تلك أيام رمضان السعيدة في الأرياف الفقيرة

آخر تحديث 2025-03-06 03:00:05 - المصدر: اندبندنت عربية

تمضي أيام رمضان بصورة عادية جداً ومميزة في الوقت نفسه (اندبندنت عربية)

تغيرت أحوال الناس كثيراً من فعل جريان نهر التاريخ العنيف، ولا أحد يمكنه أن يقف في وجه هذا الزحف الجارف، لكن وعلى رغم الانقلابات العميقة والجذرية فينا ومن حولنا فهناك أشياء تظل عالقة في الذاكرة كبقع ضوئية إيجابية تلمع في ليل داكن، فيتشبث بها الشخص ويشعر بها كطاقة إيجابية في حياته، ومن بين هذه الأشياء التي لا تبلى ولا تحول وهج الطفولة والحب الأول وشهر رمضان.

اليوم المدن الإسلامية الكبرى والصغرى والقرى، من الشرق الأوسط حتى شمال أفريقيا، من بغداد إلى نواكشوط مروراً بدمشق والقاهرة وتونس والجزائر ووهران وفاس وغيرها، كلها أصبحت تعيش على إيقاع واحد من أول يوم من أيام شهر رمضان المبارك، إنه إيقاع الاستهلاك والجشع والكسل.

أتأمل يوميات الصائم في بلداننا الإسلامية جميعها فلا أجد فيها من علامات الإيمان إلا الجوع، والجوع هنا بمعناه المادي البطني فقط، أي الامتناع من الأكل، كل شيء من حولنا يدور حول الأكل والتسلية في اللغة والسلوك والتوقيت، والكل يجري مهووساً مدفوعاً بهاجس الأكل والتسلية.

لقد تحولت بلاتوهات القنوات التلفزيونية كلها إما إلى مطابخ مفتوحة تحت الكاميرات، حيث حصص الطبخ يقدمها رجال ونساء من كل الأعمار، بيض مفقوس وحليب مصبوب فوق دقيق وسكر وزيت ولحم، وطبخات مبتذلة وحديث بائس ووصلات إعلانية لشركات تعرض بغباء ماركات موادها، وأصبح سباق برامج هذه القنوات على المسلسلات التي كالطبخات بلا طعم ولا ذكاء، وقنوات أخرى تعرض برامج لما يسمى بالكاميرا الخفية لا تضحك إلا مخرجها.

في الشارع السائق يقود بجنون، يسب عابراً على اليمين وزبوناً على اليسار، وفي رمضان، وبحجة أنه رمضان، يصل العامل إلى مكتبه أو ورشته عند الـ 10 في حال "نصف نائم"، ويغادر قبل الثانية زوالاً في حال "نصف صاح"، وكل من يراجع هذه الإدارة وهذا الإداري للاستفسار عن مصير ملف معين يسمع الرد في شكل العبارة التالية "نشرب رشفة ماء ونعود للملف"، وهو يقصد بكلامه هذا أن عليك مراجعتنا بعد انقضاء شهر الصيام الكريم والمبارك.

الناس بلهفة غريبة يتسابقون على المخابز وكأن مجاعة الحرب العالمية الثانية قد ضربت البلاد ثانية، طوابير مخيفة تقف أمام بائع الزلابية بساعات قبل الأذان، والجميع يجمع ما يؤكل وما لا يؤكل وبكميات كبيرة وغريبة، والعين تأكل والبطن يأكل والتهافت يأكل والتنافس يأكل ورمضان كريم ومبارك.

في رمضان يتوقف الشأن الثقافي وكأن الثقافة من المفطرات، وكأن رمضان الكريم شهر ضد الأدب والفكر والنقاش والشعر والفن التشكيلي، وتعلو في مثل هذه الأيام ثقافة فولكلورية مسطحة مركزها الفن البائت مع وجوه يتكرر حضورها كل عام وبالطريقة نفسها، حتى إن بعض الوجوه لا تظهر إلا في رمضان المبارك.

حين نشهد ونشاهد هذا الانحدار نحو هاوية اللهفة والجشع السحيقين والخمول الخطر بكثير من النوستالجيا الإيجابية، يستعيد الواحد منا يوميات رمضان في زمن البساطة والجد والإيمان الصادق،

فقبل أعوام خلت كان الناس في القرى والمدن، على حد سواء، يستقبلون رمضان لفرح تملأه البساطة، ومنذ اليوم الذي يسبق ليلة الشك تقوم الأم بالتعاون مع الجارة بترتيب بيتيهما فتعزف الغرف، أي تغسل وتنظف، ويجري إخراج الموائد الخاصة برمضان، وهي عادة طاولات تستعمل خصوصاً في الأعراس والحفلات العائلية الأخرى، وكأن رمضان عريس يجب الاحتفاء به أو زائر يجب استقباله بما يليق به من طقوس الضيافة، وبكثير من الحس الفني والافتخار تُخرج أمي من درج الدولاب المقفل بمفتاح لا يغادر صدرها طاقم القهوة الخزفي الذي ورثته من أمها، فناجين جميلة عليها رسومات بديعة، طيور أو طواويس أو أشجار أو أنهار، وتُخرج أيضاً صحوناً وطقم الـ "غراريف" المصنوعة من الفخار الخاصة بـ "الحريرة" أو الشوربة، ولرمضان فراشه، ليس بالثري ولكنه خاص.

من أول يوم في رمضان يبدو البيت في حلة جديدة لكنها بسيطة جداً، حيث الأشياء والأثاث مرتب بأنامل سخية في الجمال والعطاء والقناعة، وهي الحال التي تجعل الصائم المؤمن يدخل أجواء رمضان بنفس جديدة لكنها ليست غريبة عن واقعها ولا مستلبة.

لم يكن الصائمون والصائمات في قرانا ومداشرنا ومدننا يتوقفون كثيراً عند مسألة الأكل في أحاديثهم، لا عن النوع ولا عن الكم، يقع بعض التغيير في توقيت طهي الخبز حتى يكون جاهزاً ساخناً قبل المغرب بوقت قصير، ولقهوة المغرب طعم خاص، ربما يعود ذلك لأن القهوة تحمص فوق طاجين طهي الخبز، وتدق في مهراس أمي الذي تخرجه من مكانه السري.

لا أذكر أنني سمعت الناس يوماً يتحدثون عن ارتفاع الأسعار وندرة في المواد وتوقف فلاح عن الحرث على رغم أن الوسائل المستعملة كانت تقليدية، محراث وحمار أو بغل يسحب سكته المغروسة داخل الأرض الصلبة، ولا عن بناء غادر سوره باكراً من التعب، ولم أسمع عاملاً أو موظفاً يشكو الحر أو البرد أو الجوع، فالناس في مواقعهم بسلام والأسعار في سلمها بسلام أيضاً.

كان والدي يغير من عادة قراءته قليلاً، وقبل حلول شهر رمضان يُحضر بعض الكتب المرتبطة بقصص الأنبياء وأخرى، يقرأ يومياً قليلاً من "صحيح البخاري" و"صحيح مسلم"، ويقرأ من مواقف الأمير عبدالقادر أطرافاً، وأفضل أوقات القراءة عنده كانت قبل آذان المغرب بساعتين تقريباً، ما قبل وحتى ما قبل المغرب، أما أنا فكنت مغرماً في شهر رمضان بقراءة روايات جرجي زيدان التاريخية، وأذكر أنني قرأت تسع روايات له في واحد من رمضان دشرتنا، وكنت أقرأ توفيق الحكيم إذ تثيرني مسرحياته الذهنية والفلسفية، ومصطفى لطفي المنفلوطي وجبران خليل جبران، وكنت أقرأ أيضاً كتباً وروايات باللغة الفرنسية من روايات ألكسندر دوماس الأب وبلزاك وماكسيم غوركي وزولا وغيرهم، ولم تكن هذه القراءة بهذه اللغة تثير حفيظة والدي أو أمي.

كان الناس من حولي من أبناء الدشرة مؤمنين بطريقة داخلية عميقة، ولم تكن المظاهر الدينية تستهويهم، كان الناس يعيشون في الدين لا في التدين المظهري، الناس الذين عرفتهم في المداشر المتلاصقة والقرى المتناثرة كانوا يحترمون بعضهم بعضاً على قاعدة السلوك وصدق نيات القلوب، ولم يكن في القرية إلا أبي له ساعة جيب وعمي ساعة يد، ولم يكن هناك منبه في البيت، ومع ذلك كان الجميع يقيمون الصلاة في وقتها ويفطرون ويمسكون في الوقت المناسب.

في دشرتنا كان لنا مصلى واحد وهو عبارة عن غرفة صلاة كبيرة بنافذة واحدة وفتحة للتهوية، ولم يكن فيها لا مكبر صوت ولا كهرباء، توقد فيها الشموع أو مصباح البترول.

قبل موعد رفع الأذان ببضع دقائق كنا نتجمع، نحن الأطفال، عند السور الخارجي لبيتنا في الدشرة، ومن هناك نراقب القرية المركزية الوحيدة التي دخلتها الكهرباء وهي على بعد كيلومترات عدة، وما إن تضاء مصابيح أعمدة الإنارة العمومية واحدة بعد الأخرى حتى ترتفع أصواتنا دفعة واحدة: المغرب، المغرب، المغرب، وعلى الفور يرتفع الأذان من مسجد هذه القرية عبر مكبر الصوت الوحيد في الناحية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ومع ذلك كان أبي يؤذن في مصلى الدشرة على دقة ساعته، يقف على بعد بضعة أمتار من باب المصلى، ومن دون مكبر صوت يرفع الأذان بصوته الجميل وهو يغطي أذنيه براحتي كفيه، وكنت في كل مرة أراه يؤذن أتساءل: لماذا يغطي أذنيه براحتي كفه؟ ما علاقة الصوت بالأذن؟

كان هناك بعض الأقارب ممن يصلي خلفه صلاة المغرب، ومرات كان يصلي وحده، وحين يعود للبيت الذي لم يكن يبعد عن المصلى سوى بضعة مئات من الأمتار يجدنا جالسين محلقين حول المائدة في انتظاره، كانت أمي تمنعنا من أن نفطر قبل وصول والدي، ولم يكن أحد ليخرق هذا المنع، وكان والدي سريع الصلاة ومخففاً فيها، وحين يصل يجلس في مكانه المعتاد في الوسط، يأخذ حبة تمر ومثله نفعل جميعنا، وما أذكره من حركة والدي وهو يرفع التمرة إلى فمه المفتوح قليلاً هو لون أسنانه البيضاء المرتبة بشكل جميل.

تمضي أيام رمضان بصورة عادية جداً ومميزة في الوقت نفسه يتغير إيقاع الصوم في ليلة النصف منه، ويحدث تغيير ثان مع حلول ليلة الـ 27 منه، كانت ليلة القدر مميزة بصوت والدي وهو يرتل القرآن بصوت عال رخيم في قراءة مغربية مدهشة وحنونة، وكانت أمي وأخواتي وعماتي وأعمامي وأبناء وبنات الأعمام يجلسون من حوله، وكنا نشرب الشاي ونسمع الترتيل بخشوع، وحين يتعب والدي يتوقف لبضع دقائق تقدم له أمي كأس شاي منعنع وملعقة من العسل البلدي الحر الذي يجهز لهذه الليلة ولهذه القراءة المباركة.

وقبل انتهاء شهر رمضان بيوم أو يومين وبكثير من البساطة ومن دون لهفة، يشتري الآباء للصغار من البنات والأطفال ألبسة جديدة للعيد وتحضر النساء بصورة جماعية صحوناً من الكعك وأخرى من "كعب غزال"، وفي صباح العيد يحضر "المسمن" وتتبادل النساء بعض صحون هذه الحلوى المتشابهة، ورمضان مبارك ومبارك العيد.

هكذا ينتهي رمضان، وفي ثاني أيام العيد ترفع الموائد التي أنزلت ليلة الشك وتعاد أطقم الفناجين و"الغراريف" والصحون الخزفية والفخارية لأماكنها في الدولاب اللوحي، ويرفع الفراش الرمضاني وينزل فراش الإفطار ويعود الناس لحياتهم كما قبل رمضان، من دون ديون ولا أمراض ولا أعصاب ولا سكر زائد.