النصر الغريب لأميركا المتصدعة

آخر تحديث 2025-01-15 02:00:05 - المصدر: اندبندنت عربية

يجادل النقاد بأن الولايات المتحدة ليست سوى بيت من ورق، وأن قوتها الهائلة تخفي أساساً متصدعاً (فورين أفيرز)

بجميع المعايير، تبدو الولايات المتحدة في حالة فوضى. يعتقد ثلثا الأميركيين أن البلاد تسير في الاتجاه الخاطئ، وما يقرب من 70 في المئة يصفون الاقتصاد بأنه "ليس جيداً" أو "ضعيف". كما تراجعت ثقة الشعب في الحكومة بمقدار النصف، من 40 في المئة في عام 2000 إلى نسبة لا تتجاوز 20 في المئة اليوم. علاوة على ذلك، فإن حب الوطن يتلاشى، إذ إن 38 في المئة فقط من الأميركيين يقولون في الوقت الحاضر إن الوطنية "مهمة للغاية" بالنسبة إليهم، بعد أن كانت النسبة 70 في المئة في عام 2000. وبلغ الاستقطاب في الكونغرس أعلى مستوياته منذ فترة إعادة الإعمار [الحقبة التاريخية التي أعقبت الحرب الأهلية الأميركية]، وتصاعدت التهديدات بالعنف ضد السياسيين. كذلك، واجه الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب محاولتي اغتيال أثناء محاولته استعادة البيت الأبيض، وفاز بالتصويت الشعبي على رغم اعتقاد عديد من الأميركيين بأنه فاشي. ويشير بعض العلماء إلى وجود أوجه شبه بين الولايات المتحدة وألمانيا في عهد جمهورية فايمار، في حين يشبه آخرون الولايات المتحدة بالاتحاد السوفياتي في سنواته الأخيرة، نظام حكم هش يسيطر عليه قادة كبار في السن وينهار من الداخل. وهناك من يجادل بأن البلاد على شفا حرب أهلية.

ومع ذلك، فإن هذا الخلل الأميركي الواضح لم يكن له تأثير يذكر على القوة الأميركية، التي لا تزال صامدة، بل وحتى نمت في بعض النواحي. فحصة البلاد من الثروة العالمية لا تزال مماثلة لما كانت عليه في تسعينيات القرن العشرين، كما تعززت قبضتها على شرايين العالم، مثل الطاقة، والتمويل، والأسواق، والتكنولوجيا. وعلى الصعيد الدولي، تكتسب الولايات المتحدة حلفاء، في حين يواجه خصماها الرئيسان، الصين وروسيا، مشكلات متزايدة. ولا تزال هناك مخاوف جدية بشأن التضخم والديون الضخمة وضعف الإنتاجية، لكنها تتضاءل مقارنة بالتحديات الاقتصادية والديموغرافية التي تواجه القوى العظمى الأخرى.

هذه هي مفارقة القوة الأميركية: فالولايات المتحدة بلد منقسم، يُنظَر إليه على الدوام على أنه في حالة تراجع، لكنه يظل باستمرار الدولة الأكثر ثراءً وقوة في العالم، متفوقاً على منافسيه.

كيف يمكن لمثل هذه الهيمنة أن تنبثق من الفوضى؟ الإجابة هي أن الأصول الرئيسة التي تمتلكها الولايات المتحدة، مثل أراضيها الشاسعة وتركيبتها السكانية الديناميكية ومؤسساتها السياسية اللامركزية، تخلق أيضاً التزامات وأعباء شديدة. فمن ناحية، تُعتبر البلاد حصناً اقتصادياً، مليئاً بالموارد ومحاطةً بحدود بحرية تحميها من الغزو وتربطها بالتجارة العالمية. وخلافاً لمنافسيها، الذين يتقلص عدد سكانهم، تتمتع الولايات المتحدة بقوة عاملة متنامية، مدعومة بمستويات عالية من الهجرة. وعلى رغم الجمود السياسي في واشنطن، فإن النظام اللامركزي في البلاد يدعم القطاع الخاص الديناميكي الذي يتبنى الابتكارات بشكل أسرع من منافسيه. وهذه المزايا البنيوية تبقي الولايات المتحدة في المقدمة، حتى مع استمرار الصراعات بين ساستها.

لكن نقاط القوة هذه نفسها تخلق أيضاً نقطتي ضعف رئيستين. فهي أولاً تعمق الانقسام بين المراكز الحضرية المزدهرة والمجتمعات الريفية المتعثرة، مما يزيد الفوارق الاقتصادية ويؤجج الاستقطاب السياسي. وعلى رغم أن المدن استفادت إلى حد كبير من اقتصاد عالمي متزايد العولمة قائم على المعرفة ومدعوم بالهجرة، فإن عديداً من المناطق الريفية تخلفت عن الركب مع تضاؤل ​​​​الوظائف في القطاع العام والتصنيع، مما ولد استياءً أكبر وأضعفَ الوحدة الوطنية. وثانياً، تعزز العزلة الجغرافية والثراء شعور الانفصال عن الشؤون العالمية من خلال حماية البلاد من التهديدات الخارجية، مما يؤدي إلى نقص مزمن في الاستثمار في القدرات العسكرية والدبلوماسية. وفي الوقت نفسه، فإن القوة الهائلة والتنوع السكاني والمؤسسات الديمقراطية في الولايات المتحدة تدفع البلاد إلى السعي لتحقيق مجموعة من المصالح الطموحة في الخارج. ويفضي هذا التعارض بين الانفصال عن الشؤون العالمية من جهة والانخراط الدولي من جهة أخرى إلى نزعة أممية جوفاء تسعى فيها الولايات المتحدة إلى القيادة على المسرح العالمي، ولكنها غالباً ما تفتقر إلى الموارد اللازمة لتحقيق أهدافها بالكامل، مما يؤدي عن غير قصد إلى تأجيج صراعات مكلفة.

تُهدد هاتان النقطتان من الضعف، أي التفتت الداخلي والإفلاس الاستراتيجي، استقرار الولايات المتحدة وأمنها، مما يخلق تناقضات تقوض قوتها. فالازدهار الاقتصادي يتزامن مع الركود المدني [انهيار البنية المدنية الاجتماعية]. والقوة المادية التي لا مثيل لها غالباً ما تبددها سياسة خارجية فاشلة. والتجارة والهجرة تثريان البلاد، لكنهما تجهدان نسيجها الاجتماعي وتدمران مجتمعات الطبقة العاملة. التحدي أمام القادة الأميركيين هو كيفية التعامل مع هذه التناقضات. إذا تمكنت الولايات المتحدة من موازنة طموحاتها مع مواردها وسد فجواتها الداخلية، فبإمكانها ليس فقط الحفاظ على قوتها، ولكن أيضاً المساهمة في نظام عالمي أكثر استقراراً. وإلا، فإن مفارقة القوة الأميركية قد تؤدي ذات يوم إلى انهيار شامل.

باقية في القمة

لا تزال الولايات المتحدة قوة اقتصادية عظمى، إذ إنها تستأثر بـ 26 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وهي النسبة نفسها التي كانت عليها خلال "مرحلة القطب الواحد" [الهيمنة بلا منازع] في أوائل التسعينيات. في عام 2008، كان حجم اقتصاد الولايات المتحدة متساوياً تقريباً مع حجم اقتصاد منطقة اليورو، ولكن اليوم، أصبح الاقتصاد الأميركي يعادل ضعفي حجم اقتصاد منطقة اليورو. كما أنه أكبر بنحو 30 في المئة من اقتصادات ما يسمى بالجنوب العالمي مجتمعةً: أفريقيا وأميركا اللاتينية والشرق الأوسط وجنوب آسيا وجنوب شرقي آسيا. قبل عقد من الزمان، كان حجم الاقتصاد الأميركي أكبر بنحو 10 في المئة فقط.

وحتى الاقتصاد الصيني فهو في تراجع نسبي مقارنة باقتصاد الولايات المتحدة من حيث القيمة الحالية للدولار - وهي المعيار الأكثر وضوحاً للقوة الشرائية في الأسواق الدولية - ذلك على رغم أن هذا المقياس يبالغ في تقدير حجم الاقتصاد الصيني، إذ تميل بكين إلى تضخيم أرقامها. في الواقع، إن اقتصاد الصين أصغر مما يدعيه الحزب الشيوعي، وهو بالكاد ينمو. وهذا الأداء الضعيف تؤكده سلوكيات المواطنين الصينيين، الذين يعبرون عن عدم رضاهم من خلال تهريب الأموال ومغادرة البلاد. فمن 2021 إلى 2024، نقل المواطنون الصينيون بشكل غير قانوني مئات المليارات من الدولارات خارج الصين وأصبحوا أسرع المجموعات نمواً بين المهاجرين عبر الحدود الجنوبية للولايات المتحدة، حيث زادت أعدادهم بمقدار 50 ضعفاً خلال هذه الفترة.

كما أن الولايات المتحدة توسع فارق تقدمها في الثروة الفردية. ففي عام 1995، كان المواطنون اليابانيون، في المتوسط، أكثر ثراءً بنسبة 50 في المئة من الأميركيين، بناءً على القيمة الحالية للدولار؛ واليوم، أصبح الأميركيون أكثر ثراءً بنسبة 140 في المئة. ولو كانت اليابان ولاية أميركية، لكانت الأشد فقراً من حيث متوسط الأجور، بعد ولاية ميسيسيبي، وكذلك الأمر بالنسبة إلى فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة.

بين عامي 1990 و2019، ارتفع متوسط دخل الأسر في الولايات المتحدة بنسبة 55 في المئة بعد احتساب الضرائب والمساعدات الحكومية والتضخم، مع تسجيل ارتفاع بنسبة 74 في المئة في دخل الخُمس، وهي الفئة الأدنى من الدخل. على رغم أن معظم الاقتصادات الكبرى شهدت انخفاضاً في الأجور منذ جائحة كورونا، إلا أن الأجور الحقيقية في الولايات المتحدة استمرت في الارتفاع، فسجلت زيادة متواضعة بنسبة 0.9 في المئة بين 2020 و2024.

يشعر عديد من الأميركيين، وبخاصة المستأجرين والمواطنين الذين لا يمتلكون أصولاً في سوق الأسهم، أن وضعهم الاقتصادي يتدهور بسبب ارتفاع أسعار الإسكان والطعام بشكل مستمر، لكن الغالبية أصبحت أكثر ثراءً مقارنةً بما كانت عليه قبل الجائحة، مع تحقيق العمال ذوي الدخل المنخفض مكاسب قوية على وجه الخصوص. منذ عام 2019، ارتفعت أجور شريحة الـ10 في المئة ذات الدخل الأدنى بمعدل أسرع بنحو أربع مرات من أجور العمال ذوي الدخل المتوسط، وبأكثر من عشرة أضعاف سرعة نمو أجور أصحاب الدخول المرتفعة، مما ساعد في تقليص نحو ثلث فجوة الأجور [عدم المساواة في الأجور] التي كانت تتراكم على مدى الأربعين عاماً الماضية. اليوم، يجني جيل الألفية الأميركي نحو 10 آلاف دولار أكثر في المتوسط مما كانت تجنيه الأجيال السابقة في نفس العمر (مع الأخذ في الاعتبار التضخم) كما أن احتمالية امتلاكهم منازل توازي تقريباً تلك التي كانت لدى الأجيال السابقة. علاوة على ذلك، فإن عديداً من الأسر الأميركية المتوسطة الدخل تصنف ضمن أغنى 1 إلى 2 في المئة من أصحاب الدخل على مستوى العالم.

في الحقيقة، إن هذا المزيج من الثروة الفردية والحجم الاقتصادي الهائل يميز الولايات المتحدة عن غيرها. فعلى النقيض من الصين والهند (اللتين تتمتعان بكثافة سكانية عالية، ولكنهما فقيرتان) أو اليابان ودول أوروبا الغربية (الصغيرة بحجمها، ولكن الثرية)، تجمع الولايات المتحدة بين الحجم والكفاءة، مما يولد قوة مادية لا مثيل لها. يمكن أن ينتج الحجم وحده ناتجاً اقتصادياً هائلاً، ولكن في غياب الإنتاجية العالية للفرد، فإن قدراً كبيراً من هذا الإنتاج سوف يُهدر أو يُستهلك محلياً، مما يترك تأثيراً ضئيلاً على المستوى العالمي. وقد أثبت التاريخ ذلك: ففي القرن التاسع عشر، كانت الصين تمتلك أكبر عدد من السكان وأكبر اقتصاد في العالم، وكانت روسيا تمتلك أكبر اقتصاد في أوروبا، ومع ذلك، تفوقت عليهما قوى أكثر كفاءة مثل ألمانيا واليابان والمملكة المتحدة.

على رغم أن الولايات المتحدة لديها نقاط ضعف اقتصادية، إلا أنها أقل حدة بشكل عام من تلك التي تعاني منها الاقتصادات الكبرى الأخرى. على سبيل المثال، كان نمو الإنتاجية الكلية لعوامل الإنتاج في الولايات المتحدة (الذي يقيس مدى كفاءة الدولة في استغلال جميع مواردها، مثل العمالة ورأس المال والتكنولوجيا، وتحويلها إلى ناتج اقتصادي) ضعيفاً خلال العقد الماضي، لكنه يظل إيجابياً، خلافاً للمعدلات السلبية التي عانت منها الصين والدول الأوروبية، وفقاً لبيانات "كونفرنس بورد"، وهي منظمة بحثية اقتصادية. ويُعد إجمالي الدين الأميركي ضخماً، بما في ذلك ديون الحكومة والأسر والشركات، إذ بلغ 255 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2024، مع ارتفاع مدفوعات الفائدة على الدين الفيدرالي إلى 14 في المئة، وهو ما يقترب من نسبة 18 في المئة، التي تنفَق على موازنة الدفاع. لكنه لا يزال أقل من متوسط دين الاقتصادات المتقدمة، وأقل بكثير من ديون الصين المتزايدة التي تتجاوز 300 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، وقد انخفض بنحو 12 في المئة عن ذروته في عام 2021. وفي الوقت نفسه، تستمر ديون الاقتصادات الكبرى الأخرى في التزايد.

هذا الخلل الأميركي الواضح لم يكن له تأثير يذكر على القوة الأميركية

 

وفي منحى آخر، وسعت الولايات المتحدة تحالفاتها العسكرية وسيطرتها على الأنظمة المالية وأسواق الطاقة والاستهلاك والتطوير التكنولوجي، مما زاد من قدرتها على تشكيل النظام الذي تعمل فيه الدول الأخرى. لنأخذ الدولار على سبيل المثال. يمثل الدولار الآن ما يقرب من 60 في المئة من احتياطيات البنوك المركزية العالمية، منخفضاً عن نسبة 68 في المئة التي سجلها في عام 2004 لكنه يعادل النسبة المسجلة في عام 1995. ويُستخدم الدولار في نحو 70 في المئة من الالتزامات المصرفية العابرة الحدود وإصدار الديون بالعملات الأجنبية، وهي نسبة أعلى مما كانت عليه عام 2004، وهو يُستعمل في ما يقرب من 90 في المئة من معاملات صرف العملات الأجنبية العالمية. هذا الدور المهيمن للدولار يسمح لواشنطن بفرض عقوبات، وتأمين تكاليف اقتراض أقل، وربط مصير الدول الأخرى بمصيرها. والحكومات الأجنبية التي تحتفظ باحتياطيات كبيرة من الدولار تكون فعلياً مستثمرة في نظام يعتمد فيه ازدهارها على صحة اقتصاد الولايات المتحدة، مما يجعلها مترددة في اتخاذ إجراءات من شأنها أن تضر في نهاية المطاف بمصالحها الخاصة، مثل خفض قيمة العملة أو فرض العقوبات.

وقد عزز التحول في قطاع الطاقة الأميركي تأثير واشنطن العالمي. فبعد أن كانت أكبر مستورد للطاقة في العالم، أصبحت الولايات المتحدة الآن أكبر منتج للنفط والغاز الطبيعي، متفوقة على روسيا والسعودية. وفي الوقت نفسه، تبنت سياسة كفاءة استخدام الطاقة وتقنيات الطاقة المتجددة، مما أدى إلى خفض انبعاثات الكربون للفرد إلى مستويات لم نشهدها منذ العقد الثاني من القرن العشرين. وقد ساعد هذا الازدهار في قطاع الطاقة على إبقاء أسعار النفط والغاز في الولايات المتحدة منخفضة، حتى أثناء الصراعات الدولية. على سبيل المثال، مقارنة مع نظيراتها في أماكن أخرى، تدفع الشركات الأوروبية حالياً مقابل الكهرباء تكاليف أعلى بمرتين أو ثلاث مرات، ومقابل الغاز الطبيعي تكاليف أعلى بأربعة إلى خمس مرات، مما جعل بعض الشركات المصنعة الأجنبية تنتقل إلى الولايات المتحدة. كما أسهم إنتاج الطاقة في مساعدة واشنطن على عزل نفسها وحلفائها عن الإكراه والضغوط الخارجية. فعلى سبيل المثال، بعد غزو روسيا لأوكرانيا، تمكنت الولايات المتحدة من مساعدة أوروبا، التي تعتمد بشكل كبير على الطاقة الروسية، في تعويض النقص الذي عانت منه من خلال إرسال النفط والغاز إليها. وفي الوقت نفسه، تمارس السوق الاستهلاكية الأميركية الضخمة، التي تعادل سوق الصين ومنطقة اليورو مجتمعتين، ضغوطاً على الشركات والحكومات الأجنبية للامتثال للسياسات التجارية الأميركية من أجل الحفاظ على قدرة الوصول إلى مصدر الإيرادات الأكثر ربحية في العالم.

واستكمالاً، فإن تفوق الولايات المتحدة في الابتكار العالمي يعزز أيضاً من قوتها الهيكلية. فالشركات الأميركية تولّد أكثر من 50 في المئة من أرباح التكنولوجيا المتقدمة في العالم، في حين تحقق الصين نسبة 6 في المئة فقط. هذا التفوق في الابتكار يمنح الشركات الأميركية مواقع حاسمة وحيوية في سلاسل التوريد، مما يمكن واشنطن من التأثير على شبكات الإنتاج، كما يتضح من تنسيقها للقيود الدولية المتعددة الجنسيات المفروضة على تصدير أشباه الموصلات إلى الصين. إضافة إلى ذلك، وسّعت الولايات المتحدة تحالفاتها العسكرية، مما عزز قدرتها على تطويق المنافسين وإبراز قوتها عبر أوراسيا. وقد رحب حلف شمال الأطلسي بانضمام فنلندا والسويد، وفي منطقة المحيطين الهندي والهادئ، أدت مبادرات مثل تحالف "أوكوس" AUKUS و"كواد" Quad، أو "المحادثات الرباعية"، إلى تعميق العلاقات بين أستراليا والهند واليابان. بطريقة موازية، فإن العلاقات التي كانت متوترة في السابق، مثل العلاقات بين اليابان وكوريا الجنوبية أو بين الولايات المتحدة والفيليبين، تشهد تحسناً، مما يمهد الطريق لتعاون دفاعي أكبر وإمكانية الوصول إلى القواعد العسكرية الأميركية.

بُنيَت لتدوم

يجادل النقاد بأن الولايات المتحدة ليست سوى بيت من ورق، وأن قوتها الهائلة تخفي أساساً متصدعاً. ويشيرون إلى الجمود الحكومي وتآكل الثقة العامة والانقسامات المجتمعية المتزايدة باعتبارها تشققات تنتشر في الأساس المدني، وهي تشققات يعتقدون أنها ستقوض حتماً ركائز الثروة والقوة في الولايات المتحدة.

ومع ذلك، لا يُظهر التاريخ الأميركي أي رابط مباشر وواضح بين الاضطرابات الداخلية والانحدار الجيوسياسي. في الواقع غالباً ما خرجت الولايات المتحدة أقوى من الأزمات السياسية. فقد أعقبت الحرب الأهلية فترة إعادة إعمار ونهضة صناعية. وبعد الأزمات المالية في تسعينيات القرن التاسع عشر، أصبحت واشنطن قوة عالمية. أما الكساد العظيم، فقد حفز إطلاق "الصفقة الجديدة" [سياسات تبنتها إدارة روزفلت في ثلاثينيات القرن العشرين لتخفيف آثار الكساد الكبير وتعزيز دور الحكومة في دعم الاقتصاد وخلق فرص العمل]؛ وكانت الحرب العالمية الثانية بمثابة بداية "القرن الأميركي"، حقبة من الهيمنة الأميركية غير المسبوقة. وفي نهاية المطاف، تجاوزت الولايات المتحدة أزمات سبعينيات القرن العشرين التي اتسمت بالركود التضخمي والاضطرابات الاجتماعية والهزائم في فيتنام وإيران، لتشهد انتعاشاً اقتصادياً وعسكرياً، وانتصاراً في الحرب الباردة، وازدهاراً في التكنولوجيا في تسعينيات القرن العشرين. وفي أوائل هذا القرن، غذت الحربان الكارثيتان في أفغانستان والعراق، جنباً إلى جنب مع الركود الكبير، التوقعات بانحدار الولايات المتحدة. ومع ذلك، وبعد ما يقرب من 20 عاماً، لا يزال "القرن الأميركي" مستمراً.

يؤسس الأميركيون أعمالاً تجارية بمعدلات تساوي ضعفين إلى ثلاثة أضعاف المعدلات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وروسيا، وبمعدل أعلى بمرة ونصف من المعدلات في الصين والمملكة المتحدة

 

إن المرونة المدهشة التي تتمتع بها القوة الأميركية تكمن في نقاط قوتها الهيكلية. فمن الناحية الجغرافية، تشكل الولايات المتحدة مركزاً اقتصادياً وحصناً عسكرياً. فهي تتمتع بموارد وفيرة، بما في ذلك أنهار طبيعية صالحة للملاحة وموانئ عميقة المياه. هذه الميزات تبقي تكاليف الإنتاج منخفضة وتربط سوقاً وطنية ضخمة ببعضها وبأغنى مناطق آسيا وأوروبا عبر الطرق البحرية التي تعمل أيضاً كخنادق دفاعية طبيعية. وهذا العزل الجغرافي يحمي الولايات المتحدة من التهديدات الخارجية، مما يسمح لجيشها بالتجول في الخارج وتعزيز جاذبية البلاد كملاذ آمن. ونتيجةً لذلك، تميل رؤوس الأموال إلى التدفق إلى البلاد خلال الأزمات العالمية، حتى عندما تكون تلك الأزمات من صنع أميركي، كما كانت الحال مع أزمة 2008 المالية.

إضافة إلى ذلك، تجذب الولايات المتحدة رأس المال البشري، إذ تستقطب آلاف العلماء والمهندسين ورواد الأعمال من جميع أنحاء العالم سنوياً. وعلى رغم أن هجرة العمال ذوي المهارات المتدنية قد خفضت الأجور في بعض القطاعات، فإنها ساعدت أيضاً في تلبية حاجات الصناعات الأساسية مثل تجارة التجزئة، والخدمات الغذائية، والزراعة، والرعاية الصحية، مما يضمن استمرار هذه القطاعات في العمل أثناء اضطرابات سلسلة التوريد وأزمات الصحة العامة. وإضافة إلى معدلات الولادة المرتفعة، فإن متوسط التدفق السنوي لما يزيد على مليون مهاجر يجعل الولايات المتحدة القوة العظمى الوحيدة التي من المتوقع أن ينمو فيها عدد السكان في سن العمل طوال هذا القرن. في المقابل، تواجه القوى الرائدة الأخرى انخفاضات حادة: بحلول نهاية القرن، يُتوقع أن ينخفض عدد العمال الذين تتراوح أعمارهم من 25 إلى 49 عاماً في الصين بنسبة 74 في المئة، وفي ألمانيا بنسبة 23 في المئة، وفي الهند بنسبة 23 في المئة، وفي اليابان بنسبة 44 في المئة، وفي روسيا بنسبة 27 في المئة.

على رغم أن النظام السياسي الأميركي غالباً ما يبدو مشلولاً، فإن هيكله اللامركزي، الذي يوزع السلطة بين المستويات الفيدرالية والمحلية والإقليمية، يساعد في تمكين القوى العاملة فيها من أن تكون أكثر تعليماً مقارنةً بالقوى العاملة في الصين واليابان وروسيا والمملكة المتحدة. وخلافاً لمعظم الديمقراطيات الليبرالية، التي طورت دولاً قوية قبل إرساء الديمقراطية، وُلدت الولايات المتحدة كدولة ديمقراطية ولم تبدأ في بناء بيروقراطية حديثة إلا في ثمانينيات القرن التاسع عشر. والواقع أن النظام الدستوري الأميركي، المصمم لتعظيم الحرية والحد من سلطة الحكومة، يقيد قدرة الدولة لكنه يسهل التجارة في الوقت نفسه. وعلى رغم تركيز وسائل الإعلام الرئيسة على السباقات الرئاسية، إلا أنها غالباً ما تتجاهل ديناميكية الاقتصادات المحلية والقطاع الخاص.

كما تحتل الولايات المتحدة باستمرار مركز الصدارة أو أحد المراكز الأولى عالمياً في الابتكار وسهولة ممارسة الأعمال التجارية، إذ تتطلب نحو نصف الخطوات والوقت اللازمين لتسجيل الملكية أو إنفاذ العقود مقارنةً بالدول الأوروبية. ونتيجةً لهذا، يؤسس الأميركيون أعمالاً تجارية بمعدلات تساوي ضعفين إلى ثلاثة أضعاف المعدلات في فرنسا وألمانيا وإيطاليا واليابان وروسيا، وبمعدل أعلى بمرة ونصف من المعدلات في الصين والمملكة المتحدة. كما يمضي الأميركيون في العمل ساعات أطول بنسبة 25 في المئة مقارنةً مع العمال الألمان، وينتجون 40 في المئة أكثر في الساعة مقارنةً بالعمال اليابانيين، ويوظفون ويُسرحون العمال بمعدل أعلى وبكفاءة أكبر من أي قوة عاملة كبيرة أخرى. هذه السوق العمالية النشطة والقابلة للتكيف تساعد الولايات المتحدة على التعافي من الأزمات: على سبيل المثال، عاد معدل البطالة في الولايات المتحدة إلى مستويات ما قبل الجائحة في عام 2022 وظل عند 4 في المئة تقريباً، وهي أطول فترة مستدامة من البطالة المنخفضة منذ الستينيات، في حين أن متوسط معدل البطالة في دول مجموعة العشرين لا يزال يقارب 7 في المئة.

 

إن النظام الأميركي اللامركزي يتفوق أيضاً في تبني الابتكارات وتوسيع نطاقها عبر مختلف القطاعات، وهي ميزة أساسية للنمو على المدى الطويل تفوق أهمية الابتكار وحده. مقارنةً بنظيراتها في الدول المتقدمة الأخرى، تواجه الحكومات المحلية في الولايات المتحدة، مثلها مثل الشركات الأميركية، قيوداً أقل من البيروقراطية الحكومية المركزية. كما تضع الوكالات الفيدرالية مبادئ توجيهية عامة، مما يسمح للولايات بتكييف الأنظمة والقوانين وفق الحاجات المحلية، وتجربة مناهج مختلفة، والتنافس على الاستثمار. ونتيجة لذلك، تميل الأفكار الناجحة إلى الانتشار بسرعة. وميزة الانتشار هذه تعززها أسواق رأس المال الاستثماري الكبيرة في الولايات المتحدة، التي تمثل نحو نصف الإجمالي العالمي. وتسهم الشراكات الوثيقة بين الشركات والجامعات في تقوية هذا النظام، حيث تستضيف الولايات المتحدة سبعاً من أفضل عشر جامعات عالمياً ونحو ربع أفضل 200 جامعة في العالم.

وكما أوضح عالم السياسة جيفري دينغ، فإن النظام الديناميكي الأميركي قد استفاد باستمرار من التقنيات الجديدة أكثر من الدول التي اخترعتها. فخلال الثورة الصناعية الأولى، طورت المملكة المتحدة المحرك البخاري، لكن الأميركيين استخدموه بشكل أوسع في المصانع والسكك الحديدية والزراعة، فخلقوا ما أصبح معروفاً على نطاق واسع باسم "النظام الأميركي" للإنتاج الضخم، وهو نموذجٌ دفع اقتصاد الولايات المتحدة إلى التقدم على اقتصاد المملكة المتحدة في سبعينيات القرن التاسع عشر. وفي الثورة الصناعية الثانية، كانت ألمانيا رائدة في مجال البحوث الكيماوية، لكن الولايات المتحدة تفوقت في مجال الهندسة الكيماوية، فطبقت التطورات في مختلف القطاعات مثل النفط والمعادن وتصنيع الأغذية. بشكل عام، نما اقتصاد الولايات المتحدة بنسبة 60 في المئة أسرع من الاقتصاد الألماني بين عامي 1870 و1913، وكان حجمه أكبر بـ 2.6 مرة من الاقتصاد الألماني عشية الحرب العالمية الأولى. خلال الحرب الباردة، استثمر الاتحاد السوفياتي حصة أكبر من ناتجه المحلي الإجمالي في البحث والتطوير ووظف عدداً من العلماء والمهندسين يقارب ضعف ما وظفته الولايات المتحدة. لكن النظام الشيوعي الضخم استنزف الموارد وخنق الابتكار. وبحلول ثمانينيات القرن العشرين، كان الاتحاد السوفياتي لا يزال عالقاً في العصر التناظري [غير الرقمي]، إذ لم ينتج سوى بضعة آلاف من أجهزة الحاسوب سنوياً، في حين كانت الشركات الأميركية تصنع الملايين من هذه الأجهزة وتقود الثورة الرقمية. وعلى نحو مماثل، كانت اليابان رائدة في مجال أشباه الموصلات والمعدات الإلكترونية الاستهلاكية، لكن الولايات المتحدة دمجت هذه الابتكارات على نطاق أوسع عبر اقتصادها، مما عزز الإنتاجية بينما شهدت اليابان ركوداً في التسعينيات.

اليوم، تواصل الولايات المتحدة تميزها عندما يتعلق الأمر بالابتكار. على رغم أن حكومة الولايات المتحدة تشارك أحياناً في السياسة الصناعية، على سبيل المثال، من خلال الاستثمارات الأخيرة في تصنيع أشباه الموصلات والطاقة المتجددة، إلا أنها تعتمد عموماً على الحوافز والشراكات بين القطاعين العام والخاص بدلاً من السيطرة المباشرة، مما يسمح للاكتشافات والتقنيات الجديدة بالانتشار بشكل طبيعي عبر القطاعات. وعلى النقيض من ذلك، فإن النموذج الاستبدادي القائم على الإعانات في الصين يخلق أقساماً معزولة ومنفردة من الابتكار من دون تعزيز الإنتاجية على جميع مستويات الاقتصاد. فالصين تركز على ما تعتبره قطاعات ذات أهمية دولية، مثل صناعات المركبات الكهربائية والطاقة المتجددة. لكن هاتين الصناعتين لا تشكلان سوى 3.5 في المئة من الاقتصاد الصيني، وهو ما لا يكفي لتعويض التراجع في القطاع العقاري وقطاع البناء المتضخمين، اللذين يمثلان نحو 30 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي وتسببا في تقليص ثروات الأسر بمقدار 18 تريليون دولار منذ عام 2021. كما فشلت صناعات التكنولوجيا في الصين في خلق فرص عمل كافية لملايين من الخريجين الجامعيين الجدد، مما ترك ما يقرب من واحد من كل خمسة شباب بالغين عاطلاً من العمل.

إن النموذج الصيني القائم على الإعانات بشكل كبير يفرض تكاليف اقتصادية هائلة. فقد تلقى قطاع السيارات الكهربائية وحده 231 مليار دولار من الدعم منذ عام 2009، حيث يشكل الدعم الحكومي جزءاً كبيراً من إيراداته. هذا الإنفاق قد دعم الشركات المرتبطة بالسلطة السياسية، لكنه في الوقت نفسه أدى إلى استنزاف الثروات الأسرية، وكبح الاستهلاك، وتسبب في حدوث فائض في الإنتاج، وزيادة في الديون والفساد، وكل ذلك على حساب الاستثمارات في رفاهية المواطنين الصينيين، لا سيما في مجالي التعليم والرعاية الصحية. في المناطق الريفية، حيث يعيش أقل بقليل من نصف السكان، أدى هذا الإهمال إلى بقاء نحو 300 مليون شخص محرومين من التعليم أو المهارات اللازمة للعمل في اقتصاد حديث، مثلما أوضح الاقتصادي سكوت روزيل. كما أدت القيود التنظيمية الصارمة والقمع السياسي إلى الحد من الابتكار بشكل أكبر، مع انخفاض عدد الشركات الناشئة في مجال التكنولوجيا الجديدة من أكثر من 50 ألف شركة في عام 2018 إلى 1200 شركة فقط بحلول عام 2023. ونتيجةً لذلك، تظل إيرادات الصناعات التكنولوجية الفائقة في الصين توازي جزءاً صغيراً مما تحققه نظيراتها في الولايات المتحدة من إيرادات، مما يبرز حدود النموذج المركزي للصين.

دولة واحدة ونظامان

وعلى رغم ازدهارها الاستثنائي، تعاني الولايات المتحدة من تفاوتات اجتماعية واقتصادية كبيرة. على رغم أن معدل الفقر في الولايات المتحدة انخفض من 26 في المئة في عام 1967 إلى 10 في المئة في عام 2023، فإنه لا يزال أعلى من المعدلات المسجلة في أوروبا الغربية، كما أن الجرائم العنيفة أكثر شيوعاً بأربع إلى خمس مرات. تساعد برامج مثل "الضمان الاجتماعي" و"ميدي كير" [نظام تأمين صحي مصمم للأشخاص الذين تبلغ أعمارهم 65 سنة أو أكثر، وبعض الأفراد ذوي الاحتياجات الخاصة] كبار السن، لكن الأميركيين في سن العمل يحصلون على دعم أقل بكثير، إذ تنفق الولايات المتحدة على التدريب المهني ربع متوسط ما تنفقه دول منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية OECD، وما يزيد قليلاً على الثلث على رعاية الأطفال والتعليم المبكر. ويخلق هذا التفاوت تبايناً صارخاً: فالأميركيون الأغنياء هم الأكثر ثراءً في العالم الحر، ومع ذلك فإن الأميركيين الأكثر فقراً هم من بين الأكثر عرضة للجوع. وعلى رغم تقلص الفوارق الاقتصادية والعرقية أخيراً (إذ ارتفعت أجور العمال من ذوي البشرة السمراء واللاتينيين بشكل أسرع من أجور العمال ذوي البشرة البيضاء)، إلا أن التفاوتات لا تزال بارزة، مما أدى إلى انقسامات سياسية حادة.

أكثر هذه الانقسامات إثارة للجدل هو ذلك الذي بين المناطق الحضرية والريفية، ومن عجيب المفارقات، أن هذا الانقسام تغذيه نفس العوامل التي أسهمت في ازدهار الولايات المتحدة بشكل عام، على غرار الامتداد القاري [المشاريع والظواهر والدراسات التي تمتد عبر القارة بأكملها]، والمؤسسات اللامركزية، والنمو المدفوع بالهجرة. لقد استفادت المراكز الحضرية إلى حد كبير من العولمة والهجرة والتحول إلى الصناعات القائمة على المعرفة والخدمات. وعلى النقيض من ذلك، تُركت معظم المناطق الريفية خلف الركب، وعديد منها لا يزال يعتمد على قطاعات منحسرة مثل الزراعة والتصنيع ووظائف القطاع العام. ومع ذلك، فإن المناطق الريفية، على رغم قاعدتها الاقتصادية المتدهورة، ما زالت تتمتع بسلطة سياسية تفوق حجمها السكاني وإنتاجها الاقتصادي، بفضل تمثيلها في مجلس الشيوخ والمجمع الانتخابي. وبالتالي، أدى نظام الولايات المتحدة إلى إفقار المناطق الريفية وتمكينها سياسياً، مما يهدد استقرار الديمقراطية الأميركية.

هذا الصدع بين الحضر والريف، وهو الأوسع بين الديمقراطيات الغنية، له جذور تمتد عميقاً في ماضي الولايات المتحدة. ففي القرن التاسع عشر، أدى الانقسام بين الشمال الصناعي والجنوب الزراعي الذي يمارس العبودية إلى اندلاع الحرب الأهلية. ولكن "الصفقة الجديدة" والحرب العالمية الثانية خففت من حدة هذه الانقسامات موقتاً من خلال نشر الصناعات بين المدن والأرياف. ولكن في أواخر القرن العشرين، أشعلت العولمة والتغير التكنولوجي شرارة اتساع الفجوة بين الثروات، إذ إن اتفاقية التجارة الحرة لأميركا الشمالية في تسعينيات القرن العشرين وما يطلق عليه الأكاديميون "صدمة الصين" في العقد التالي، اللتان أرسلتا الوظائف إلى الخارج، أدتا إلى إفراغ المدن الصناعية الأميركية. بين عامي 2000 و2007، خسرت الولايات المتحدة 3.6 مليون وظيفة في مجال التصنيع، تلتها خسارة 2.3 مليون وظيفة أخرى خلال الأزمة المالية لعام 2008 والركود الاقتصادي الذي أعقبها. وكانت المدن الريفية هي الأكثر تضرراً، إذ كانت تعتمد غالباً على مصنع واحد للتجارة والإيرادات الضريبية. ومع اختفاء الوظائف، أُجبِر العمال من ذوي الياقات الزرقاء [العمال اليدويون] على العمل في مجالات ذات أجور أقل، مثل البناء والزراعة والتخزين وتجارة التجزئة. في هذه القطاعات، أدت الهجرة إلى تقليل أجور العمال المحليين الأقل مهارة بنسبة تتراوح بين 0.5 و1.2 في المئة مع كل زيادة بنسبة 1 في المئة في عرض العمالة الوافدة، وفقاً لمراجعة شاملة أجرتها الأكاديميات الوطنية للعلوم والهندسة والطب.

ومما زاد الأمور سوءاً هو أن المناطق الريفية كانت تعتمد بشدة على الوظائف الحكومية المحلية، التي مثلت نحو 20 في المئة من العمالة مقارنةً بنحو 10 في المئة في المناطق الحضرية، وأسهمت بأكثر من 30 في المئة من دخل سكان الريف الأميركيين. ومع انخفاض الإيرادات الضريبية، ألغت الحكومات المحلية عدداً من هذه الوظائف في القطاع العام، مثل تلك الموجودة في المدارس وأقسام الشرطة، وذلك من أجل موازنة الميزانية. وفي حين أن المناطق الحضرية ذات الاقتصادات المتنوعة في القطاع الخاص تمكنت من التعافي في غضون سنوات قليلة من الأزمة المالية، فإن ما يقرب من نصف المقاطعات الريفية في البلاد لم تستعد بعد مستويات التوظيف السابقة للركود بحلول عام 2019: من عام 2000 إلى عام 2019، 94 في المئة من الوظائف الجديدة في الولايات المتحدة كانت في المناطق الحضرية. كما عانى سكان الريف الأميركيون بطرق أخرى. ونظراً لأن هؤلاء السكان بحاجة إلى قطع مسافات طويلة للوصول حتى إلى خيارات محدودة من الغذاء والرعاية الصحية وبالتالي هم أكثر عرضة لأسعار الوقود المرتفعة والاحتكارات المحلية، فقد ارتفعت تكاليف هذه السلع والخدمات في المناطق الريفية بنسبة 9 في المئة أسرع مما كانت عليه في المناطق الحضرية بين عامي 2020 و2022.

يتزامن الازدهار الاقتصادي مع انهيار مدني

 

والواقع أن ثمن هذه المصاعب واضح للغاية. ففي جميع أنحاء المناطق الريفية في أميركا، هناك شوارع رئيسة خالية، ومدارس مغلقة، ومستشفيات مهجورة. وتسجل المقاطعات الريفية عدداً أقل من المواليد ومزيداً من الوفيات. في عام 1999، كانت معدلات الوفيات في المناطق الحضرية والريفية متشابهة. لكن، وبحلول عام 2019، كان البالغون في ذروة سن العمل (25-54 سنة) في المناطق الريفية أكثر عرضة للوفاة جراء أسباب طبيعية مثل الأمراض المزمنة بنسبة 43 في المئة. وبحلول عام 2018، كان سكان الريف الأميركيون أكثر عرضة للموت انتحاراً بنسبة 44 في المئة، وبحلول عام 2020، كانوا أكثر عرضة للوفاة جراء أسباب مرتبطة بالكحول بنسبة 24 في المئة. اليوم، يقل متوسط العمر المتوقع في المناطق الريفية بعامين عن نظيره في المناطق الحضرية، و41 في المئة من المناطق الريفية تشهد انخفاضاً في عدد السكان مع انتقال العمال الشباب المتعلمين إلى المدن بحثاً عن فرص أفضل.

إن هذه التحولات الاقتصادية تظهر بوضوح على الخريطة الانتخابية. خلال معظم فترة الحرب الباردة وحتى أوائل التسعينيات، كان الفارق الحزبي بين المناطق الريفية والحضرية صغيراً نسبياً؛ ففي الانتخابات الرئاسية لعام 1992، على سبيل المثال، مال الناخبون الريفيون إلى الجمهوريين بفارق نقطتين مئويتين فقط عن الناخبين الحضريين. لكن في العقود التالية، اتسع هذا الفارق بشكل كبير. وبحلول عام 2020، فضّل الناخبون الريفيون الجمهوريين بفارق 21 نقطة مئوية عن الناخبين الحضريين، وهي زيادة بمقدار عشرة أضعاف. وأكدت انتخابات التجديد النصفي لعام 2022 هذا الاتجاه، إذ دعم 68 في المئة من الناخبين الحضريين الحزب الديمقراطي، بينما أيد 69 في المئة من الناخبين الريفيين الحزب الجمهوري. وفي الانتخابات الرئاسية لعام 2024، تشير استطلاعات ما بعد التصويت إلى أن ترمب ضاعف هامش فوزه بين الناخبين الريفيين من 15 نقطة مئوية في عام 2020 إلى 30 نقطة مئوية.

في الواقع، إن الانقسام الحزبي الفئوي [المناطقي] يتداخل ويمتزج مع العرق والعمر والتعليم والدين، مما يحوّل الانقسام السياسي إلى صراع ثقافي. لا تزال المناطق الريفية في الغالب موطناً للناخبين المسيحيين البيض الأكبر سناً والأقل تعليماً، وهي فئة ديموغرافية مرتبطة بشدة بالحزب الجمهوري. ويشكل الذكور من الطبقة العاملة الذين لا يحملون شهادات جامعية الآن دعامة أساسية لقاعدة الحزب الجمهوري، التي لا تزال ذات غالبية بيضاء، ولكنها تشمل بشكل متزايد الذكور من أصل لاتيني، الذين صوتوا بمعظمهم لمصلحة ترمب في عام 2024. لقد تأثرت الطبقة العاملة من الذكور بشدة بتراجع وظائف الياقات الزرقاء ذات الأجور الجيدة وانخفاض الرواتب على مدى العقدين الماضيين. وكما أظهر الخبير الاقتصادي نيكولاس إيبرستادت، فإن الذكور في ذروة سن العمل يعانون حالياً من مستويات بطالة مماثلة لتلك التي كانت سائدة في فترة الكساد العظيم، مع معدلات أعلى بين الذكور الأقل تعليماً. وفي الوقت نفسه، يعتمد الديمقراطيون بشكل أساسي على قاعدة دعم حضرية من البيض المتعلمين تعليماً عالياً والأقليات العرقية والنساء والناخبين الشباب والأشخاص العلمانيين.

إن الانقسام الثقافي بين الحزبين يهدد بشكل متزايد الاستقرار الديمقراطي في الولايات المتحدة. فبعد أن شعر بعض الجمهوريين بأن التغيرات الديموغرافية والاقتصادية تعمل ضدهم، طرح بعضهم تدابير صارمة للتصويت بعد انتخابات عام 2020، مشيرين إلى مخاوف بشأن نزاهة الانتخابات. في المقابل، دفع بعض الديمقراطيين، المحبطين مما يعتبرونه نظاماً غير عادل لا يتوافق مع إرادة الغالبية، نحو إصلاحات جذرية، مثل إلغاء المجمع الانتخابي، وتغيير آلية التعطيل التشريعي (فيليباستر) filibuster [إجراءات تعطي أي سيناتور الحق في تعطيل طرح أي مشروع للتصويت ما لم ينل 60 صوتاً من أصل 100 في الكونغرس]، وتوسيع المحكمة العليا. وبدلاً من السعي إلى التسوية، تبنى كل حزب استراتيجيات لتهميش الآخر، مما قوض الوحدة الوطنية والمعايير الديمقراطية.

قد يؤدي فوز ترمب في عام 2024، المدعوم بظهور ائتلاف عمالي متعدد الأعراق، إلى إعادة ترتيب أولويات الحزب. وقد يسعى الجمهوريون الآن إلى زيادة نسبة مشاركة الناخبين، بينما قد يجد الديمقراطيون أنفسهم يدافعون عن المؤسسات المناهضة لحكم الغالبية. والأهم من ذلك هو أن هذا التحول قد يمهد الطريق أمام الجمهوريين لتبني سياسات تهدف إلى مساعدة مجتمعات الطبقة العاملة وتقليص الفجوة بين المناطق الحضرية والريفية، مثل توسيع شبكة الإنترنت العالي السرعة في المناطق الريفية لتمكين العمل عن بُعد، وبناء الطرق والعيادات لتعزيز التجارة والوصول إلى الرعاية الصحية، وتقديم حوافز ضريبية لجذب الشركات، وإنشاء مراكز تدريب وظيفي مصممة خصيصاً للصناعات المحلية. ومع ذلك، يظل الانقسام بين المناطق الحضرية والريفية عقبة قوية أمام الإصلاح، إذ إنه يغذي الاستقطاب السياسي والجمود. ومن المرجح أن هذا الصدع قد يرسم ملامح المجتمع الأميركي لسنوات مقبلة، مما يهدد التماسك الوطني في عالم مليء بالأخطار.

صوت مرتفع وعصا مكسورة

إن المزايا الجغرافية والديموغرافية والسياسية التي تتمتع بها الولايات المتحدة تخلق نقطة ضعف أخرى، وهي الميل إلى متابعة مصالحها العالمية من دون تخصيص موارد كافية لمنع الصراعات. لقد نصح الرئيس ثيودور روزفلت القادة بأن "يتكلموا بهدوء ويحملوا عصاً غليظة"، لكن واشنطن اليوم غالباً ما تفعل العكس، فهي تتحدث بقوة لكنها لا تستعد بشكل كافٍ، فتلجأ إلى أدوات غير صارمة مثل العقوبات أو الضربات الصاروخية عندما تواجه تحدياً. إن هذا النهج الذي يُعرف بـ"الصقر الجبان" يضعف معنويات الحلفاء، ويستفز الخصوم، ويصعّد الصراعات التي كان من الممكن احتواؤها بمشاركة أقوى أو تجنبها بحكم أفضل. والأسوأ من ذلك، بعد التراخي المفرط في وقت السلم، تميل الولايات المتحدة أحياناً إلى المبالغة في رد فعلها خلال الحرب، فتغرق في مستنقعات، مثلما فعلت في أفغانستان والعراق بعد هجمات الحادي عشر من سبتمبر.

وتنبع هذه الميول من نفس الصفات التي تجعل الولايات المتحدة قوية. غالباً ما يتجاهل الأميركيون الشؤون العالمية لأن المحيطات تحمي بلادهم من التهديدات الأجنبية ولأن الاقتصاد الأميركي مكتفٍ ذاتياً إلى حد كبير. فالصادرات لا تمثل سوى 11 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، مقارنة بمتوسط ​​عالمي يبلغ نحو 30 في المئة. ومعظم التجارة اختيارية بالنسبة إلى الولايات المتحدة لأنها الرائدة في العالم في إنتاج السلع الحيوية مثل الغذاء والطاقة والتكنولوجيا. إضافة إلى ذلك، فإن النظام اللامركزي في البلاد يؤدي إلى تنوع في الأولويات، مما يجعل من الصعب تحقيق توافق وطني إلا في حالات وجود تهديد واضح وعاجل يستدعي الوحدة. نتيجة لذلك، تصبح السياسة الخارجية في كثير من الأحيان موضوعاً للنزاع الحزبي، حيث يتم استخدام القضايا لتسجيل نقاط سياسية، مما يؤدي إلى تجاهل التهديدات الحقيقية حتى تصبح مواقف خطيرة.

لكن الأمان والثروة والحريات التي تسمح للولايات المتحدة بتقليص الأولوية للسياسة الخارجية، هي ما يدفعها أيضاً إلى تأكيد مصالحها العالمية. فبسبب قوتها التي لا تضاهى، تشعر الولايات المتحدة بأنها مجبرة على تبني سياسة إزاء جميع القضايا. وهذا الاندفاع يعززه النظام الأميركي اللامركزي (بخاصة الإعلام الحر والكونغرس الصاخب) الذي يمنح صوتاً لمختلف الأطراف، بما في ذلك الجاليات المهاجرة والشركات ومنظمات حقوق الإنسان والبيروقراطية الأمنية الوطنية، للمطالبة باتخاذ إجراءات مختلفة في الخارج. وفي الوقت نفسه، تمارس البلدان الأضعف ضغوطاً على الولايات المتحدة للحصول على الحماية من جيران استبداديين أقوى ينظرون بدورهم إلى الولايات المتحدة، والمثال الذي تقدمه كديمقراطية مزدهرة، باعتبارها تهديداً لحكمهم ومجالات نفوذهم. ورداً على ذلك، تلجأ الأنظمة الاستبدادية مثل الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا إلى تسليح نفسها ضد الولايات المتحدة وتحاول تفكيك تحالفاتها وتقويض ديمقراطيتها. وحتى عندما يرغب الأميركيون في البقاء بعيداً من الصراعات الخارجية، فإن هذه القوى غالباً ما تجتذبهم إليها.

 

إن تركيبة القوة الأميركية تخلق ضغوطاً متعارضة تولد صراعاً بين الرغبة في الانفصال والسعي إلى الانخراط. والنتيجة هي شكل أجوف من أشكال الأممية أدى في بعض الأحيان إلى إخفاقات كارثية في الردع. ففي عشرينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، عارضت الولايات المتحدة التوسع الألماني والياباني، لكنها لم تتخذ خطوات فعلية لتنفيذه. بدلاً من ذلك، فوضت المهمة إلى معاهدات مثل معاهدة كيليو-برايان التي حظرت الحرب، وعصبة الأمم التي رفضت واشنطن الانضمام إليها. كما سحبت الولايات المتحدة قواتها من أوروبا، بينما استمرت في مطالبة الحلفاء بسداد ديونهم، الذين بدورهم حمّلوا ألمانيا هذه الأعباء، مما أدى إلى تفاقم أزمتها المالية وتسريع انزلاقها إلى النازية. وفي الوقت نفسه، تخلت الولايات المتحدة في آسيا عن خططها لتحديث الأسطول البحري وتحصين المنطقة، لكنها فرضت عقوبات متزايدة القسوة على اليابان، مما عزز تصور طوكيو بأن واشنطن معادية وضعيفة في آن واحد، وبالتالي مهد الطريق للهجوم على بيرل هاربور. وقد تكرر نمط مماثل في تسعينيات القرن العشرين والسنوات الأولى من القرن الحالي. ففي حين تضاعف أعضاء حلف شمال الأطلسي تقريباً بعد ضم 12 دولة جديدة، خفّضت الولايات المتحدة وجودها العسكري في أوروبا إلى النصف وحولت تركيز الـ "ناتو" إلى عمليات مكافحة الإرهاب في الشرق الأوسط. وفي عام 2008، اقترحت الولايات المتحدة أن جورجيا وأوكرانيا قد تنضمان في نهاية المطاف إلى الحلف، لكنها لم تقدم أي مسار ملموس للعضوية، فاستفزت روسيا من دون ردعها بشكل فعال.

في حالات أخرى، دفعت الأممية الجوفاء الولايات المتحدة إلى إهمال الردع بالكامل. وفي عدة مناسبات، أقنعت نفسها وخصومها بأنها لا تهتم كثيراً بمنطقة ما، ثم ردت بشكل مكثف على العدوان هناك، مع عواقب كارثية. في عام 1949، على سبيل المثال، استبعدت الولايات المتحدة شبه الجزيرة الكورية من محيطها الدفاعي وسحبت قواتها من هناك. ومع ذلك، عندما غزت كوريا الشمالية كوريا الجنوبية، تدخلت الولايات المتحدة بقوة، وتقدمت إلى الحدود الصينية فأثارت هجوماً مضاداً صينياً شرساً. وأدت هذا الصدمة إلى تفاقم مخاوف الحرب الباردة من توسع شيوعي وترسيخ نظرية الدومينو، أي الفكرة القائلة بأنه إذا سقطت دولة واحدة في أيدي الشيوعية، فسوف يسقط جيرانها أيضاً. وهذا المفهوم بدوره دفع واشنطن إلى التورط الكارثي في ​​فيتنام. وعلى نحو مماثل، في عام 1990، لم تبذل الولايات المتحدة أي جهد جاد لردع الغزو العراقي للكويت، ولكنها حملت السلاح بعد ذلك لصد هجوم العراق. وكانت النتيجة هي اندلاع حرب الخليج والوجود العسكري الأميركي المطول في الشرق الأوسط، مما أدى بدوره إلى حشد الجماعات المتطرفة مثل تنظيم "القاعدة"، وهي نتيجة بلغت ذروتها في هجمات الحادي عشر من سبتمبر (أيلول) والغزو الأميركي لأفغانستان والعراق.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

إن العالم يواجه الآن تهديدات مترابطة: فالصين تنفذ أكبر عملية حشد عسكري في زمن السلم منذ ألمانيا النازية، فهي تنتج السفن الحربية والطائرات المقاتلة والصواريخ بسرعة تفوق سرعة الولايات المتحدة بخمس إلى ست مرات. وتخوض روسيا أكبر حرب في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. بطريقة موازية، تتبادل إيران الضربات مع إسرائيل، وترسل كوريا الشمالية آلاف الجنود للقتال مع روسيا في أوكرانيا بينما تستعد للحرب مع كوريا الجنوبية وتطور صواريخ نووية يمكنها الوصول إلى البر الرئيسي للولايات المتحدة. وعلى رغم معاملة هذه الأنظمة كأعداء، فإن الولايات المتحدة لا تنفق إلا 2.7 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي على الدفاع، وهو مستوى مماثل لما كان عليه في تسعينيات ما بعد الحرب الباردة وعقد الثلاثينيات الانعزالي، وأقل بكثير من مستويات الإنفاق التي تراوحت بين ستة وعشرة في المئة خلال الحرب الباردة. وتؤدي أزمة التجنيد العسكري إلى تفاقم العجز، إذ إن 77 في المئة من الشباب الأميركيين غير مؤهلين للخدمة العسكرية بسبب السمنة أو تعاطي المخدرات أو المشكلات الصحية، ولا يعرب سوى 9 في المئة منهم عن اهتمامهم بالالتحاق بالجيش. في حالة نشوب صراع محتمل مع الصين، فإن القوات الأميركية سوف تستنفد مخزوناتها من الذخائر في غضون أسابيع، وسوف يستغرق الأمر سنوات حتى تتمكن القاعدة الصناعية الدفاعية الأميركية من إنتاج بدائل. والواقع أن ارتفاع تكاليف الأفراد العسكريين، إلى جانب مجموعة لا حصر لها من المهام في زمن السلم، يرهق كاهل القوات الأميركية.

من خلال الجمع بين العداء الدبلوماسي وعدم الاستعداد العسكري، ترسل الولايات المتحدة مرة أخرى إشارة مختلطة إلى العالم، إشارة مرور صفراء. وبطبيعة الحال، غالباً ما تدفع الإشارات الصفراء السائقين العدوانيين إلى زيادة السرعة. قد لا يبدو الغموض الأميركي مهماً في الوقت الحاضر، لكنه سيصبح كذلك عندما تقرر الصين، أو إيران، أو كوريا الشمالية، أو روسيا أن الوقت قد حان لانتزاع ما تطالب به منذ فترة طويلة بالقوة.

أخطار وهم التراجع

منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، حث الخبراء صناع السياسات على الاستعداد لعالم متعدد الأقطاب، متوقعين أن تواجه الولايات المتحدة تحديات أو تتفوق عليها قوى صاعدة. لكن الواقع أخذ مساراً مختلفاً. تبقى الولايات المتحدة مهيمنة اقتصادياً بينما تنحدر القوى المنافسة، سواء من الأعداء أو الحلفاء، نحو تراجع طويل الأجل. يؤدي انخفاض أعداد السكان والركود في الإنتاجية إلى تقويض نفوذ القوى الأوراسية التي كانت مهيمنة في الماضي. في الوقت نفسه، تعاني دول ذات كثافة سكانية عالية مثل الهند ونيجيريا من صعوبات في الارتقاء ضمن سلاسل القيمة العالمية بسبب البنية التحتية المتردية والفساد وأنظمة التعليم الضعيفة. بطريقة موازية، إن الأتمتة وتسليع التصنيع [تحول التصنيع إلى سلعة] يقطعان مسارات النمو التقليدية [تصبح السلع والخدمات الصناعية موحدة وغير قابلة للتمييز، مع التركيز في المقام الأول على السعر بدلاً من الميزات الفريدة أو الابتكار أو الجودة]، مما يترك كثيراً من البلدان النامية غارقة في الديون وبطالة الشباب وعدم الاستقرار السياسي. بدلاً من تحفيز صعود قوى أخرى، تُرسخ الاتجاهات الحالية عالماً أحادي القطب تكون فيه الولايات المتحدة هي القوة العظمى الوحيدة، محاطة بقوى عظمى متراجعة ودول متوسطة القوة ودول نامية وأخرى فاشلة.

على المدى الطويل، يمكن لعالم خالٍ من القوى الصاعدة أن يعزز الاستقرار من خلال تقليل خطر حروب الهيمنة. فعلى مدار السنوات الـ 250 الماضية، تسببت الثورة الصناعية في مضاعفة حجم الاقتصادات وأعداد السكان والجيوش في غضون جيل واحد، مما أشعل منافسة شديدة على الموارد والأراضي. لكن تلك الحقبة بدأت في الانحسار. فأعداد السكان المتناقصة والاقتصادات الراكدة وتركيز الثروة في الولايات المتحدة تجعل صعود قوى عظمى جديدة أمراً غير محتمل. ويصف بعض المحللين الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا بأنها "محور"، لكن من غير المرجح أن يشهد العالم تكراراً لما حدث في عام 1942، عندما استولت ألمانيا واليابان وإيطاليا على نصف القدرة الإنتاجية العالمية. تفتقر التحديات الحالية إلى القوة اللازمة للسيطرة على أوراسيا بسرعة، وعندما تتراجع إحدى القوى العظمى، فإنها تفقد القدرة على التعافي بسبب نقص النمو السكاني، كما حدث مع ألمانيا بين الحربين العالميتين والاتحاد السوفياتي بعد الحرب العالمية الثانية. من الصعب تصور أن روسيا، على سبيل المثال، ستنهض من أزمة أوكرانيا لتغزو مساحات شاسعة من أوروبا. ومع تراجع القوى الصاعدة، قد يصبح العالم أكثر استقراراً.

لكن في الوقت الحالي، تلوح عدة تهديدات في الأفق. فقد تلجأ القوى المتراجعة إلى حروب يائسة لاستعادة ما تعتبره "أراضي مفقودة" وتجنب الانزلاق الدائم إلى مرتبة الدرجة الثانية. لقد فعلت روسيا هذا بالفعل في أوكرانيا، وقد تتخذ الصين إجراءات مماثلة في تايوان أو ضد الفيليبين في بحر الصين الجنوبي. وعلى رغم أن هذه الصراعات قد لا تضاهي حجم الحرب العالمية الثانية، إلا أنها قد تكون مروعة، فتنطوي على تهديدات نووية وهجمات على البنية التحتية الحيوية.

تواجه الصين وكوريا الشمالية وروسيا تراجعاً اقتصادياً وديموغرافياً، بيد أن أهدافها المحتملة، مثل كوريا الجنوبية وتايوان ودول البلطيق، تواجه أيضاً المشكلات نفسها، مما يضمن أن توازنات القوة العسكرية في أوراسيا ستظل موضع تنافس شديد. وحتى من دون إشعال حروب كبيرة، قد تتحول الصين وروسيا تدريجاً إلى "كوريتين شماليتين" ضخمتين [قد تتحول الصين وروسيا تدريجاً إلى نسختين عملاقتين عن كوريا الشمالية]، تعتمدان بشكل متزايد على الشمولية والابتزاز العسكري لتقويض نظام دولي لم يعد بإمكانهما أن تأملا في الهيمنة عليه.

في بعض الأحيان، دفعت الأممية الجوفاء الولايات المتحدة إلى إهمال الردع

 

وهناك تهديد آخر يتمثل في انهيار الدول على نطاق واسع، لا سيما في البلدان المثقلة بالديون التي تشهد نمواً سكانياً سريعاً. على سبيل المثال، من المتوقع أن يزيد عدد سكان منطقة أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى مليار نسمة بحلول عام 2050، ومع ذلك فإن معظم اقتصادات هذه المنطقة تعاني بالفعل من أزمات مالية. ولم يعد التصنيع يوفر فرص عمل كثيرة، وتقوم الحكومات بخفض الإنفاق الاجتماعي لتسديد فوائد القروض الأجنبية. وفقاً للأمم المتحدة، يعيش نحو 3.3 مليار شخص في بلدان تكون فيها مدفوعات الفائدة أكثر من الاستثمارات في التعليم أو الرعاية الصحية. ويؤدي ركود الاقتصادات الكبرى إلى تفاقم المشكلة. فالصين المتباطئة اقتصادياً أوقفت على سبيل المثال معظم قروضها للدول الأخرى، وقللت وارداتها من الدول الفقيرة وأغرقت أسواق تلك الدول بالصادرات المدعومة، مما وجه ضربة ثلاثية قاسية لاقتصادات تلك البلدان.

واستطراداً، فإن دوامة انهيار الدول قد تؤدي إلى تضخيم تهديد ثالث: الصعود المستمر للنزعة المعادية لليبرالية في البلدان الديمقراطية. فكثير من الديمقراطيات تعاني بالفعل من التراجع الديموغرافي، والنمو الاقتصادي البطيء، والديون المرتفعة، وصعود الأحزاب المتطرفة. ومن الممكن أن يسهم تدفق اللاجئين من الدول الفاشلة إلى زيادة قوة هذه الحركات المناهضة للديمقراطية. فعلى سبيل المثال، بعدما أرسلت الحرب الأهلية السورية أكثر من مليون لاجئ إلى أوروبا، حققت الأحزاب الاستبدادية مكاسب كبيرة في جميع أنحاء القارة. لقد ازدهرت الديمقراطية الليبرالية في فترات التوسع الاقتصادي، والنمو السكاني، والتماسك الاجتماعي، ولكن من غير المؤكد ما إذا كانت قادرة على الصمود في عصر الركود والهجرة الجماعية.

إذاً، يتعين على الولايات المتحدة احتواء هذه التهديدات فيما تواصل في الوقت نفسه الاستفادة من ميزاتها الجغرافية والديموغرافية والمؤسسية. وتتمثل الخطوة الأولى الحاسمة في رفض التصور الخاطئ بأن البلاد محكوم عليها بالتراجع. قبل ما يقرب من أربعة عقود من الزمان، زعم عالم السياسة صموئيل هنتنغتون وعبر صفحات "فورين أفيرز" أن الأميركيين يجب أن يخشوا التراجع لتجنبه. لكن الخوف يخاطر بالتحول إلى نبوءة تحقق نفسها بنفسها. فالشعور المبالغ فيه بالانهيار بدأ بالفعل في زعزعة استقرار الديمقراطية، إذ فقد بعض الأميركيين الثقة في النظام ولجأوا إلى حلول مناهضة لليبرالية. البعض يدعم القومية البيضاء، مدفوعاً بمخاوف من التحولات الديموغرافية ونظريات المؤامرة حول "الاستبدال الكبير" التي تزعم زوراً أن النخب السياسية تشجع الهجرة الجماعية لاستبدال الأميركيين البيض بالأقليات. آخرون يثيرون استياء الأقليات [يؤججون المظالم بين الأقليات] بهدف تعبئة الناخبين على أسس عرقية. وقد أدت هذه الاستراتيجيات الخبيثة إلى سياسات ضارة، مثل تقليص ميزانيات الشرطة أو الترحيل الجماعي، مما يقوض الثقة في الديمقراطية وربما يمكّن الديماغوجيين من تفكيك ضوابط الجمهورية وتوازناتها.

إذا خشيت الولايات المتحدة التراجع، فقد تميل إلى الحمائية وكراهية الأجانب، مما يجعلها تعزل نفسها بدلاً من المنافسة دولياً، وهو ما سيقوض نقاط قوتها الأساسية. لقد ازدهرت البلاد بفضل التدفق الحر للسلع والأشخاص والأفكار، فاستوعبت المواهب الأجنبية ورأس المال الخارجي مثلما تمتص الإسفنجة الماء، وبنت نظاماً تجارياً عالمياً يجذب الحلفاء. ولكن إذا تبنت الولايات المتحدة سردية زائفة عن التراجع، فإنها تخاطر بأن تصبح قوة عظمى مارقة، ووحشاً تجارياً عازماً على انتزاع كل ذرة من الثروة والقوة من بقية العالم. قد تحل التعريفات الجمركية والعقوبات والتهديدات العسكرية محل الدبلوماسية والتجارة، وقد تتحول التحالفات إلى أشكال من الحماية، وقد تُفرض قيود شديدة على الهجرة. وقد يؤدي هذا التحول القومي إلى تحقيق مكاسب قصيرة الأجل للأميركيين، ولكنه سيضر بهم في النهاية من خلال جعل العالم الذي يعيشون فيه أكثر فقراً وأقل أماناً. ومن الممكن أن تنهار شبكات التجارة والأمن، مما يثير صراعات على الموارد ويقضي على أي إمكانية للتعاون في مجال عدم انتشار الأسلحة النووية وتغير المناخ والأوبئة وغيرها من التحديات العالمية، ويؤدي بالتالي إلى تسريع الانزلاق إلى الفوضى.

 

إن الخطر الأكثر إلحاحاً هو أن تقنع الولايات المتحدة نفسها، وخصومها، بأنها تفتقر إلى الإرادة أو القدرة على مواجهة العدوان الواسع النطاق. ولتجنب تأكيد مصالحها من دون اتخاذ إجراءات لدعمها (مما يؤدي إلى استفزاز المعتدين من دون ردعهم) أو الانسحاب المبكر من المناطق (مما يفرض إعادة دخول مستعجلة ومكلفة)، يجب على الولايات المتحدة إعادة تقييم مصالحها الأساسية بعناية وتحديد المناطق التي يكون فيها احتواء العدوان ضرورياً. تعتقد مؤسسة الأمن القومي الأميركية أن هذا يعني منع الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا من تدمير جيرانها. هذا الاعتقاد بأن الطغاة الرجعيين الأقوياء يجب احتواؤهم واضح بقدر ما هو درس مستفاد بصعوبة [هذه القناعة بأن الطغاة الرجعيين الأقوياء يجب احتواؤهم واضحة وبديهية لكن تعلمها كان أمراً صعباً]. بعد الحرب العالمية الأولى، انسحبت الولايات المتحدة من أوراسيا، وهو القرار الذي أسهم في اندلاع الحرب العالمية الثانية. في المقابل، بعد الحرب العالمية الثانية، حافظت الولايات المتحدة على تحالفات في زمن السلم في أوراسيا، مما أدى في النهاية إلى هزيمة الشيوعية السوفياتية من دون التسبب في اندلاع حرب عالمية ثالثة، ووفر أساساً أمنياً لازدهار غير مسبوق في الرخاء العالمي والديمقراطية. إن مفتاح النجاح، سواء آنذاك أو الآن، هو المزج بين القوة والدبلوماسية: بناء وجود عسكري موثوق لردع العدوان مع تقديم مسار للقوى الرجعية نحو إعادة الاندماج مع الغرب إذا تخلت عن الفتوحات العسكرية.

خلال الحرب الباردة، احتوت الولايات المتحدة الاتحاد السوفياتي حتى أجبرته نقاط ضعفه الداخلية على التراجع. وفي الواقع، يمكن لاستراتيجية مشابهة أن تنجح اليوم. فالاقتصاد الصيني يتباطأ، وسكان الصين يتناقصون. وروسيا غارقة في أوكرانيا، وإيران تعرضت لضربات شديدة من إسرائيل. والرئيس الصيني شي جينبينغ، والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، والمرشد الأعلى الإيراني علي خامنئي، هم زعماء دول متقدمون في السن ومن المرجح أن تنتهي فترات حكمهم في غضون العقد أو العقدين المقبلين. ولا تحتاج الولايات المتحدة إلى احتواء أنظمتهم إلى أجل غير مسمى، بل ربما لفترة كافية حتى تستكمل الديناميكيات الجارية مسارَها. ومع تراجع قوتهم، قد تبدو أحلامهم الإمبريالية غير قابلة للتحقيق بشكل متزايد، مما قد يدفع خلفاءهم إلى اتخاذ مسار جديد. في غضون ذلك، ينبغي على واشنطن أن تستنزف قوتهم، فتستقبل ألمع عقولهم عن طريق الهجرة وتعزيز الروابط مع مجتمعاتهم من خلال تأشيرات الطلاب والتبادلات الدبلوماسية والتجارة غير الاستراتيجية [التجارة التي لا ترتبط بشكل مباشر بالأمن القومي أو المصالح الجيوسياسية].

ومع ذلك، من المستبعد أن تتحول الصين وإيران وكوريا الشمالية وروسيا إلى قوى معتدلة وسلسة بين عشية وضحاها. قد لا يستمر صراع الولايات مع هذه الدول إلى الأبد، ولكن يجب على واشنطن الاستعداد لمواجهة قد تستغرق سنوات. وفي هذه المنافسة، ستكون الوحدة الداخلية حاسمة. وسيكون من الضروري الاستثمار في الوظائف والبنية التحتية والإسكان والتعليم في المناطق المهملة، وإحياء روح الواجب المدني، ليس لرأب الصدوع الوطنية فحسب، بل أيضاً لتحصين الولايات المتحدة ضد التهديدات الخارجية. إن دعوة الأميركيين لمواجهة العدوان الاستبدادي لا تعني التسرع في الدخول في حرب؛ بل تعني خلق مستقبل يُضمن فيه السلام من خلال استثمارات مستدامة في القوة العسكرية والانفتاح الدبلوماسي. وهذا يعني حشد الأمة للاعتراف بقوتها الهائلة وقبول المسؤولية لاستخدام هذه القوة، ليس كرد فعل متهور، بل قبل هبوب العاصفة، بحكمة وتبصر.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 7 يناير 2025

مايكل بيكلي، أستاذ مساعد في العلوم السياسية بجامعة تافتس، وزميل غير مقيم في "معهد المشروع الأميركي" ومدير برنامج آسيا في "معهد السياسة الخارجية" وباحث عام في "مركز موينيهان" في "كلية مدينة نيويورك".