سوريا الجديدة والقضية الفلسطينية

آخر تحديث 2025-01-13 02:00:05 - المصدر: اندبندنت عربية

لا وصاية على التوجه السوري الجديد ولكن هناك دهشة لانتقال خطاب دمشق تجاه إسرائيل 180 درجة للاتجاه المعاكس (أ ف ب)

تعد القضية الفلسطينية القضية الأولى لكل العرب والمسلمين وكل الشعوب المحتلة التي اعتنقت الكفاح المسلح طريقاً للخلاص مما حلّ بها من احتلال أجنبي أو غزو خارجي أو طغيان سياسي، وسوريا تجسد بهذا المعنى كل مظاهر النضال الوطني من أجل الحرية والكرامة والسعي الدائم إلى استرداد الحقوق، وهي في الوقت نفسه قلب الشام الكبير وكانت فيها عاصمة أول خلافة إسلامية، كما أن سوريا الكبرى تضم الدولة السورية الحالية ولبنان والأردن وأطرافاً من العراق التي تشكل في مجملها "الهلال الخصيب" ونجمته في قبرص، إلا أن أيقونته الضائعة هي فلسطين بكل ما تجسده من معان وما ترمز إليه من دلالات، لذلك كان السوريون ينظرون إلى القضية الفلسطينية باعتبارها قضية سورية أيضاً مثلما هي بالنسبة إلى مصر قضية مصرية كذلك، وقد اتخذت الدولة السورية في مراحل تاريخها الحديث واحداً من أكثر المواقف تشدداً تجاه القضية الفلسطينية وأكثرها عداء لإسرائيل، كما خاضت حروباً أعوام 1948 و1967 و1973 دفاعاً عن الحق الفلسطيني، بل قادت دمشق دائماً جبهة الرفض لما اعتبروه تخاذلاً من مصر السادات بالدخول في سياسات "كامب ديفيد" ونتائجها السلبية على الصراع العربي - الإسرائيلي بصورة عامة كما رأتها مجموعة الدول الرافضة.

ويحسن أن نشير هنا إلى المقومات الراسخة في الخطاب السياسي السوري الذي كان يتحدث دوماً عما يسميه "الكيان الصهيوني" ويتشدد ظاهرياً في إدانته والعداء معه، فما أبعد الليلة عن البارحة، فها هو الخطاب السوري الجديد يتحول بين يوم وليلة، في ظاهره بغض النظر عن جوهره، إلى خطاب ودي يسعى إلى علاقات طيبة بين سوريا وإسرائيل، ونحن لا ندعي الوصاية على ذلك التوجه السوري الجديد ولكننا نعبر عن دهشتنا لانتقال الخطاب 180 درجة للاتجاه المعاكس، ونحن لا ننكر في الوقت ذاته تأثير نظرية تغير الظروف على الأفكار والسياسات والمواقف، ولنا هنا بعض الملاحظات على ما جرى في سوريا العربية وتأثيره في مستقبل علاقات المنطقة العربية والصراع العربي - الإسرائيلي بخاصة، وفي جوهره القضية الفلسطينية بتاريخها الطويل وآثارها على الإقليم كله ومنطقة غرب آسيا والخليج العربي والجزيرة العربية وشمال أفريقيا، لنرصد تلك الملاحظات في المحاور الآتية بصورة موجزة.

أولاً: سوريا كسائر الأقطار العربية تتحمل مسؤولية تاريخية في الصراع العربي - الإسرائيلي حرباً وسلاماً، ولا يمكن اختزال ذلك كله في بعض العبارات أو التصريحات من دون تمهيد سياسي أو تحول فكري متفق عليه على المستوى العربي العام، فسوريا التي كانت سباقة في المد القومي ولو بصورة نظرية لا يمكن أن تصبح بين عشية وضحاها معبراً للتطبيع الشامل مع إسرائيل، قفزاً على الأزمنة والأحداث والمواقف، حتى لو جاء ذلك تحت شعارات إسلامية أو تبريرات مرحلية، خصوصاً أن المشهد العام في المنطقة اليوم يمر بأسوأ ظروفه بعد مذابح غزة وتوترات لبنان وضرب البنية العسكرية التحتية للجيش السوري، على نحو يؤكد أن روح العداء لم تنتزع من الطرف الآخر، وأن العنصرية والغلو والتشدد تمضي كلها على ما كانت عليه على المستويين الرسمي والشعبي، فالقضية الفلسطينية ليست وليداً جديداً ولكنها مسألة معقدة مرت بمراحل طويلة ودفع فيها العرب، بمن فيهم السوريون، فاتورة غالية عبر الأعوام، وكان يمكن أن يجري ما جرى بحسابات ذكية وخطوات متأنية في مقابل حقيقي تدفعه إسرائيل ثمناً للسلام وتحقيقاً للعدل واستعادة للحد الأدنى من الحقوق الفلسطينية المهدرة، بعد نزف الدم الذي شهده العالم في أنحاء غزة لما يزيد على عام كامل، وتوجته إسرائيل بهدم المستشفيات وقتل البشر وترويع الأسر التي فقدت كل واحدة منها قتيلاً أو يزيد.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ثانياً: لا يوجد تناقض بين التعاليم الإسلامية والمفاهيم القومية إذ يلتقيان على مبادئ العدل والمساواة والتسامح، بل إن العروبة هي التي حملت الإسلام إلى كثير من  المناطق التي دخلها حتى ظهرت القومية العربية، ابنة الشام الكبير، لكي تكون نقطة بداية لمد قومي وحلم عربي لا يزالان يراوحان مكانهما حتى الآن، كما أننا يجب أن نعترف بأن الرقائق الحضارية والمظاهر القومية تمثل في مجملها عناصر السبيكة في شخصية المنطقة وهوية شعوبها، فلا الفرعونية في مصر ولا الفينيقية في الشام ولا الآشورية في بلاد النهرين تتناقض في مجموعها مع العروبة التي زحفت من الجزيرة العربية وانتقلت من دولة الخلافة المطلقة إلى دولة الحكم الوراثي على يد معاوية بن أبي سفيان والدولة الأموية التي ورثها بعد ذلك بنو العباس.

ثالثاً: نعترف بأن الإسلام غطاء حضاري شامل للمنطقة بأسرها ولكنه لا يقف وحده، فالمسيحية الأولى بدأت من الشام وفي فلسطين ولد المسيح عليه السلام، ولا يمكن أن نقلل من تأثير أصحاب الديانات الأخرى في المكون الشامل لهوية الأمة بعد قرون من العناق التاريخي بين ورثة الحضارات وأتباع الديانات في المنطقة العربية كلها، كما لا يمكن إهدار مراحل التاريخ بحادثة عابرة أو تغيير طارئ، فالشعوب باقية والديانات قائمة والأمة العربية تعتز دوماً بمسلميها ومسيحييها بل ويهودها أيضاً.

رابعاً: التحول الفكري لدى البشر أفراداً وجماعات أمر لا جدال فيه ولا اعتراض عليه، فالإنسان ابن ظروفه والعقل البشري لا يتوقف والتطور سنّة الحياة، ولكن الأمر في مجمله يحتاج إلى خطوات مدروسة وانتقالات محسوبة تضع في اعتبارها أسباب الظروف المتغيرة وتأثيرها في رسم صورة المستقبل وتصور أبعاده المختلفة وتخيل آفاقه بصورة عامة، وأنا هنا لا أصادر مرة أخرى على التحول الفكري الذي طرأ على قيادات دمشق من عضوية منظمات غير شرعية إلى مقاعد الحكم الرسمية في واحدة من أهم العواصم العربية، ولكنني أتحسب كثيراً لاحتمالات الارتداد الفكري الذي يكون من توابع الزلازل الكبرى في الطبيعة أو في السياسة على حد سواء، واضعين في الاعتبار أن الرواية لم تتم فصولها والحكاية لم تكتمل أركانها بعد، وقد يطول بنا الانتظار فعامل الزمن طويل وآثاره بعيدة المدى، خصوصاً عندما يتصل الأمر بالنفس البشرية وتحولاتها والعقل الإنساني وتقلباته بكل ما يؤثر فيه ويتأثر به.

وإذا كنا نتصور اليوم أن النمط التركي سيسود على الساحة السورية فإن الأمر لن يكون سهلاً، ولا شك في أنه سيأخذ وقتاً شرط حسن النيات وصدق المقاصد والفهم العميق لفقه الأولويات على ساحات الشام، وقد يمضي صراعاً مكتوماً لأعوام بين تيارات ثلاثة، أولها عروبي وثانيها تركي وثالثها إيراني، وإسرائيل ترقب في سعادة مخرجات ذلك الصراع مع ميلاد الهوية السياسة لسوريا الجديدة التي تضم شعباً أبياً ذكياً صبوراً بطبيعته وشجاعاً بفطرته، لا ينفصل أبداً عن أمته وقوميته.

هذه قراءة وصفية للأوضاع التي طرأت على المنطقة العربية خلال الأسابيع الأخيرة بعد شهور من الحرب في غزة والقلق في لبنان والترقب في العواصم العربية والشرق أوسطية كافة التي تظن أن ما هو قادم يحمل كثيراً من أسباب التغيير وعوامل التحول، فالأمم كالكائنات والشعوب مثل البشر تبدو في حراك دائم وحيوية مستمرة، والجمود ليس صفة دائمة ولا حالاً مستمرة، وما أكثر ما شهد التاريخ من تغييرات سياسية وانقلابات فكرية وتحولات اجتماعية سقطت معها نظم وقامت بها دول واستقرت حكومات، ودعونا نتأمل ما هو قادم ونأمل الخير في مستقبل أفضل لشعوب المنطقة العربية والشرق الأوسط الذي يتطلع إلى السلام والاستقرار والعدالة الدائمة، واحترام تطلعات الأمم نحو غد أفضل.