فتحت الهجمات التي قادها المتطرفون ذرائع الهيمنة للقوى الأجنبية في المنطقة (اندبندنت عربية)
إذا سألت عن عدو جماعات الإسلام السياسي المركزي فإن الجواب المعروف الغرب، ولا سيما أميركا بوصفها "رأس الأفعى" بتعبير بن لادن والمتطرفين السنة، "والشيطان الأكبر" بالنسبة إلى نظرائهم الشيعة وعلى رأسهم الخميني. غير أن اللافت أن معارك التنظيمات المتناسلة عن ذلك التيار جميعها تبيض ذهباً في السلة الأميركية لأسباب لا تزال غير مفهومة، على رغم مضي نحو قرن من الصراع بين الجانبين.
وإذا كان لكل حرب أهداف، فإن تنظيرات قادة التنظيمات كانت صريحة في أنها تستهدف طرد أميركا من المنطقة، وإفساد علاقتها بالدول العربية والإسلامية، وجعلها تدفع ثمن التحاف مع إسرائيل التي تحتل فلسطين، بما يقنعها بالتخلي عنها. وفي سبيل ذلك كانت أحداث الـ11 من سبتمبر (أيلول) وحروب "القاعدة" و"داعش"، وقبلها الثورة الإسلامية في إيران وأدواتها مثل "حزب الله" والحشد الشعبي والحوثي، وما سمى "محور المقاومة" أخيراً بكل خريطته وأطيافه.
لكن الذي حدث أن تلك المعارك رسخت أقدام واشنطن في الإقليم، وجعلتها أكثر تصميماً على الوجود فيه، لبسط نفوذها وحماية حلفائها، إلى درجة دفعت الكاتب السعودي المتخصص في تاريخ تلك الجماعات وأيديولوجياتها يعد أن ذلك يعود في شق منه إلى أن "الغرب هو الممسك بخيوطها والموجه"، من حيث تدري تلك الجماعات ولا تدري، مشيراً في هذا الصدد إلى العلاقة الأولى بين الجماعة الأم (الإخوان المسلمين) بالإنجليز حين التنشئة.
خدمة مجانية للعدو
بينما أعاد الجانب الآخر من التناقض بين الأهداف المعلنة للتيار ونتائج معاركه على الأرض إلى قصر النظر والجهل بالسياسة، وفنون إدارة الأزمات المعقدة.
وقال "جماعات الإسلام السياسي من أكثر التيارات فشلاً في السياسة وجرأة على اقتحامها دون وعي ولا رؤية، والنماذج كثيرة ومتعددة وبعضها قريب العهد إبان ما كان يعرف بـ"الربيع العربي"، ثم إنهم بسبب انتشار خطابهم وتفشي أتباعهم لا ينجحون إلا في المزايدة فحسب، وأخطر من هذا أنهم يشكلون تياراً سياسياً لا يُستهان بتأثيره ولا يمكن التقليل من دوره".
وقد يكون هذا الذي حمل أحد أقطاب التيار الفكرية الراحل محمد الغزالي إلى القول في ما ينسب إليه "ليس من الضروري أن تكون عميلاً لكي تخدم عدوك، يكفيك أن تكون غبياً"، في إشارة إلى تراكم الأخطاء الفادحة بين الإسلامويين، إلى حد يراها بعض في ثوب أفعال العملاء، لشدة إضرارها بالأهداف التي يدعون خدمتها.
وفي هذا الصدد لفت الكاتب السعودي الكبير عبدالرحمن الراشد إلى أن هجمات السابع من أكتوبر قدمت لإسرائيل أفضل مما توقعت، حتى إنه لو كان من أنصار نظرية المؤامرة لاتهم السنوار بأن الشاباك تمكن من تجنيده فترة بقائه الطويلة في السجون الإسرائيلية ضد قضيته!
على رغم ذلك تشير أدبيات التنظيمات الأصولية، ولا سيما الجهادية، إلى أن الطرد سيكون تالياً بعد مرحلة طويلة من الاستنزاف للقوى الغربية، إذ يؤصل مؤسس تنظيم "القاعدة" أسامة بن لادن لاستراتيجية استدراج واشنطن إلى رد فعل يدفع للنقمة عليها إسلامياً وعربياً من جهة، وتشتيت جهودها لتواجه مقاومة في مختلف مواقع وجودها من جهة أخرى، حتى تنهك وتكف عن التدخل في شؤون العالم الإسلامي ودعم إسرائيل، على حد المزاعم التي يروج لها أنصاره.
يهدأ الغبار فتظهر الحقائق
بيد أنه عند مراجعة المكاسب، نجدها حتى في أفغانستان التي احتفل التيار بطرد الأميركيين منها، استغرق الأمر طويلاً واستدعى تضحيات قاسية يمكن تجنبها لو أن "القاعدة" لم تقم بسحق أبراج منهاتن، وكذلك قيل عن "طوفان الأقصى" إذ كان الدمار الذي أعقبها بفعل بطش إسرائيل، ليس وارداً لولا قيام رجل "حماس" المتشنج محمد السنوار بحملته الانتقامية ضد إسرائيل، التي جاءت تل أبيب وربما واشنطن أيضاً على طبق من ذهب، إذ وجدت فيها الذريعة لسحق "حماس" و"حزب الله" وبيئتهما، وكل محور إيران من دمشق إلى العراق وصنعاء وطهران نفسها.
وظهر أخيراً موسى أبو مرزوق، أحد قياديي حركة "حماس" في مقابلة مع صحيفة "نيويورك تايمز" يدعي أنه لم يكن ليؤيد "هجوم السابع من أكتوبر" لو كان يعلم بالدمار الذي سيلحقه بغزة، وإن هناك استعداداً داخل حركته للتفاوض في شأن مستقبل أسلحتها في غزة. لكن ناطقاً رسمياً باسم الحركة قال إن التصريحات "لا تمثل موقف الحركة المتمسكة بسلاحها، وتعد الهجوم نقطة فارقة في تاريخ كل الشعوب المحتلة".
ولهذا تقول مجلة السياسة الخارجية الأميركية "عندما يهدأ الغبار فإن ما ستستخلصه بعض الدول من الحرب سيكون في اتجاه معاكس تماماً، إذ من المرجح أن ترى القوى الإقليمية أن خلاصة ما حصل تفترض التعاون لمواجهة الشبكات المتنامية لإرهابيي إيران وميليشياتها وحلفائها، وهذا ناد لا يضم "حماس" و"حزب الله" وحسب بل أيضاً الحوثيين في اليمن والميليشيات الشيعية في العراق".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وفسر ذلك معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدنى على نحو أكثر صراحة، عندما طالبت ثلة من خبرائه واشنطن بعد حرب السابع من أكتوبر، بالعودة بتصميم أكبر إلى المنطقة "فالأحداث شكلت نقطة تحول ينبغي لها أن تسلط الضوء على الحقائق التي كثيراً ما يتم التغاضي عنها في ما يتصل بالشرق الأوسط، وأن ترغم صناع القرار السياسي في الولايات المتحدة على إعادة النظر في المفاهيم المسبقة في شأن المنطقة ودور أميركا ومصالحها فيه"، مشيرين إلى ضرورة عودة واشنطن بجدية إلى المنطقة بدل الانسحاب منها.
ومع أن نظرية المؤامرة ليست مستبعدة في سياقات الإقليم نحو صراع القوى المتجدد، إلا أن أحد أبرز العوامل المنطقية إزاء المشهد، هو استغلال أميركا أخطاء جماعات الإسلام السياسي والتنظيمات المتطرفة مثلما تستغل هي وسواها الظروف الدولية لتعزيز مصالحها، وليس فقط لتبرير تدخلاتها العسكرية، ولكن أيضاً لإعادة تشكيل الخريطة السياسية في المنطقة وفقاً لأجنداتها.
أين استفادت أميركا؟
كانت الهجمات الإرهابية التي نفذتها جماعات متطرفة، مثل أحداث الـ11 من سبتمبر 2001، بمثابة ذريعة رئيسة للولايات المتحدة لشن حروب واسعة في أفغانستان والعراق، تحت شعار "الحرب على الإرهاب". وهذه الأخطاء القاتلة للجماعات المتطرفة قدمت للولايات المتحدة المبررات السياسية والقانونية أمام العالم لاحتلال دول والتأثير في أنظمتها. ووفقاً لتقارير صادرة عن "مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية" (CSIS) و"معهد بروكينغز"، فإن هذه التدخلات صبت في مصلحة واشنطن لتعزيز وجودها العسكري في المنطقة. وأشار تقرير في "نيويورك تايمز" إلى أن "الولايات المتحدة استخدمت الهجمات الإرهابية كأداة لحشد الدعم الشعبي والعالمي لحروبها في الشرق الأوسط"، خصوصاً حرب العراق، التي انكشف خلال وقت مبكر أن دوافعها لم تكن نزيهة.
التلاعب بالصراعات الداخلية
أسهمت الانقسامات داخل جماعات الإسلام السياسي، خصوصاً بعد ما يعرف بـ"الربيع العربي"، في خلق بيئة فوضوية استغلتها أميركا لدعم أطراف معينة على حساب أخرى. على سبيل المثال، دعمت واشنطن بعض الحركات الإسلامية في البداية، ثم تراجعت عن دعمها عندما بدأ نفوذ هذه الجماعات يشكل تهديداً للمصالح الأميركية والغربية. ووفقاً لتقارير منشورة في "فورين أفيرز" و"واشنطن بوست"، فإن الإدارة الأميركية كانت تلعب على التناقضات داخل هذه الجماعات لتعزيز نفوذها. وجاء في تقرير "واشنطن بوست" أن "الولايات المتحدة شجعت في البداية الحركات الإسلامية باعتبارها جزءاً من الديمقراطية الوليدة، لكنها سرعان ما تراجعت عندما وجدت أن هذه الجماعات قد تؤثر سلباً في استراتيجياتها الإقليمية".
إعادة رسم التحالفات الدولية
استخدمت الولايات المتحدة انتشار الجماعات المتطرفة كأداة لإقناع حلفائها في أوروبا والشرق الأوسط بضرورة التعاون معها عسكرياً واستخباراتياً. وساعدت هذه الجماعات واشنطن في الضغط على دول المنطقة لتوقيع اتفاقات أمنية وعسكرية تعزز النفوذ الأميركي. وتقارير صادرة عن "مجلس العلاقات الخارجية" (CFR) و"رويترز" أكدت أن الإرهاب كان سبباً رئيساً لتبرير إنشاء تحالفات عسكرية بقيادة أميركا.
إضعاف الدول المركزية
أدى نشاط الجماعات المتطرفة إلى إضعاف عدد من الدول المركزية مثل سوريا والعراق وليبيا، وهو ما سمح للولايات المتحدة بالتدخل إما مباشرة عبر العمليات العسكرية، أو عبر دعم بعض الفصائل بحجة محاربة الإرهاب. وبهذا، تمكنت واشنطن من فرض نفوذها بصورة أوسع وتقليص قدرة هذه الدول على اتخاذ قرارات مستقلة. تقارير "بي بي سي" و"غارديان" وثقت كيف أن التدخلات الأميركية غالباً ما جاءت بعد تصاعد تهديد الجماعات المتطرفة. وأوضح تقرير "غارديان" أن "التدخل الأميركي في سوريا والعراق كان نتيجة مباشرة لاستغلالها الفوضى الناجمة عن صعود الجماعات المتطرفة".
ولم يكن استغلال أميركا لأخطاء جماعات الإسلام السياسي والتطرف مجرد مصادفة، بل كان جزءاً من استراتيجية مدروسة تهدف إلى تعزيز النفوذ الأميركي في الشرق الأوسط والعالم. فبينما ترتكب هذه الجماعات أخطاء قاتلة تضعف استقرار المنطقة، تجد الولايات المتحدة في ذلك فرصة ذهبية لتنفيذ أجنداتها تحت غطاء مكافحة الإرهاب، مما يعيد تشكيل الخريطة السياسية بما يتناسب مع مصالحها.
المفارقة فشل واشنطن كذلك
لكن واشنطن هي الأخرى تحول الشرق الأوسط إلى مقبرة لطموحاتها، فلا يوازي فشل الجماعات إلا فشلها، فيما كان الخاسر الأكبر هو المنطقة وشعوبها التي ظلت رحى الحرب تطحن استقرارها وكل المقومات، كما أظهرت حرباً العراق وغزة بجلاء.
إذ يقر فيليب غوردون الذي كان مستشار الأمن القومي لنائبة الرئيس كامالا هاريس بفشل محاولات كل إدارة في تحقيق الاستقرار، في تحليل نشرته "فورين فيرز" الأميركية، سجل فيه على سبيل المثال أن كلينتون حاول تقريب الإسرائيليين والفلسطينيين عبر قمة كامب ديفيد عام 2000، بينما أدت حرب العراق تحت جورج دبليو بوش إلى تعزيز نفوذ إيران بعد هجمات الـ11 من سبتمبر. وسعى أوباما لاستغلال الربيع العربي بتوقيع اتفاق نووي مع طهران، إلا أن الانقلابات والثورات أهدمت تطلعاته. وفي محاولة لتقليل التهديد الإيراني، اتخذ ترمب خطوات مثل انسحاب الاتفاق النووي وقتل قاسم سليماني، لكنها أدت إلى توسيع البرنامج النووي الإيراني، فيما ركز بايدن على تحقيق الاستقرار، إلا أن تداعيات هجمات "حماس" على إسرائيل وحرب غزة أبرزت فشل هذه المحاولات.
وخلص بعد ذلك إلى أن تاريخاً كهذا "إذا كان هناك شيء قد أثبتته خلال الأعوام الـ30 الماضية فهو أن الشرق الأوسط لا يمكن تجاهله على الإطلاق، وهو لا يكف عن مفاجأة الجميع ومهما بدا الوضع سيئاً فإنه قد يزداد سوءاً دائماً".
لكل ذلك ترى طائفة من المراقبين، أنه ما من سبيل إلى النجاة أفضل من استعادة المنطقة عبر القوى الفاعلة فيها زمام المبادرة، وقيادة خياراتها بنفسها بعيداً من أهواء الإسلاميين ومطامح القوى الأجنبية (إسرائيل وأميركا وإيران)، التي توظف تلك الأهواء ذرائع لمزيد من إنهاك الدولة العربية بالحروب والشرور.