدة لنواب وقيادات سنية "ومن الطبيعي أن تتعدد المواقف، وهذه الظاهرة صحية إلا إذا كان المطلوب إعادة البلد إلى زمن حكمه من أربعة زعماء طوائف. المزاج السني متنوع لكنه في موضوع حرب الإسناد كان واحداً إذ تعاطفت الغالبية السنية مع غزة لكنها وقفت ضد إقحام لبنان بالحرب. وفي موضوع سوريا الغالبية الكبرى أيدت التحرر من نظام الأسد وسقوطه وهذا انعكس في احتفالات حصلت في مناطق ذات غالبية سنية، علماً أن جزءاً من القيادات التي كانت على ارتباط وثيق بالنظام السوري التزمت الصمت وهذا أمر طبيعي".
يشدد منيمنة على أنه بعد تجربة الحرب الأهلية وتجربة استئثار"حزب الله" بالقرار وقبله الطوائف الأخرى وفشلت، فإن الدور السني المستقبلي هو المبادرة باتجاه كل المكونات اللبنانية لترسيخ قيم العيش المشترك والمساواة والدولة الحديثة ودولة المواطنة. وقال "السنة كانوا دائماً مع فكرة الدولة ونزعوا فعلياً عنهم فكرة الزعامة الطائفية والمحاصصة لمصلحة الدولة الحديثة، وهذه التجربة هي التي يجب أن تكون نموذج السنة في سوريا وفي كل المنطقة".
رهان السنة كان ولا يزال على الدولة
المدير العام للعلاقات العامة والإعلام السابق في دار الفتوى القاضي الشيخ خلدون عريمط رأى "أن الموقف الإسلامي السني في لبنان هو جزء لا يتجزأ من موقف الدولة اللبنانية، وصحيح أن هناك متغيرات حصلت في سوريا وفي فلسطين وفي دول الإقليم، لكن الصحيح أيضاً أن هذه المتغيرات انعكست على الواقع اللبناني، وهي تصب في مصلحة قيام الدولة العادلة القوية في لبنان".
وأكد عريمط أن السنة حرصوا دائماً على ألا تكون المتغيرات تصب في مصلحة طائفة من دون أخرى على الصعيد اللبناني، داعياً إلى أن تنتهي لعبة قوة الطوائف من الخارج وأن تكون قوة كل طائفة من قوة لبنان ومن صيغة ثقافة المواطنة، وأضاف "المسلمون في لبنان، خصوصاً أهل السنة، يراهنون على قيام الدولة اللبنانية القوية العادلة ولا يراهنون على متغيرات إقليمية هنا وهناك، لأن من كان يراهن على متغيرات في دول الإقليم ثبت له أن ثمنها غال جداً كما حصل بالنسبة إلى الدور الإيراني في لبنان والمنطقة، والمطلوب الآن من كل شرائح المجتمع اللبناني ألا يراهنوا إلا على وحدتهم الوطنية وقيام الدولة ومنع أي نوع من أنواع السلاح خارج إطار الدولة اللبنانية". ورأى أن المتغيرات الأخيرة التي حصلت في المنطقة تؤكد وجهة نظر السنة في لبنان منذ عام 1975 حتى الآن بأن الحل هو قيام دولة المؤسسات العادلة وليس بقيام ميليشيات هنا أو هناك.
وعن الكلام عن تراجع دور السنة بغياب القيادة الواحدة، أجاب الشيخ عريمط "من الخطأ القول إن السنة فقدوا مرجعية سياسية قوية، إنما فقدوا مرجعية وطنية على مستوى كل لبنان"، وأضاف "نحن ندعو كمسلمين سنة في لبنان إلى خروج الجميع من كهوفهم الطائفية وخنادقهم المذهبية والدخول إلى رحاب الوطن، وما يجري في محيط لبنان من توجه واضح في حل الفصائل المسلحة كافة أو الميليشيات لمصلحة الدولة، يؤكد أن المسلمين السنة كانوا سباقين قبل غيرهم في الدعوة إلى بناء الدولة العادلة، وكانوا قبل غيرهم من دعاة رفض وجود سلاح خارج إطار الدولة اللبنانية، وكان ذلك منذ المفتي حسن خالد (اغتيل عام 1989) إلى الرئيس رفيق الحريري إلى وقتنا الحاضر".