يشهد العالم العربي تراجعاً ملحوظاً في معدلات الخصوبة ومن ثم الإنجاب خلال الآونة الأخيرة (اندبندنت عربية)
في ما يبدو أنه توجه عام لدى الأسر العربية، وبعيداً من الحملات التوعوية والتوجيهات الحكومية، يشهد العالم العربي تراجعاً ملحوظاً في معدلات الخصوبة ومن ثم الإنجاب خلال الآونة الأخيرة. فبعدما كانت الدول تسجل معدلات عالية في المواليد أصبحت تعاني انخفاضاً أو على الأقل ثباتاً بالأرقام.
لكن الإجماع العربي، غير المتفق عليه، على حالة الترشيد الإنجابي أكدته عوامل متعددة من بينها ما هو ثقافي واجتماعي، حيث العادات والتقاليد التي جُبلت عليها بعض المجتمعات العربية، على نحو ما يجري في المجتمع التونسي الذي اعتاد تحديد النسل منذ سبعينيات القرن الماضي، أو أنماط حياة غالبيتها غير صحية جعلت العزوف عن الزواج خياراً مفضلاً تجلى في دول الخليج التي تشهد انخفاضاً في الخصوبة.
وفي وقت تعاني غالبية الأسر العربية انخفاض الدخول، ومن ثم العجز عن الوفاء باحتياجات الحياة، يأتي العامل الاقتصادي سبباً أساسياً في ترشيد الإنجاب، فمصر والجزائر والأردن ولبنان والمغرب والعراق يجمعها أن هناك قلقاً لدى مواطنيها من الإنجاب خوفاً من انعدام الأمن الاجتماعي، فضلاً عن غياب الاستقرار السياسي الذي يتربص بعدد من البلدان العربية.
وعلى عكس التيار السائد، تغرد ليبيا المنقسمة على ذاتها بين الشرق والغرب منفردة، إذ تشجع حكومتا البلد مواطنيها على الزواج والإنجاب بمنح مادية، خصوصاً أن نسبة السكان قليلة مقارنة بالمساحة الجغرافية للدولة. "اندبندنت عربية" ترصد في ملف مشترك حالة الإنجاب في العالم العربي أين وصلت، ولماذا انخفضت، وأي مستقبل ينتظر تلك البلدان اجتماعياً؟ وما دلالة انخفاض معدلات الخصوبة؟
مصر... المواليد تتراجع
البداية من مصر التي يبلغ عدد سكانها أكثر من 106.8 ملايين نسمة، محتلة المرتبة الأولى عربياً والثالثة أفريقياً، والـ 14 عالمياً، إذ بعدما ظل العقل الجمعي المصري لعقود يرى في كثرة الإنجاب "عزوة"، أصبح مؤشر الزيادة السكانية يعكس تغيراً في نظرة المصريين لعدد أفراد الأسرة، فعلى رغم استمرار زيادة السكان فإنها خلال الأعوام الأخيرة سجلت تراجعاً في معدلها ترجعه الحكومة المصرية لنجاح جهودها، ويضيف الخبراء أسباباً أخرى اقتصادية واجتماعية.
وفي أبريل (نيسان) الماضي أعلنت وزارة التخطيط المصرية أن معدلات النمو السكاني انخفضت 46 في المئة بين عامي 2017 و2023، بعدما بلغ عدد المواليد خلال العام الماضي نحو 2.044 مليون، انخفاضاً من 2.6 مليون مولود عام 2016.
واستغرقت مصر 250 يوماً لتزيد المليون نسمة الأخير، وعلى رغم أن معظم الدول قد تحتاج إلى أعوام ليزيد عدد سكانها بمقدار مليون شخص، فإن مصر كانت تستغرق سابقاً وقتاً أقل من ذلك فوصلت إلى 104 ملايين خلال 221 يوماً و105 ملايين خلال 245 يوماً، إذ تسجل البلاد مولوداً جديداً كل 15.4 ثانية، في مقابل مولود كل 13 ثانية عام 2021.
نائب رئيس الوزراء المصري ووزير الصحة خالد عبد الغفار أعلن في منتصف سبتمبر (أيلول) انخفاض معدل الإنجاب ليبلغ 2.5 طفل لكل سيدة، وذلك للمرة الأولى في تاريخ مصر، مسجلاً تراجعاً ملحوظاً مقارنة بـ 3.5 طفل لكل سيدة في عام 2014، مؤكداً أن الحكومة تعمل على الوصول إلى المعدلات العالمية للإنجاب التي تصل إلى نسبة 2.1 لكل طفل، وذلك خلال كلمته في افتتاح مبادرة "بداية جديدة" للتنمية البشرية التي أطلقتها الحكومة المصرية.
جهود السيطرة على الزيادة السكانية بدأتها الحكومة المصرية خلال الستينيات من القرن الماضي، ونجحت برامج "تنظيم الأسرة" في خفض معدل خصوبة المرأة المصرية من 5.6 طفل لكل امرأة عام 1976 إلى ثلاثة أطفال عام 2008، لكنها ارتفعت مجدداً إلى 3.5 عام 2014 بسبب إهمال الخدمات الإنجابية في أعقاب عدم الاستقرار الذي ترافق مع "ثورة 2011".
لكن تلك الجهود تجددت بإطلاق حملة "2 كفاية" في يناير (كانون الثاني) 2019، وهي حملة إعلامية وتوعوية تدعو إلى الاكتفاء بطفلين، إلى جانب مشاريع أخرى لرفع معدلات التنمية الاقتصادية في المحافظات الأكثر ارتفاعاً في معدلات النمو السكاني وتدنى مستويات التشغيل والتعليم.
كذلك أطلقت الحكومة المصرية في فبراير (شباط) 2022 المشروع القومي لتنمية الأسرة المصرية والذي يتضمن رفع وعي المواطن وتصحيح المفاهيم المغلوطة المرتبطة بالقضية السكانية، وتقديم حوافز إيجابية للالتزام بإنجاب طفلين فقط.
وفي عام 2020 خصصت الحكومة المصرية 1.2 مليار جنيه لرفع وعي الأسر المستهدفة في برنامج "تكافل" المخصص للفئات الأكثر فقراً، فضلاً عن تطوير عيادات تنظيم الأسرة.
وأشارت حلقة نقاشية نظمها صندوق الأمم المتحدة للسكان في مصر عام 2021 إلى الحاجة لاستثمار 11.1 مليار جنيه لتقليل الفجوة في برامج تنظيم الأسرة، وتجنب 1.4 مليون حالة حمل غير مقصودة حتى عام 2030.
الضغوط الاقتصادية التي يواجهها المصريون دفعتهم إلى اعتبار الإنجاب عبئاً كبيراً وحالات الطلاق ارتفعت بصورة ملحوظة خلال الأعوام الـ 10 الماضية
وتعتبر الحكومة المصرية الزيادة السكانية من أكبر معوقات التنمية، إذ وصف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي في أكتوبر (تشرين الأول) 2023 معدل الزيادة السكانية الذي تمضي به مصر بأنه بمثابة "انتحار"، بعدما زاد عدد السكان 25 مليوناً منذ عام 2011، بخاصة في ظل ندرة المياه.
وتربط الحكومة دائماً بين معدلات النمو السكاني ونسب التنمية، إذ أكدت الحكومة في خطتها لعام 2023 - 2024 المقدمة لمجلس النواب أن النمو السكاني المرتفع "يلتهم ثمار التنمية ولا يستشعر معه المواطن بالتحسن الحقيقي في مستوى معيشته"، كما ذكر تقرير لمركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار التابع لمجلس الوزراء المصري أنه إذا انخفض معدل الخصوبة إلى 2.1 مولود لكل امرأة فسينعكس ذلك على نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي عام 2030 ليصل إلى نحو 60 ألف جنيه، مع تسجيل 117.3 مليون فرد، أما لو استمر بالمعدلات الحالية فسيكون نصيب الفرد 56.1 ألف جنيه، ووصول عدد السكان إلى 120 مليون نسمة عام 2030، ولذلك اتجهت الحكومة إلى إقرار حوافز اقتصادية لتشجيع المواطن على الاكتفاء بطفلين، إذ أقرت في مارس (آذار) 2023 برنامج للحوافز المالية يقوم على ادخار 1000 جنيه (20.5 دولار) سنوياً لكل سيدة متزوجة تشترك في برنامج الحوافز تنجب طفلين بحد أقصى، وتتسلم السيدة إجمال المبلغ عندما تبلغ 45 سنة، بينما يسقط حقها في المطالبة بذلك المبلغ إذا أنجبت الطفل الثالث.
وطالب عدد من أعضاء مجلس النواب في أكثر من مناسبة بتنفيذ خطط أخرى للحد من الزيادة السكانية، مثل تكثيف حملات التوعية الإعلامية وتقديم مزيد من الحوافز المالية للأسر التي لا يتخطى عددها أربعة أفراد.
وإلى جانب جهود الدولة في مجال الصحة الإنجابية فقد ربط خبراء تراجع أعداد المواليد بالأزمة الاقتصادية التي شهدتها مصر خلال الأعوام الأخيرة، إذ أشار خبير السكان ودراسات الهجرة أيمن زهري في تصريحات صحافية إلى خفض معدلات الزواج السنوية، فبعدما اقتربت من مليون زيجة سنوياً تراجعت بنحو 10 في المئة مما أدى إلى خفض أعداد المواليد بالنسبة نفسها، موضحاً أن الضغوط الاقتصادية التي يواجهها المواطنون دفعتهم إلى اعتبار الإنجاب عبئاً كبيراً، مما دفع بعضهم إلى تأجيل الخطوة، كما ارتفعت حالات الطلاق بصورة ملحوظة خلال الأعوام الـ 10 الماضية فبلغت نحو 238 ألف حالة العام الماضي في مقابل 180.3 ألف حالة عام 2014.
لبنان... أزمة ديموغرافية تلوح في الأفق
أما لبنان فيشهد انخفاضاً ملحوظاً في معدلات الخصوبة، إذ تسير الولادات في منحى تنازلي منذ عام 2011، ومع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية خلال الأعوام الأربع الماضية، بما في ذلك تداعيات النزوح السوري والانهيار الاقتصادي وجائحة كورونا، بات تأجيل الزواج وتقليص حجم الأسر من الظواهر الشائعة، وهذه التحديات المتراكمة جعلت التأثيرات الديموغرافية أكثر وضوحاً مما يثير تساؤلات حول مستقبل التركيبة السكانية في لبنان، إذا استمر هذا التراجع في ظل غياب الاستقرار والحلول الفعالة.
ويقول منسق مختبر الديموغرافيا في مركز الأبحاث بمعهد العلوم الاجتماعية الدكتور شوقي عطية في حديثه إلى "اندبندنت عربية"، إن "مسألة الخصوبة تتعدى البعد البيولوجي المرتبط بالقدرة على الإنجاب لتشمل أيضاً أبعاداً ثقافية واقتصادية، في حين أن الأوضاع الاقتصادية المتدهورة في بعض البلدان مثل نيجيريا تترافق بارتفاع الخصوبة، ويختلف الأمر في لبنان إذ يؤدي الوعي المتزايد إلى تأجيل الزواج أو تقليص عدد الأطفال المقرر إنجابهم".
وفي سياق الحديث عن الفروق بين الريف والمدينة، أشار عطية إلى أن "التحولات الاقتصادية أدت إلى تراجع الاعتماد على الزراعة مما قلل الحاجة إلى إنجاب أعداد كبيرة من الأطفال، وعلى رغم استمرار بعض العوامل الثقافية في بعض المناطق الريفية التي تعزز فكرة الإنجاب كعزوة، فإن هذه العوامل أصبحت أقل تأثيراً مما كانت عليه سابقاً".
وأوضح عطية أن "التراجع في الخصوبة يعود لعوامل عدة أبرزها الأزمة الاقتصادية والوضع الاجتماعي، وفي ظل غياب دور الدولة واستمرار حال عدم الاستقرار فإن تأجيل الزواج والإنجاب أصبح أمراً شائعاً"، مشيراً إلى أن "معدلات الخصوبة في لبنان تتراوح ما بين 1.6 و1.7، وهي من بين أدنى المعدلات في العالم العربي، مما يعني أن عدد السكان قد يشهد تناقصاً ملحوظاً في المستقبل إذا استمر الوضع على حاله".
وإضافة إلى ذلك تناول عطية حجم الأسرة في لبنان مشيراً إلى أن "متوسط حجم الأسرة عام 2023 كان نحو 3.8 أفراد، وهو رقم قريب من النماذج الغربية مع انخفاض واضح في عدد الولادات"، مؤكداً "أهمية دور الدولة في تبني سياسات سكانية للحفاظ على استقرار المجتمع، وإلا فقد يصبح لبنان مجتمعاً هرمياً يشبه اليابان وألمانيا، إذ يعتمد كبار السن على صناديق التقاعد التي قد لا تكون متاحة في لبنان".
وترى الباحثة في الأنثروبولوجيا والإعلام الدكتورة ليلى شمس الدين في حديث لـ "اندبندنت عربية" أن "ميول الأسر نحو الإنجاب تتشكل من خلال مجموعة من العوامل، بما في ذلك المعايير المجتمعية والظروف الاقتصادية والاعتبارات الثقافية والمعتقدات الشخصية والدين وسمات الشريك والمستويات التعليمية، وعدم اليقين الاقتصادي مثل البطالة أو فرص العمل والضغوط المرتبطة بالعمل وتأخير الزواج وظروف الإسكان الصعبة والتحديات التي يواجهها الزوجان". وإضافة إلى تلك العوامل فهناك مؤثرات أخرى غير تقليدية أخرى قد تؤثر في سلوك الخصوبة هو الإنفاق الصحي للفرد في الدولة.
بات تأجيل الزواج وتقليص حجم الأسر من الظواهر الشائعة في لبنان خصوصاً مع تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية خلال الأعوام الأربعة الماضية
وتشير شمس الدين إلى أن "دراسة أجريت في السويد أبرزت أن العمر والمهنة والمنطقة السكنية والحال الاجتماعية تؤثر في المواقف تجاه الخصوبة والأبوة والأمومة، ويلعب العمر دوراً محورياً في تشكيل هذا الميل، إذ إن الرضا داخل الحياة الزوجية ونوعية العلاقة الزوجية هي عوامل مؤثرة حاسمة على تطلعات الخصوبة، وبالتالي فإن اتخاذ القرارات في شأن الإنجاب يتأثر بعوامل متعددة الأوجه، وتشمل هذه الجوانب الشخصية مثل سن الزواج والتفاؤل ونوعية الحياة والعوامل المتعلقة بالأسرة مثل الرضا الزوجي والجوانب الاجتماعية مثل الدعم الاجتماعي".
الجزائر... سلوكيات ومشكلات
وعلى طريق تراجع معدلات الخصوبة والإنجاب تأتي الجزائر التي شهدت تحولات ديموغرافية كبيرة أثارت نقاشات حول مستقبل التركيبة السكانية في البلاد، إذ تشير الإحصاءات الرسمية إلى أن معدل الخصوبة في الجزائر والذي كان يتجاوز ستة أطفال لكل امرأة في ستينيات القرن الماضي، انخفض إلى نحو 2.4 طفل لكل امرأة خلال الأعوام الأخيرة.
ويمكن حصر عوامل عدة تكمن وراء هذا التراجع ومنها التحولات الاجتماعية والاقتصادية وزيادة وعي المرأة الجزائرية بأهمية التعليم والعمل، إضافة إلى انتشار وسائل تنظيم الأسرة وتغير النظرة التقليدية للزواج والإنجاب.
من جهة أخرى أدى التراجع في معدلات الخصوبة إلى مخاوف من التأثيرات الاقتصادية والاجتماعية على المدى البعيد، إذ يرتبط انخفاض عدد المواليد بانخفاض نسبة الشباب في المجتمع مما قد يؤثر في سوق العمل ونظام التقاعد في المستقبل، وهذه التحديات دفعت الحكومة الجزائرية إلى التفكير في سياسات تحفيزية لدعم الأسرة وتشجيع الإنجاب، مثل تقديم دعم مالي للعائلات الكبيرة وتوفير برامج صحية متعلقة بالخصوبة.
وبحسب إحصاءات وزارة الصحة الجزائرية فإن ربع السكان الجزائريين تتراوح أعمارهم ما بين 10 و24 عاماً، أي ما يمثل 25 في المئة من مجموع السكان، مع العلم أن 62 في المئة منهم تتراوح أعمارهم ما بين 10 و19 سنة، 49 في المئة منهم بنات.
ومن أجل تقديم الخدمات الصحية اللازمة ووسائل التنظيم العائلي مجاناً فقد خصصت الوزارة أكثر من 1400 عيادة متعددة الخدمات و1372 قاعة علاج و292 مركز للتنظيم العائلي، إذ ارتفع استعمال وسائل تنظيم الحمل بين الأزواج في سن الإنجاب من ثمانية في المئة في أواخر الستينيات إلى 53 في المئة خلال الأعوام الأخيرة، فيما تلجأ 44 في المئة من النساء إلى استعمال وسائل حديثة لمنع الحمل.
وتترجم الأرقام التي وردت في تقرير رسمي أصدره الديوان الوطني للإحصاء (حكومي) في يوليو (تموز) 2024، التراجع في معدلات الخصوبة والإنجاب لدى الجزائريين، إذ بلغ العدد الإجمالي للسكان 46.7 مليون في نهاية عام 2023، وفي مقابل تسجيل ارتفاع متوسط العمر جرى الكشف عن تراجع عدد الولادات بواقع 900 ألف مولود فقط عام 2023.
وجاء في التقرير ذاته أن عدد السكان المقيمين في الجزائر من دون احتساب المسجلين في القنصليات خارج البلد، بات يقدر بـ 46.7 مليون نسمة (بينهم 50.6 في المئة ذكور)، بعدما كان عدد الجزائريين في حدود 45.6 مليون قبل نحو 13 شهراً.
وزاد عدد سكان الجزائر عام 2023 بمقدار 703 آلاف فرد بمعدل نمو طبيعي 1.52 في المئة، بينما تراجع هذا المعدل بـ 0.41 في المئة مقارنة بعام 2019 الذي شهد ارتفاع عدد الوفيات أثناء أزمة كورونا.
وتوقع التقرير أن يصل عدد سكان الجزائر مطلع عام 2025 إلى 47.4 مليون نسمة، على أن يصبح عدد الجزائريين في حدود الـ 60 مليوناً عام 2050.
وبحسب تقارير أممية فإن عدد سكان الجزائر يعادل 0.57 في المئة من إجمال سكان العالم، وهي تحتل الصف الـ 34 دولياً على صعيد النمو الديموغرافي.
وجاء في تقرير للديوان الوطني للإحصاء أن متوسط العمر ارتفع بصورة لافتة، إذ وصل إلى 79.6 في المئة، أي بمعدل 78.2 عاماً عند الرجال، و81 عاماً عند النساء، بعد أن شهد المؤشر ذاته تباطؤاً إبان أزمة كورونا.
وورد في التقرير أن "الجزائر تشهد اتجاهاً نحو انخفاض عدد حالات الزواج منذ عام 2014، وبمعدل أكثر سرعة منذ عام 2020، وأحصى التقرير 285 ألف عقد زواج عام 2023، بانخفاض 10 في المئة مقارنة بعام 2019، بينما ارتفع عدد حالات الزواج إلى 315 ألفاً عام 2021، وقد ربطت ذلك بتأثير التعافي من جائحة كورونا وتجاوز قيود الأزمة الصحية".
أصبحت ثقافة إنجاب طفل أو اثنين كحد أقصى داخل الأسرة الجزائرية هي السائدة حالياً والتحولات الاجتماعية والاقتصادية وزيادة وعي المرأة السبب
ويرى الباحث الجزائري في الصحة العمومية أمحمد كواش أن الجزائر شهدت خلال الأعوام الأخيرة انخفاضاً في عدد المواليد الجدد بعد تراجع معدلات الإنجاب بسبب عدد العوامل الاقتصادية والاجتماعية.
ويقول كواش لـ "اندبندنت عربية" إن تراجع معدلات الإنجاب لدى الجزائريين يرجع أساساً للظروف الاقتصادية التي مرت بها البلاد، إذ أصبح الدخل الفردي لا يغطي حاجات الأسرة مع تغير النمط المعيشي الذي يعتمد على الإنفاق الكبير وعدم الاكتفاء باستغلال الإمكانات البسيطة، وصارت العائلات بحاجة إلى مصاريف كبيرة.
ويضيف، "تحسن التعليم والمستوى الثقافي والعلمي لدى الأسر أصبح بارزاً، إذ إن معظم الأزواج الجدد لديهم مستويات تعليمية مرتفعة، وبالتالي تغيرت مفاهيم والنظرة نحو إنجاب عدد كبير من الأطفال، وأصبحت ثقافة إنجاب طفل أو اثنين كحد أقصى داخل الأسرة هي السائدة حاليا في المجتمع الجزائري".
وأوضح كواش أن الحاجات المتزايدة للأطفال أجبرت الأسر على الاكتفاء بعدد قليل من الأولاد، إضافة إلى أن ضعف المداخيل داخل الأسرة وغلاء المعيشة كلها عوامل أسهمت في انخفاض معدلات الإنجاب، ناهيك عن ولوج المرأة إلى سوق العمل في كل القطاعات مما سهل عملية خفض معدلات الإنجاب في الجزائر، وأصبحت المرأة العاملة تفكر أكثر في العمل وتنأى بنفسها عن إنجاب الأطفال.
وأشار إلى دور الإجراءات الحكومية الخاصة بالمنظومة الصحية من خلال التحسيس والتوعية بضرورة تباعد الولادات والتقليل من عدد الأطفال عبر وسائل الإعلام المختلفة، وكذا توفر مؤسسات صحية خاصة بالأمومة والطفولة التي توافر حبوب منع الحمل مجاناً للنساء، بعد أن كانت المرأة في وقت سابق تجد صعوبة في الحصول على متابعة طبية مناسبة وموانع الحمل بصورة مستمرة.
دول الخليج... عزوف عن الزواج
وتعيش دول الخليج تراجعاً ملاحظاً في معدلات الإنجاب والخصوبة، مما يثير المخاوف من انخفاض أكبر مستقبلاً. وتُظهر الإحصاءات أن هذا التراجع يفوق المعدلات العالمية، ويعزى لعوامل عدة من أبرزها تراجع معدلات الزواج، وإلى جانب ذلك تسهم أنماط الحياة غير الصحية، مثل التغذية السيئة وزيادة التوتر في التأثير السلبي على الخصوبة، بخاصة بين الشباب، وهذه العوامل تستدعي اهتماماً أكبر من قبل الحكومات والمجتمع لتعزيز الوعي حول الصحة الإنجابية وتشجيع الزواج وتبني أساليب حياة صحية لتحسين معدلات الخصوبة.
ووفقاً لآخر إحصاء صادرة عن المركز الإحصائي لدول مجلس التعاون الخليجي، فقد بلغ إجمال المواليد 848.5 ألف مولود عام 2021 بانخفاض قدره 1.2 في المئة مقارنة بالعام الذي سبقه، وشكلت السعودية النسبة الأكبر من إجمال المواليد بـ 68.1 في المئة نتيجة لكونها الدولة الأكثر كثافة سكانية مقارنة بباقي دول الخليج، تلتها الإمارات بـ 10.9 في المئة، ثم عُمان بـ 9.7 في المئة، والكويت بـ 6.1 في المئة، بينما بلغت نسبة المواليد في قطر 3.1 في المئة والبحرين 2.1 في المئة.
وفيما يتعلق بمعدل الخصوبة الذي يقيس متوسط عدد المواليد لكل امرأة خلال حياتها الإنجابية، تتصدر الإمارات وعمان دول الخليج بمعدل 3.2 مولود لكل امرأة، تليهما الكويت 2.9 ثم السعودية 2.8، بينما تأتي قطر في المرتبة الأخيرة بـ 2.7 والبحرين بـ 2.0.
ويشار إلى أن المعدل العالمي للحفاظ على استقرار عدد السكان هو 2.1 مولود لكل امرأة، وفقاً لتقرير موقع "WID" لمؤشرات التنمية العالمية، وهو المعدل الذي يضمن استقرار عدد السكان على المدى الطويل، إلا أن دول الخليج تواجه تحدياً مقلقاً في هذا الصدد، إذ بلغ معدل الخصوبة الإجمالي للمنطقة 1.8 في عام 2022. وبحسب توقعات موقع "مارمور" الإحصائي فإنه يتوقع أن ينخفض هذا المعدل إلى 1.15 بحلول عام 2060، مما يشير إلى انخفاض كبير في عدد السكان في دول مجلس التعاون إذا استمرت هذه الاتجاهات.
وفي مقالة نشرتها صحيفة "الشرق الأوسط"، أوضح الأستاذ المشارك في علم الاجتماع عبدالله آل ربح أن نسبة الطلاق ليست بالقدر المروع الذي يصوره الإعلام، لكن التحدي الأكبر يكمن في العزوف عن الزواج، مشيراً إلى أن تأخر سن الزواج له تأثير مباشر في انخفاض معدلات الإنجاب نتيجة التحديات والمتطلبات المرتبطة بالحياة الحديثة.
التحدي الأكبر في دول الخليج هو العزوف عن الزواج بالأساس أو تأخر سن الارتباط ما يؤثر في انخفاض معدلات الإنجاب
وفي الجانب الصحي أكدت استشارية النساء والولادة الدكتورة عزة محمد في حديثها إلى "اندبندنت عربية"، أن النساء حديثي الزواج والأصغر سناً يعانين انخفاض معدلات الإنجاب مقارنة بالنساء الأكبر سناً، وأرجعت ذلك لنمط الحياة غير الصحي في ما يتعلق بالتغذية والنوم، كما أشارت إلى أن أكثر من نصف حالات تأخر الحمل تعود لمتلازمة تكيس المبايض مع وجود عوامل أخرى مرتبطة بالتوتر والقلق النفسي تلعب دوراً في تأخر الحمل أو حدوث إسقاط الحمل، لأسباب صحية أو غير معروفة.
الأردن... تنظيم اضطراري للأسرة
ولا يعد المجتمع الأردني استثناء، إذ يبدو تراجع معدلات الإنجاب خلال الأعوام الأخيرة ملاحظاً نتيجة عوامل عدة يجملها اختصاصيون اجتماعيون في تغيرات اقتصادية واجتماعية عدة طرأت خلال العقد الأخير، فضلاً عن تأثير بعض السياسات الحكومية التي دفعت بقوة لتنظيم الأسرة، فمنذ أعوام تغيرت الصورة الاجتماعية للإنجاب في الأردن وأصبح موروث السند والعزوة بإنجاب أكبر عدد ممكن من الأبناء غير ممكن أمام الاكتظاظ السكاني الذي تشهده البلاد، مع تفاقم أزمات الأردن الاقتصادية من بطالة وفقر.
ويشار إلى أن عدد الإناث في الأردن بلغ 5 ملايين و419 ألفاً من مجموع السكان الكلي، وبنسبة بلغت 47.1 في المئة من إجمالي السكان مقارنة بـ 52.9 في المئة للذكور.
ومع زيادة كلف المعيشة وارتفاع معدلات البطالة أصبحت الأسر الأردنية أقل تفكيراً في مسألة الإنجاب لعدم القدرة على توفير متطلبات الحياة الأساسية للأبناء، ويقول متخصصون إن تعليم المرأة ودخولها سوق العمل أدى بدوره إلى تأخير سن الزواج والإنجاب، فيما لعبت التحولات الثقافية والمجتمعية وتغير القيم بدورها، دوراً في تراجع معدلات الإنجاب بين الأردنيات، إذ طغت فكرة الأسر الصغيرة وتحديد النسل والاستثمار في التعليم للأبناء.
غير أن زيادة الوعي بتنظيم الأسرة أيضاً ساعدت في خفض معدلات الإنجاب بعدما كان ظاهرة اجتماعية مرتبطة بالخصوبة والقوة والمكانة الاجتماعية.
وكشف مسح السكان والصحة الأسرية في الأردن عن انخفاض معدل الإنجاب في البلاد بواقع 2.6 مولود لكل سيدة في عمر الإنجاب حتى نهاية عام 2023، مقارنة بـ 2.7 عام 2018.
وتبين وفق نتائج المسح أن معدل الإنجاب في المناطق الريفية أعلى منه في المناطق الحضرية، فيما تقول دائرة الإحصاءات العامة إن خصائص الأسرة الأردنية آخذة في التغير، إذ بلغ متوسط عدد أفراد الأسر في الأردن 4.8 فرد، وترأست السيدات 15 في المئة من الأسر الأردنية.
لكن معدل الإنجاب بين النساء اللاتي يسكن في مخيمات اللاجئين السوريين أعلى مقارنة بمن لا يعشن في تلك المخيمات، في حين أن متوسط عدد أفراد الأسر في الأردن 4.8 فرد.
ويستخدم 60 في المئة من الأردنيات المتزوجات إحدى وسائل تنظيم الأسرة، وتقول الحكومة الأردنية إن نحو 97 في المئة من السيدات قد تلقين رعاية ما قبل الولادة ومعظمهن داخل مرافق صحية، في حين بلغ معدل الولادة القيصرية 43 في المئة، في إشارة إلى عوامل ثقافية واجتماعية عدة باتت تشجع أو تعتاد على الولادة القيصرية لاعتبارات تتعلق بالمكانة الاجتماعية او عدم الرغبة بخوض تجربة آلام الولادة الطبيعية، وكذلك فهناك انخفاض في معدل وفيات الأطفال حديثي الولادة الى 14 حالة وفاة لكل 1000 مولود حي عام 2023، مع ارتفاع نسبة تلقي التطعيمات.
وفي المقابل تقول دائرة قاضي القضاة التي توثق حالات الزواج إن هناك انخفاضاً في حالات الزواج في الأردن للسنة الثانية على التوالي بنسبة سبعة في المئة، إذ بلغت عقود الزواج عام 2023 نحو 60 ألف عقد مقارنة بـ 64 ألفاً عام 2022.
وساعدت الإجراءات الحكومية في خفض عدد المواليد الجدد بعد تبني السلطات منظومة متكاملة لتنظيم الأسرة ورفع الوعي بأهمية التخطيط الأسري، إذ أنشأت حملات تنظيم الأسرة والتوعية الصحية بالتعاون مع منظمات دولية ومحلية، مع تحسين الوصول إلى خدمات الصحة الإنجابية عبر توفير وسائل منع الحمل بصورة مجانية أو كلفة منخفضة في المراكز الصحية الحكومية، وكذلك التعاون مع منظمات دولية مثل "صندوق الأمم المتحدة للسكان" (UNFPA) الذي يعمل على تعزيز الصحة الإنجابية وتنظيم الأسرة، مما يسهم في خفض معدلات الإنجاب.
ساعدت الإجراءات الحكومية في الأردن على خفض عدد المواليد الجدد بعد تبني السلطات منظومة متكاملة لتنظيم الأسرة ورفع الوعي بأهمية التخطيط الأسري
ويقدر المجلس الأعلى للسكان عدد المواليد سنوياً في الأردن بنحو 200 ألف مولود، ووفق المجلس فإن الصحة الإنجابية والجنسية والحقوق الإنجابية تستوجب من الأسرة النظر في خياراتها وقراراتها حولها.
وبلغت نسبة النساء المتزوجات حالياً وفي سن الإنجاب اللاتي لا يرغبن في إنجاب مزيد من الاطفال مستقبلاً نحو 50 في المئة، بينما تبلغ النسبة لدى الرجال 28 في المئة.
وفي المقابل بلغت نسبة السيدات المتزوجات في سن الإنجاب اللاتي لا يستعملن وسائل تنظيم الإنجاب نحو 33 في المئة، وتقدر وزارة الصحة الأردنية نسبة الولادات السنوية غير المرغوبة أو غير المخطط لها بنحو 60 ألف ولادة سنوياً، مما يشير الى استمرار عدم التخطيط للإنجاب.
المغرب... الأوضاع المعيشة تحكم
وفي المغرب عرف منحى الخصوبة والإنجاب لدى النساء مسارين مختلفين، الأول في الفترة ما قبل عام 2004 التي كانت تعرف نوعاً من الارتفاع في الخصوبة، ثم الفترة الزمنية التي تلت العام نفسه واتسمت بانخفاض لافت لمعدلات الإنجاب.
وتكشف أرقام رسمية كشفت عنها المندوبية السامية للتخطيط (مؤسسة رسمية تعنى بالإحصاءات) عن انخفاض ملموس لمعدلات الإنجاب والخصوبة لدى النساء خلال الفترة ما بين 2004 و2022، مرجعة ذلك لعوامل اجتماعية واقتصادية وأسرية عدة.
تقول نزهة عابدي، وهي سيدة مغربية في عقدها الرابع بخصوص إنجابها طفلين فقط رغم زواجها منذ 20 عاماً، إن قرار الحد من الإنجاب بالنسبة إليها وزوجها "اختياري ولا يتعلق بأسباب صحية أو طبية أو بسبب السن"، مشيرة إلى أنها اتفقت مع زوجها على إنجاب طفلين على أقصى تقدير بسبب الرغبة في التحكم في تربية الأبناء، وما يتطلبه ذلك من جهد ومتابعة ومشقة جسدية ونفسية.
واستطردت نزهة أن "قرار خفض فرص الإنجاب كان بالتراضي بينها وبين زوجها منذ بداية الزواج، من طريق اتخاذ وسائل منع الحمل المختلفة"، مضيفة أنها "رأت صديقات لها ونساء من أسرتها كيف أن حياتهن تحولت إلى جحيم اجتماعي ونفسي بسبب ارتفاع عدد المواليد وكثرة الإنجاب"، وفق تعبيرها.
وتقول السيدة عبلة، وهي زوجة في عقدها الثالث، إن "الإنجاب في حد ذاته مكلف مادياً ابتداء من كلف الحمل ومتطلباته، ومروراً بالولادة في مصحة والرعاية التي تتطلبها الزوجة الحامل، ثم بعد ذلك الكلف المالية الكثيرة التي تلي مرحلة الولادة إلى أن يشتد عود الطفل".
وتضيف أن "المرأة المغربية في وقت سابق كانت تعيش في سياق لا يعرف هذا الغلاء الفاحش المتفشي اليوم داخل البلاد، وبالتالي كان الحمل والولادة أيضاً عملية ميسرة وغير مكلفة اقتصادياً ومادياً، بينما اليوم انقلبت الأوضاع وصار أمر الولادة قراراً صعباً وشبيهاً بالانتحار المادي للزوجين".
وفي آخر تقرير رسمي لمندوبية التخطيط بخصوص وضع المرأة المغربية لعام 2023، فقد وصل معدل الخصوبة لدى النساء اللواتي تتراوح أعمارهن ما بين 15 و19 سنة إلى 18.8 في المئة عام 2022، وهو ما يظهر تراجعاً مقارنة مع عام 2004 عندما بلغ معدل الخصوبة 19.1 في المئة.
وفي الفئة السنية للنساء بين 20 و24 سنة عرفت الخصوية أيضاً انخفاضاً ملموساً عام 2022 بمعدل 84.5 في المئة، مقارنة مع عام 2004 بمعدل بلغ حينها 99 في المئة.
أما لدى الزوجات اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين 25 و29 سنة، وهي الشريحة الأكثر خصوبة مقارنة مع باقي الشرائح العمرية، فقد بلغت نسبة الخصوبة 105.9 في المئة بينما كانت مرتفعة عام 2004 بـ 126.6 في المئة.
وشهدت الفئة العمرية للنساء ما بين 20 و34 سنة أكبر معدل لانخفاض الخصوبة، إذ انخفض هذا المعدل من 81 في المئة عام 2004 إلى حدود 68 في المئة عام 2022، والملاحظة نفسها تنسحب على النساء المغربيات بين 40 و44 سنة، إذ وصل معدل الخصوبة عام 2022 إلى ما يقارب 32 في المئة، مقارنة مع عام 2004 بمعدل 33.7 في المئة.
وفي هذا الصدد ترى الباحثة السوسيولوجية ابتسام العوفير أنه في عقود خلت كانت الخصوبة مرتفعة ومعدلات الإنجاب كبيرة، إذ يمكن للزوجة أن تلد أكثر من أربعة وستة أطفال من دون أن يشكل لها ذلك عائقاً اجتماعياً أو صحياً أو اقتصادياً.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وتابعت الباحثة الاجتماعية أن الفكر التقليدي وأيضاً التأويل الخاطئ للدين ولبعض الأحاديث أسهم في هذا الارتفاع للإنجاب خلال أعوام السبعينيات وإلى حدود الألفية الثالثة، من قبيل أن المرأة الولود تكون أكثر جاذبية للرجل أو أن إكثار سواد الأمة يبدأ بكثرة الإنجاب.
واستطردت العوفير أن ما ساعد في الاتجاه نحو كثرة الإنجاب أيضاً أن الحياة كانت سهلة وغير معقدة، وأن الأسعار كانت رخيصة وكلف الحمل والولادة كانت منخفضة جداً، إذ كانت المرأة تلد في منزلها ولا تحتاج في الغالب إلى الولوج لمصحة أو مستشفى.
وتفسر الباحثة السوسيولوجية أن ما جعل الإنجاب سلوكاً عادياً في وقت مضى هو أن الأسرة "كانت ممتدة، إذ يمكن للزوجة أن تلد ويربي الابن الجد أو العم أو الخال في منزل الأسرة الكبير، لكن في الوقت الراهن صارت الأسرة نووية تنحصر بالكاد على الزوج والزوجة، فصار الإنجاب الكثير أمراً منغصاً على الحياة الاجتماعية والاقتصادية".
من جهتها عزت مندوبية التخطيط انخفاض الخصوبة في المغرب إلى عاملين رئيسين، "الأول هو تراجع سن الزواج الأول الذي صار يلامس الـ 30 سنة عند الفتاة، والثاني انتشار وتنوع وسائل منع الحمل".
وأوردت المؤسسة الحكومية ذاتها أن "سن الزواج الأول عند المرأة يتغير وفق الظروف من خلال الاستجابة للأزمات، خصوصاً أزمات القوامة أو الظروف الاقتصادية المواتية، إذ تنخفض الخصوبة أو تزيد تبعاً لذلك".
سوريا... رهينة الوضع الاقتصادي واختلاف البيئات
وينقسم المجتمع السوري إلى مجتمعات عدة وإن كانت معظم الدراسات تأخذه ككتلة واحدة وتجعل عليه أبحاثها وإحصاءاتها، فالمجتمع هو كلمة تحمل بين طياتها مفاهيم ومعتقدات وعادات وتقاليد بيئة محددة، وفي ظل تعدد البيئات الجغرافية في سوريا وأثر هذا التعدد، كما يفسر علم الاجتماع في نفوس وأفكار قاطنيه، فإن مسألة الإنجاب توضع في هذه الخانة، فترى في بيئة قلة وتناقص عدد الولادات، وفي بيئة أخرى كثافة غير منطقية في الإنجاب، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الإحصاءات غير شاملة لكل الأرض السورية بسبب الحرب التي غيرت ديموغرافيات وشتت كثراً وهجّرت آخرين، وأثرت صحياً واقتصادياً في القدرة الإنجابية، وعليه فالموضوع يبقى في عهدة مؤسسات الدولة السورية وما يصدر عنها من تصريحات وإحصاءات تشمل غالبية الأراضي السورية، مع الاستثناءات التي خلفتها الحرب كمدينة إدلب مثلاً وجزء من الشمال السوري.
وفي عام 2022 خرجت إحصاءات على لسان مدير المكتب المركزي للإحصاء في دمشق عدنان حميدان تقول إن عدد الولادات تراجع خلال ذلك العام عن سابقيه بعدد 633 ألفاً و619 حالة ولادة، بينهم 324 ألفاً و341 ولادة من الذكور و309 آلاف و278 ولادة من الإناث، وكان نصيب محافظة دمشق 24313 ولادة.
وفي المقابل سُجلت 90 ألفاً و139 حالة وفاة عام 2022 بينها 56 ألفا و572 حالة وفاة من الذكور و33 ألفاً و567 حالة من الإناث، في حين سجلت محافظة دمشق 8485 حالة وفاة.
وعزا حميدان انخفاض نسبة الولادات عام 2022 عن سابقه نتيجة عدد من الأسباب، والعامل الحاسم فيها الوضع الاقتصادي وارتفاع كلف الحمل والفحوص الطبيبة وكلف ما بعد الولادة للطفل، كما اعتبر أن ثقافة المجتمع تلعب دوراً مهماً في إحصاء عدد الولادات، فهناك كثير من العائلات في المناطق الريفية لا يدركون أهمية وضرورة تسجيل أطفالهم عند الولادة، والانتظار إلى أن يصبح عمر الطفل أربع أو خمس سنوات في بعض الأحيان.
وبنظرة سريعة على المجتمع السوري ببيئاته المتعددة نجد أن هناك أعداداً كبيرة من المتزوجين الذين يناضلون، بحسب قولهم، ضد أعراف المجتمع التي تحث على الإنجاب من دون تفكير، إذ إن هذه النقطة في زمن التضخم الاقتصادي والأوضاع المتوترة دفعت بهؤلاء للتفكر مراراً وتكراراً بتأخير إنجاب طفل، إذ يبلغ متوسط كلفة العناية بطفل من يوم لحد الثلاث سنوات في الشهر مليوني ليرة سورية، أي ما يعادل 150 دولاراً أميركياً مقتصراً فقط على تأمين الحليب وحاجاته الأساسية اليومية، من دون حساب كلفة وقت الأزمات وحاجته إلى طبيب وأدوية وتفاصيل أخرى، وفي السياق ذاته المتردد في الإنجاب، لكن مع عزوف عدد لا بأس به عن الزواج من الشبان ولجوء الفتيات إلى تجميد البويضات إن استطعن إلى هذا الخيار سبيلاً.
بينما لا يزال على الناحية الأخرى بيئات تنجب الأطفال من دون تفكير بالعواقب المترتبة على المدى الطويل من الناحية الجسدية والنفسية، إذ تؤدي المعتقدات الدينية التي تحرم الإجهاض وقلة التوعية مع وجود الأعراف والتقاليد التي تشجع المرأة على استمرار في الإنجاب طالما أنها تمتلك القدرة الجسدية على ذلك، دوراً في ارتفاع معدلات الولادات في بعض البيئات، بخاصة تلك التي أصبح فيها تغيير ديموغرافي واستقبلت لاجئين من أماكن عدة، فهناك كثير من النساء لا يستخدمن موانع الحمل لاعتقادهن بأن استخدامها يتعارض مع المعتقد الديني.
وقد تراجع معدل خصوبة النساء المقيمات في سوريا بين ما قبل الحرب وما بعدها بنسبة 61 في المئة، إذ خسرت كل 100 امرأة أكثر من 10 أطفال كان من الممكن ولادتهم.
ووفق مسح رسمي للمكتب المركزي للإحصاء فإن 5.098 مليون امرأة مقيمة في سوريا كانت في عمر الخصوبة عام 2010، وهؤلاء النسوة أنجبن خلال ذلك العام 870 ألف مولود تقريباً، أي بمعدل 17 طفل لكل 100 امرأة في عام واحد.
تراجع معدل خصوبة النساء المقيمات في سوريا بين ما قبل الحرب وما بعدها بنسبة 61 في المئة إذ خسرت كل 100 امرأة أكثر من 10 أطفال كان من الممكن ولادتهم
أما عدد النساء اللواتي رصد المسح عام 2017 أنهن في عمر الخصوبة فقد بلغ 4.122 مليون امرأة بين سن 15 سنة وصولاً إلى 49 سنة، وهؤلاء لم يلدن سوى 274 ألف طفل عام 2017، بمعدل لا يتعدى 6.6 طفل لكل 100 امرأة عام.
ولذلك يقول المدير السابق لصندوق الأمم المتحدة لسكان للمنطقة العربية الدكتور لؤي شبانة بعد أن زار عدداً من مخيمات اللجوء السوري واطلع على الأوضاع الخاصة بتنظيم الأسر فيها، "إنه في الأزمات الإنسانية يجب التركيز على خدمات الصحة الإنجابية وتوفير المعلومات والخدمات الطبية التي بإمكانها أن تنقذ الأرواح، إذ يمكن تفادي نحو ثلث الوفيات من جراء الحمل والولادة بفضل خدمات الصحة الإنجابية وعلى رأسها أساليب تنظيم الأسرة، ففي الأزمات الإنسانية تصبح الصحة الإنجابية موضوع حياة أو موت، ويصبح التنظيم والتخطيط الحكيم للأسرة عاملاً أساساً في حال الأسرة الاقتصادية".
العراق... الإنجاب قرار عائلي ولا خطط حكومية
يحتل العراق المرتبة الرابعة عربياً في معدلات الخصوبة، إذ لا توجد خطط وسياسات تتعلق بتحديد النسل، فالإنجاب قرار يتعلق بالأسرة فقط، وإن كانت وزارة التخطيط طرحت عام 2021 فكرة لإعداد برنامج لتحديد الولادات في العراق لكنها ما لبثت أن تراجعت عنه، ولعل السبب يعود للقيم الاجتماعية والدينية التي تحكم المجتمع العراقي.
تقول زهراء مهدي (25 سنة) أثناء انتظارها تسلم نتائج الفحص المختبري التي تخص المقبلين على الزواج في مستشفى العلوية التعليمي للولادة، إنها اتفقت مع خطيبها على إنجاب طفلين فقط "قرارنا هو إنجاب طفلين لا أكثر، فالحياة تزاد صعوبة ومن الأفضل أن يكون عدد الأطفال محدوداً لكي نتمكن من تأمين الحياة الملائمة لهم".
وما بين عامي 1978 و1980 والأعوام اللاحقة وحتى عام 1990، حظي الإنجاب في العراق بعناية رسمية، إذ وضعت تشريعات تحفز الأفراد على زيادة معدلات المواليد، حيث كان عدد السكان لا يزال قليلاً بالنسبة إلى رقعته الجغرافية ووفرة موارده التي تستوعب أعداداً مضاعفة، ولا سيما مرحلة السبعينيات، فعندما حصلت الوفرة المالية النفطية عام 1974 بدأت الأموال والعوائد تتراكم مما دفع بالدولة إلى استثمارها في المجالات الاقتصادية والخدمية.
وبلغ معدل الخصوبة الكلي في العراق عام 1997 حوالى 7.5 مولود لكل امرأة، وانخفض هذا المعدل إلى 3.4 عام 2006، وخلال المقارنة بين العامين يلاحظ أن أكبر معدل خصوبة للنساء عام 1997 كان للفئة العمرية ما بين 25 و29 بمعدل 276 مولوداً لكل 1000 امرأة، وعام 2006 حظيت أيضاً الفئة العمرية ما بين 25 و29 بأعلى معدل للخصوبة وهو 221 مولوداً لكل 1000 امرأة.
وتتباين معدلات الخصوبة بين الريف والمدينة، ففي الريف هناك موروث اجتماعي يزيد من نسبة الإنجاب بسبب الزواج الباكر وتعدد الزوجات، كما أن المرأة الريفية لا تزال تنظر إلى زيادة الإنجاب على أنه أمر من شأنه أن يزيد أواصر العلاقة الزوجية ويثبت زوجها بها فيبعدها ذلك عن أخطار الطلاق، وبالنتيجة فإنها تعزز من منزلتها لدى زوجها ومكانتها عند الأهل والأقرباء والمجتمع، إذ لا يزال معظم السكان في الريف يحملون أفكاراً اجتماعية معينة عن الإنجاب والتباهي في عدد الأولاد الذين ينجبونهم.
وتقول مديرة قسم الصحة الإنجابية والصحة المدرسية في وزارة الصحة الدكتورة خلود عودة إن "معدلات الخصوبة في العراق شهدت انخفاضاً على مدى خمسة عقود بـ 56 في المئة، فبعد أن كانت تقدر بـ 7.1 عام 1969 قلّت عام 2023 لتصبح 3.1، لكن حتى مع هذا الانخفاض لا يزال العراق يعد ضمن الدول العالية الخصوبة".
وتوضح عودة في حديثها إلى "اندبندنت عربية" أن "الزواج الباكر وقلة وفيات الأطفال هي إحدى أهم أسباب زيادة الخصوبة وارتفاع معدلات السكان، والزواج بالنسبة إلى الفتيات في عمر أقل من 18 سنة زاد بمعدل 25 في المئة عام 2021، بعد أن كان 21 في المئة عام 2011، مما يفسر أسباب زيادة معدلات الخصوبة في العراق".
وتضيف أن "الخطط الإنجابية في العراق لا تستهدف عدد الولادات، بل إن الأسس التي تستند إليها فكرة تنظيم الأسرة هو المباعدة بين الولادات، إذ نسعى أن يكون بين ولادة طفل وآخر ما لا يقل عن عامين لكي تستعيد الأم صحتها، فالإنجاب قرار عائلي لكننا نستهدف زيادة الوعي للمباعدة بين الولادات بما يخدم صحة الأم والطفل".
الخطط الإنجابية في العراق لا تستهدف عدد الولادات بل إن الأسس التي تستند إليها فكرة تنظيم الأسرة هي المباعدة بين الولادات
ويشير الاستشاري في أمراض النسائية والتوليد في مستشفى العلوية التعليمي للولادة الدكتور حميد جميل إلى أن العراق "بحاجة إلى قرارات واضحة لتحديد عدد الولادات، فالمجتمع العراقي ذو خصوبة عالية بسبب غياب السياسات واضحة لتحديد النسل، فالبرامج الموجودة تصنف بأنها نصائح أكثر من كونها قرارات ملزمة".
ويوضح جميل أن هناك حالات تستوجب وجود قرار بعدم الإنجاب مراعاة لصحة الأم أولاً، فالعائلات لا تتقبل النصائح التي يقدمها الطبيب المعالج للأم، "وهناك من تنجب سبعة أو ثمانية أطفال، وتعاني صحياً ومن الممكن أن تفقد حياتها مع كثرة الولادات فمن الضروري وجود قوانين تحد من عدد الولادات لهذه الحالات".
تونس.. تحديد النسل ثقافة راسخة
تعتبر تونس رائدة في مجال تحديد النسل مند سبعينيات القرن الماضي من خلال برنامج حكومي شامل، إذ نجحت هذه الخطة في ترسيخ ثقافة الحد من الإنجاب فانعكس ذلك على الحد من عدد السكان الذي كان قد يتخطى 30 مليون نسمة عوض 12 مليون نسمة لولا أن انتهجت تونس سياسة تحديد النسل في وقت يعتبر باكراً مقارنة بدول عربية وأفريقية أخرى، إلا أن هذا النجاح أسهم في انخفاض معدل الخصوبة إلى معدلات دنيا أسهمت بحسب متخصصين في علم الاجتماع في بداية هرم المجتمع التونسي.
وبحسب إحصاءات رسمية فقد انخفض معدل الخصوبة في تونس من 7.1 طفل لكل امرأة عام 1965 إلى 1.9 عام 2023، وبلغ متوسط عدد أفراد الأسرة التونسية 3.8 فرد عام 2023.
وتسارع هذا النسق خلال الأعوام الـ 10 الأخيرة، إذ تراجع عدد الولادات من 225 ألفاً عام 2014 إلى 160 ألفاً عام 2023، وعدد الزيجات من 110 آلاف إلى 77 ألفاً خلال الفترة نفسها.
وأسهم الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري منذ إحداثه، بحسب معلومات رسمية، في تجسيم وتنفيذ السياسة الوطنية في مجال التخطيط السكاني والتحكم في الخصوبة عبر العمل على خفض نسق النمو الديموغرافي وضمان الظروف الملائمة لتحقيق التنمية الاجتماعية والاقتصادية المنشودة، خلال تلك الفترة الصعبة التي واجهتها تونس بعد الاستقلال وعبر توفير خدمات تثقيفية وتوعوية وطبية آمنة ومجانية تشمل مجالات ومكونات التنظيم العائلي والصحة الإنجابية كافة.
والديوان مؤسسة حكومية تحت إشراف وزارة الصحة العمومية مكلف بتنفيذ سياسة الحكومة في مجال التطور السكاني والصحة الإنجابية، وقد تميزت تدخلات وبرامج الديوان عبر خمسة عقود بمواكبة التحولات السكانية والصحية والاجتماعية والاقتصادية للمجتمع التونسي، وما تفرزه تطوراته ومستجداته من حاجات وأولويات جديدة، فتنوعت هذه التدخلات والبرامج وشملت مختلف المجالات والمتعلقة بصحة المرأة ورفاهها الجسدي والنفسي، وذلك وفق مقاربات مبتكرة وخدمات مجانية عبر كامل أنحاء البلاد ومتاحة للجميع في كل مراحل الحياة.
وبذلك فقد كان للديوان، وعلى مدى نصف قرن، دور كبير وفعال في التحكم في نسق النمو الديموغرافي وتوسيع التغطية بوسائل منع الحمل والتحكم في الخصوبة وتحسين المؤشرات المتعلقة بصحة الأم والطفل، وقد انعكس هذا المردود جلياً على القطاعات الاجتماعية الحيوية وأثر إيجابياً في الرصيد الصحي ونوعية الحياة في تونس التي أصبحت من البلدان الرائدة في مجالات تنظيم الأسرة والصحة الإنجابية، ولها تجربة نموذجية يقتدى بها على الصعيدين العربي والأفريقي والدولي مكنتها من إحراز جوائز أممية ودولية عدة.
وفي هذا السياق تقول الاختصاصية في طب النساء والتوليد الدكتورة زهيرة بن عيشاوية إن "الديوان الوطني للأسرة والعمران البشري نجح في إرساء ثقافة التنظيم العائلي وتحديد النسل في المجتمع التونسي للتحكم في الخصوبة وعدد الولادات من أجل تحقيق التوازن بين النمو الديموغرافي والنمو الاقتصادي بعد استقلال تونس".
وتفيد بن عيشاوية بأن "تحديد النسل له نتائج إيجابية عدة على صحة المرأة، وبالتالي نقصت الوفيات عند الأمهات التي تسبب فيها كثرة الولادات المتقاربة زمنياً، وأيضاً أهمية تحديد النسل في الحد من الأمراض المنقولة جنسياً".
وبحسب بن عيشاوية فإن "الحد من الإنجاب هو حق من حقوق المرأة في تونس"، موضحة أن "المرأة من حقها اختيار الوقت للإنجاب، وأيضاً من حقها تحديد عدد الأبناء والمدة الفاصلة بين الولادات، ومن حقها أيضاً تحديد طريقة منع الحمل، وتلقي الرعاية الصحية اللازمة في كنف السرية التامة بحسب الحالة الاجتماعية للمرأة"، مضيفة "أن الدولة التونسية نجحت في ضمان هذه الحقوق".
أصبحت العائلات التونسية بخاصة المتزوجون الشبان مقتنعة بإنجاب طفل أو اثنين لأجل حياة أفضل لهما
إلا أن هذه السياسة الديموغرافية أو السياسة الإنجابية التي انتهجتها تونس أسهمت في إبراز تحولات عدة داخل المجتمع التونسي، تتجلى في تقلص عدد الأطفال بعد أكثر من 60 عاماً من بدء السلطات تنفيذ سياسة التنظيم العائلي المقصود به تحديد النسل، فأصبحت العائلات التونسية، بخاصة المتزوجون الشبان، مقتنعة بإنجاب طفل أو اثنين لأجل حياة أفضل لهما، لكن هذه السياسة بحسب علماء الاجتماع سلاح ذو حدين، وقد تسبب تهرّم المجتمع التونسي خلال أعوام قليلة.
وتقول الباحثة التونسية المتخصصة في علم الاجتماع صابرين الجلاصي إن "السياسة التي اتخذتها الدولة التونسية منذ أكثر من 50 عاماً لتحديد النسل أصبحت ثقافة راسخة لدى التونسيين، ولم تعد مخططاً حكومياً بل هو قرار فردي تأخذه العائلات التونسية لأسباب عدة".
وتضيف الجلاصي أن "الضغوط المادية والمعيشية المتزايدة تؤثر بدورها في قرار الإنجاب لدى الأسر، فاللجوء إلى تقليص الإنجاب أو التباعد بين الولادات ظواهر تعيشها كل المجتمعات التي تمر بظروف اقتصادية صعبة أو بغلاء المعيشة وصعوبتها، ولا سيما إذا اقترن ذلك بمستويات جيدة من الوعي والتعليم"، موضحة أن "الأزواج في تونس واعون بأهمية الحد من الإنجاب لتوفير حياة أكثر رفاهية للأطفال وأيضاً حياة أكثر أمناً للعائلة، إضافة إلى وعي المرأة التونسية بالأخطار الصحية لكثرة الولادات".
من جهته يرجح المتخصص في البحوث الديموغرافية حسان قصار أن يشهد المجتمع التونسي بين عامي 2035 و2040 ما يطلق عليه "تهرماً سكانياً" إذا ما تواصل معدل تراجع الخصوبة، معتبراً أن جميع البلدان ومن بينها تونس، والتي تعتمد سياسة تحديد النسل، تنخفض فيها معدلات الإنجاب، ويعتقد قصار في تصريح خاص أن التهرّم السكاني قد يؤثر في تركيبة المجتمع التونسي.
موريتانيا... الإنجاب ينشده الفقراء ولا تهتم به الحكومات
وفي موريتانيا عاد الحديث عن الإنجاب للواجهة أخيراً بعد نشر الحكومة الإحصاء العام للسكان، إذ اعتبر مهتمون بالتنمية أن ثبات عدد السكان دون حاجز 5 ملايين قد يكون من بين أسباب تعثر موريتانيا التنموي على رغم وفرة الموارد الطبيعية في البلاد.
ونشرت منظمة موريتانية مهتمة في صعوبات الإنجاب لدى الموريتانيين تقريراً عام 2021 أظهر تراجع معدل الإنجاب من ستة في المئة خلال عقد الستينيات إلى أربعة في المئة قبل ثلاثة أعوام.
ويقول رئيس المنظمة الأهلية الناشطة في مجال محاربة العقم الدكتور محمد عبدالقادر لـ "اندبندنت عربية" إنه "بالنسبة إلى معدلات العقم في موريتانيا فلا توجد إحصاءات دقيقة بسبب غياب إحصاءات وزارة الصحة الموريتانية، وكذلك غياب مراكز تتكفل بالعقم، وعليه لا يوجد سوى انطباعات الأطباء الذين يستقبلون الأعداد المتزايدة من الأزواج الباحثين عن حل".
وعبر الانطباعات ترى الممرضة الاجتماعية أسلمهم العيد أن عمال مصالح الولادات في المستشفيات الموريتانية العمومية والخصوصية يلاحظون "تباعد حالات الولادة في هذه الأقسام، مما يؤصل فكرة "تراجع معدل إنجاب الموريتانيات عما كن عليه قبل عقدين من الزمن".
وتحولت المقارنات بين عدد سكان دول الجوار الموريتاني، سواء في الشمال العربي مثل المغرب والجزائر وحتى جيران موريتانيا جنوباً مثل السنغال والجنوب الشرقي مالي، فهذه الشعوب دخلت في أعداد مليونية تجاوز بعضها الـ 50 في الوقت تحاول موريتانيا منذ استقلالها تجاوز حاجز الـ 5 ملايين من دون جدوى.
ويرى الباحث الاجتماعي إسماعيل ولد حافظ أن هناك عدة عوامل سببت هذا الوضع الديموغرافي لموريتانيا، إذ إن "تباين الثقافات الاجتماعية المكونة للنسيج الاجتماعي الموريتاني مختلفة جداً، ولا تنطلق من ثوابت اجتماعية واحدة في النظرة للإنجاب وعدد مراته، إذ إن المجتمعات الموريتانية المنحدرة من أصول أفريقية خالصة مثل الـ 'سونونكي' مثلاً أو قومية الفلاّن تقدس الإنجاب وتسعى إلى تحقيقه، وذلك بإشاعة وتثمين ثقافة الزواج في سن باكرة، بينما ترى القوميات ذات الأصول العربية أن الزواج والإنجاب يتطلب توافر شروط كثيرة مادية ومعنوية، وهو ما يؤخر زواج أبنائها في الغالب".
ويضيف إسماعيل أن "نظرة الموريتاني عموماً للإنجاب تأثرت منذ استقراره في المدينة مع قيام الدولة الموريتانية خلال ستينيات القرن الماضي، إذ اكتشف أن تربية الأطفال وزيادة عددهم يتطلب فواتير مادية مكلفة من التعليم والصحة، التي أصبحت تُكلف جيوب الموريتانيين الكثير".
وشرعت الحكومة الموريتانية في حملة لتسهيل الزواج على الشباب الموريتاني، إذ تبنى اتحاد أرباب العمل واتحاد الأئمة الموريتانيين مبادرة لتزويج مئات الشباب بموارد لا تتعدى 200 دولار أميركي مهراً للعروس.
ويرى الدكتور محمد عبدالقادر أن "الأسر التي تسافر إلى تونس والمغرب وتركيا للاستفادة من تقنيات التلقيح الاصطناعي بأعداد كبيرة تظهر حاجة البلد إلى فتح مراكز متخصصة في هذا المجال للأسر البسيطة التي لا تقدر على كلف العلاج في الخارج"، مشيراً إلى أن صعوبات وتأخر الإنجاب تؤدي إلى عدم الاستقرار الأسري، فالزيجات نادراً ما تصمد أمام تأخر الإنجاب"، بحسب عبدالقادر.
تشهد موريتانيا تأخر الزواج ومن ثمّ الإنجاب بسبب معتقدات اجتماعية بائدة مؤسسة على نقاء عرق القبيلة
ويعدد عبد القادر حالات تأخر العقم بقوله إن "هناك نوعاً من العقم أو تأخر الإنجاب ينتشر في المناطق التي يعيش أبناؤها في المهجر، إذ يعمل آلاف الموريتانيين في أفريقيا وأميركا وأوروبا، بينما تبقى زوجاتهم في الوطن بعيداً منهم، وبالتالي تحدث حالات تأخر إنجاب بسبب مشاغل الزوج"، مشيراً إلى أن "ثقافة وفرة الإنجاب غالباً تقف وراءها اعتبارات دينية، إذ قد يفهم من الحديث مع بعض السيدات اللائي أنجبن أكثر من مرة أن كثرة الإنجاب عندهن رغبة لدى الرجل"، وبخاصة الرجال الذين يتمتعون بوضع مالي مريح"، ويضيف أن "بعض النساء ينجبن على مضض احتراماً لرغبة الرجال".
ويوفر برنامج الصحة الإنجابية الممول من الحكومة الموريتانية بالمجان وسائل تنظيم الأسرة، وفي الوقت نفس يغفل الوجه الثاني من العملة، أي العقم أو صعوبة الإنجاب، كما أن جميع صناديق التأمين الصحي تستثني العقم من التغطية تماماً مثل الجراحة التجميلية.
لكن تأخر الزواج ومن ثم الإنجاب له عامل اجتماعي آخر في موريتانيا، وتقول مريم محمد، وهي سيدة موريتانية فاتها قطار الزواج، إنه "بسبب معتقدات بائدة مؤسسة على نقاء عرق القبيلة لم أحظ بالزواج وفاتتني تجربة الإنجاب"، وهو ما يؤكده الباحث الاجتماعي إسماعيل ولد حافظ بأن هناك سبباً في تراجع معدلات الإنجاب "بسبب تأخر الزواج في انتظار ابن العم الكفء الذي قد يأتي أو لا يأتي".
ليبيا... تشجيع على الزواج والإنجاب
وعلى عكس كثير من الدول العربية التي بدأت تنفيذ سياسات تحديد النسل والحد من الإنجاب، فقد شجعت الدولة الليبية على الزواج والإنجاب، بخاصة أن نسبة السكان قليلة جداً مقارنة بالمساحة الجغرافية للدولة الليبية التي تمتد على 1.8 مليون كيلومتر مربع، بينما يقترب عدد سكانها من 7 ملايين نسمة فقط.
وبحسب تقرير الأمم المتحدة للتوقعات السكانية لعام 2022 فإن معدل الخصوبة الإجمالي في ليبيا (الأطفال الذين يمكن للمرأة ولادتهم) يبلغ 2.4، بينما بلغ 2.3 عام 2006.
وتتنافس حكومة الوحدة الوطنية برئاسة عبدالحميد الدبيبة (غرب) وحكومة أسامة حماد (الشرق) على تشجيع الشباب على الزواج والإنجاب، إذ قدمت حكومة الدبيبة منحة زواج بـ 40 ألف دينار ليبي (8 آلاف دولار أميركي) في سبتمبر (أيلول) 2021 مناصفة بين الشاب والفتاة، شرط أن يكون الزواج هو الأول للزوج، وأن يتمتع الزوجان بالجنسية الليبية فقط.
حكومة حماد (شرق) بدورها أكدت استمرارها تنفيذ قرارات مجلس النواب في شأن دعم الأسر بمبلغ 50 ألف دينار ليبي (10 آلاف دولار أميركي)، إضافة إلى صرف منح الزواج، بل إن الأمر وصل بوزير التعليم العالي في حكومة الوحدة الوطنية عمران القيب إلى القول إن "الانصراف نحو الزواج وتكوين الأسر وإنجاب الأطفال أهم من الدراسة باعتبار أن ليبيا تعاني نقصاً في الفئة العمرية ما بين 16 و22 سنة بسبب الحرب".
ويقول أستاذ الجغرافيا السكانية بجامعة بنغازي محمد العماري إن ليبيا حالياً لا تعاني انحداراً في الإنجاب، موضحاً أن معدلات المواليد عرفت ارتفاعاً كبيراً خلال عقد الخمسينيات والستينيات، إذ بلغ المعدل 50 في الـ 1000، أما في السبعينيات فقد انخفض المعدل قليلاً إلى 46 في الـ 1000، مشيراً إلى أن معدل الإنجاب شهد انتكاسة خلال عقد التسعينيات فبلغ 23 في الـ 1000 عام 1994، وتواصل حتى بداية الألفية بسبب الحصار الاقتصادي الذي فرض على البلاد عام 1988 واستمر ثمانية أعوام، مؤكداً أن نسبة الإنجاب "عادت للانتعاش بعد انتهاء الحصار الاقتصادي".
وتدعو السياسات السكانية في ليبيا إلى زيادة الإنجاب عبر تخصيص علاوة للمواليد تبلغ 100 دينار (20 دولاراً أميركياً) للمولود الواحد كل شهر، إضافة إلى منح تشجيع الشباب على الزواج والإنجاب ومجانية التعليم الذي تضمنه الدولة الليبية.
المتخصص في علم الاجتماع ناصر شماطة أكد أن ليبيا تفتقر إلى دراسات وطنية دقيقة متخصصة في عدد السكان ونسب الخصوبة، وقال إن "زيادة الإنجاب مهما ارتفعت فهي لا تكاد تلاحظ نظراً إلى اتساع مساحة الدولة الليبية، والإنجاب لا يزال يحتكم إلى قانون العادات والتقاليد"، منوهاً إلى أن الارتفاع في المستوى التعليمي أسهم في تأخر سن الزواج، ومطالباً بزيادة الإنجاب شرط توافر ظروف اقتصادية مناسبة حتى تتجنب ليبيا المعاناة من الفراغ السكاني في عدد من المناطق الليبية، وتسقط بذلك في فخ التوطين.
وترتبط طفرة الإنجاب عادة بأسباب اقتصادية واجتماعية ودينية وسياسية عدة، غير أن أستاذ علم الاجتماع في جامعة بني الوليد الليبية الطاهر سعد يرى أن الإنجاب في ليبيا يحتكم بالأساس إلى عوامل دينية وأخرى اجتماعية، مؤكداً أن زيادة الانجاب أمر مرغوب ومطلوب لمنع انقراض النوع الإنساني عند بعض الشعوب التي تباد وتشهد حروباً، ومؤكداً أنه لا وجود لسياسة رسمية معلن عنها في ليبيا حول دوافع الإنجاب وتنظيمه أو الحد منه، بل هي قضية وعي جمعي، ولا يوجد ترتيب معين لدوافع الإنجاب فلكل أسرة ليبية رؤيتها ومبرراتها.
لا تعاني ليبيا انحداراً في الإنجاب ومعظم الأسر تراه مبعثاً للفخر والفحولة والخصوبة سواء بالنسبة إلى الرجل أو المرأة
وأوضح المتخصص في علم الاجتماع أن الإنجاب في ليبيا مرتبط في المقام الأول بالبعد الديني، وهو الموجه الأول في ما يتعلق بهذا الموضوع عند كثير من الليبيين، فالإنجاب في ثقافتهم هو "خلق والخلق لله وليس للبشر، ويرتبط بالرزق والرزق في السماء عند الله، فلماذا الخوف؟".
وفي ما يتعلق بالدافع الاجتماعي أكد سعد أن معظم الأسر الليبية ترى الإنجاب مبعثاً للفخر والفحولة والخصوبة، سواء بالنسبة إلى الرجل أو المرأة، مؤكداً أن قضية الإنجاب تربط اجتماعياً بمنزلة ومكانة الأسرة والزوج والزوجة في المجتمعات التقليدية، إذ تزداد وترتفع بزيادة عدد المواليد والعكس صحيح.
وفي ما يتعلق بتشجيع الدولة الليبية على الزواج والإنجاب لتعويض الفئة العمرية التي فقدت في الحرب، استبعد المتحدث ذاته هذه الفرضية، كما نفى أن يكون الدافع اقتصادياً للحصول على المنح المالية المخصصة للأسر، منوهاً بأن الإكثار من الإنجاب أيضاً لا يرتبط بالخوف من توطين الأجانب في ليبيا لأن هناك مواضيع لا يحددها الكم بل يحددها الكيف، وفق تعبيره.