المساعدة الأميركية الأمثل لسوريا هي الانسحاب منها

آخر تحديث 2025-03-14 14:00:07 - المصدر: اندبندنت عربية
المساعدة الأميركية الأمثل لسوريا هي الانسحاب منها

جندي أميركي قرب القامشلي، سوريا، فبراير 2024 (رويترز)

نشرت مجلة "فورين أفيرز" مقالة بقلم السفير الأميركي السابق في سوريا، روبرت فورد قبل إبرام الاتفاق بين الحكومة السورية وقوات "قسد"، وأبرز ما جاء به هو الدعوة إلى سحب القوات الأميركية من سوريا. وتنشر اندبندنت عربية المقال هذا نظراً لأهميته. فهل يعبد هذا الاتفاق الطريق أمام الانسحاب الأميركي من سوريا؟ وفيما يلي نص المقال:

 

انتهت الحرب الأهلية السورية التي دامت 13 عاماً بصورة مفاجئة في ديسمبر (كانون الأول) الماضي، عندما اجتاحت قوات تابعة للجماعة الإسلامية المسلحة "هيئة تحرير الشام" مناطق الجنوب انطلاقاً من معاقلها شمال غربي البلاد، مما أدى إلى سقوط حكومة الرئيس بشار الأسد. وخلال أسابيع قليلة، انتهى نظام استمر ستة عقود. واليوم تتولى "هيئة تحرير الشام" بقيادة أحمد الشرع البراغماتي إدارة الحكومة السورية الموقتة، وهي في طريقها لرئاسة حكومة انتقالية سيُعلن عنها خلال الربيع. ولا يزال من غير المؤكد كيف سيتمكن الشرع من توحيد بلد متنوع ومنقسم، وما إذا كان سيكبح العناصر المتشددة داخل "هيئة تحرير الشام"، وما إذا كان سينجح في كسب دعم المجتمعات السورية الأخرى في حال تبنى نهجاً أكثر اعتدالاً وشمولية.

ومن بين الشكوك التي تواجه سوريا مستقبل الدور الأميركي داخل البلاد. فمنذ عام 2014 دعمت واشنطن حكومة ذاتية الحكم، بحكم الأمر الواقع، في شمال شرقي سوريا، تشكلت بصورة رئيسة - ولكن ليس حصرياً - من فصائل كردية. واستفادت هذه القوات التي تعمل تحت راية "قوات سوريا الديمقراطية" من الفوضى التي أطلقتها الحرب الأهلية السورية، لتشكيل كيان شبه مستقل على الحدود مع تركيا. وخاضت "قوات سوريا الديمقراطية" معارك ضد قوات الأسد والجيش التركي والميليشيات المدعومة من أنقرة، فضلاً عن جماعات مرتبطة بالقاعدة، وبخاصة تنظيم "الدولة الإسلامية" (داعش). وعملت القوات الأميركية من كثب مع "قوات سوريا الديمقراطية" لطرد "داعش" من آخر معاقله داخل سوريا. ولا تزال الولايات المتحدة تحتفظ بنحو 2000 جندي إضافة إلى متعاقدين، في نحو 12 موقعاً وقاعدة صغيرة في شرق سوريا لدعم جهود "قوات سوريا الديمقراطية" في القضاء على "داعش" وردع الهجمات التركية.

وعلى رغم هذا الدعم، لا يزال "داعش" نشطاً في سوريا. ومع انهيار نظام الأسد يمكن للولايات المتحدة أن تختار العمل مع شريك جديد من المرجح أن يكون أكثر نفوذاً وفعالية في مكافحة فلول "داعش"، الحكومة السورية الجديدة في دمشق. فمن شأن تعاون أكبر سواء كان مباشراً أو غير مباشر مع هذه الحكومة الناشئة أن يعزز الأمن الإقليمي، ويساعد في إنهاء القتال المستمر في شرق سوريا، ويسمح للولايات المتحدة بتقليل مواردها المخصصة لهذا الملف. وكثيراً ما أعرب الرئيس دونالد ترمب عن استيائه من تورط أميركا في النزاعات الخارجية، لا سيما داخل الشرق الأوسط. لذا، فإن الشراكة مع الحكومة الانتقالية الجديدة في دمشق ستتيح للولايات المتحدة الخروج من سوريا وفق شروطها الخاصة.

الأداة الخاطئة

يرى عدد من المسؤولين والمحللين الأميركيين أن الإدارة الذاتية في شمال شرقي سوريا تمثل شريكاً موثوقاً لضمان ما تأمل واشنطن أن يكون "الهزيمة النهائية" لتنظيم "داعش" داخل البلاد. إلا أن قوات سوريا الديمقراطية الجناح العسكري لهذه الإدارة، فشلت في القضاء على هذا التنظيم الإرهابي الإسلاموي. فبعد ستة أعوام من سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على آخر معقل لتنظيم "داعش" في سوريا، لا يزال مقاتلو التنظيم الإرهابي المذكور ينشطون في وسط سوريا وشرقها. وفي السياق عينه أثارت تصرفات قوات سوريا الديمقراطية استياء المجتمعات العربية المحلية، إذ تخضع هذه القوات لسيطرة مشددة من الميليشيات الكردية المعروفة باسم "وحدات حماية الشعب" YPG، والتي ارتكبت عمليات قتل خارج نطاق القضاء والقانون ونفذت عمليات اعتقال غير مشروعة بحق مدنيين عرب، وابتزت عرباً كانوا يحاولون الوصول إلى معلومات عن أقارب معتقلين أو يسعون إلى لإفراج عنهم، وأجبرت الشباب العرب على الانضمام إلى صفوفها، وحرفت النظام التعليمي ليتماشى مع الأجندة السياسية لـ"وحدات حماية الشعب"، وجندت مقاتلين أكراداً غير سوريين. ودفعت هذه الممارسات بعض السكان المحليين إلى أحضان "داعش". وبالطبع، فإن هذه التجاوزات تبدو ضئيلة مقارنة بجرائم نظام الأسد، لكنها تسببت باحتكاك كبير مع السكان العرب خصوصاً في المناطق التي تعمل فيها قوات سوريا الديمقراطية تحت قيادة "وحدات حماية الشعب".

وتواجه "قوات سوريا الديمقراطية" تحدياً آخر يتمثل في العداء المستمر بين تركيا و"وحدات حماية الشعب"، حيث تشن "وحدات حماية الشعب" هجمات بين الحين والآخر على مواقع تركية في سوريا وداخل تركيا نفسها، مما يعزز الرؤية التركية القديمة التي تعد هذه الوحدات جماعة إرهابية. وفي المقابل، تستهدف القوات العسكرية التركية والميليشيات السورية المدعومة من أنقرة "وحدات حماية الشعب" بصورة متكررة شمال سوريا. وهذا النزاع يصرف انتباه وموارد "قوات سوريا الديمقراطية" عن محاربة "داعش" في الجنوب.

ممارسات قوات سوريا الديمقراطية أثارت الاستياء في أوساط السكان العرب

 

في أواخر فبراير (شباط) الماضي قام زعيم كردي بارز بالدعوة إلى وقف إطلاق نار مع تركيا. هذا الزعيم هو عبدالله أوجلان زعيم حزب العمال الكردستاني المعروف بـ"بي كي كي" – الميليشيات الكردية المسلحة المرتبطة بـ"وحدات حماية الشعب"، والتي تقاتل الحكومة التركية منذ فترة طويلة. أوجلان دعا المقاتلين الموالين له إلى إلقاء أسلحتهم ووقف شن الهجمات ضد تركيا. إلا أن قادة "وحدات حماية الشعب" رفضوا دعوة أوجلان، مصرين على أنها لا تشمل قواتهم. من جهتها، لا تزال تركيا غير مستعدة لتغيير سياستها أو قبول قيام منطقة كردية ذاتية الحكم في سوريا تلعب فيها "وحدات حماية الشعب" دوراً محورياً. ومنذ إدارة الرئيس باراك أوباما، حاولت الإدارات الأميركية الموازنة بين دعم الميليشيات الكردية السورية في قتال "داعش"، وبين استيعاب مخاوف أنقرة ورغبتها في استهداف قادة "وحدات حماية الشعب" ومقاتليها والمجتمعات الكردية السورية التي تحتضنهم.

هذه المظلة العسكرية الأميركية التي تحمي "وحدات حماية الشعب" من الهجمات التركية شرق سوريا جعلت الوحدات والإدارة الذاتية التي أنشأتها ترفض أية تسوية مع تركيا أو الحكومة الجديدة في دمشق. ونتيجة لهذا الوضع، بات لتنظيم "داعش" مساحة أكبر للعمل مما يكرس حال حرب لا نهاية لها.

وللحفاظ على الشراكة مع "قوات سوريا الديمقراطية" ستحتاج إدارة ترمب إلى دعم الجماعات الكردية بمعاركها المستقبلية ضد تركيا. بين عامي 2023 و2024، قامت إدارة بايدن بهدوء بمضاعفة عدد القوات الأميركية في شرق سوريا ليصل إلى نحو 2000 جندي، وذلك جزئياً لتمكين القوات الأميركية من توسيع دورياتها غرباً على طول الحدود التركية لتشمل بلدات مهمة مثل كوباني، التي لا تشهد نشاطاً لـ"داعش" لكنها تواجه ضغوطاً تركية. وخلال ديسمبر (كانون الأول) وبينما كان المتمردون السوريون يطيحون نظام الأسد، هاجمت ميليشيات متحالفة مع تركيا وطائرات مسيرة تركية مواقع كردية قرب كوباني. ومع وجود 2000 جندي أميركي منتشرين بالفعل، لن يكون ترمب في حاجة إلى إرسال مزيد من القوات الأميركية كحاجز أمام غزو بري تركي، لكنه سيحتاج إلى دعم الأكراد بمزيد من التمويل. وتعتمد "قوات سوريا الديمقراطية" على واشنطن لدفع الرواتب وتأمين المعدات والتدريب، وستصبح هذه الحاجة أكثر إلحاحاً الآن، إذ باتت تركيا أكثر حرية في التركيز على الإدارة الكردية الذاتية التي تقودها "وحدات حماية الشعب". ومع سقوط الأسد خصم أنقرة في دمشق، ستوجه أنقرة انتباهها أكثر نحو هذه الإدارة الكردية على حدودها الجنوبية.

وفي خضم هذا المستنقع من العداوات الكردية - التركية، من السهل نسيان السبب الذي دفع الولايات المتحدة إلى التدخل في هذه المنطقة من سوريا في المقام الأول، وهو القضاء على داعش. ولم يكن الهدف الأميركي أبداً نشر قوات في شرق سوريا للدفاع عن كيان كردي ناشئ تقوده ميليشيات كردية كانت مغمورة سابقاً. تبني هذا الهدف الآن سيمثل انحرافاً كبيراً عن المهمة الأصلية. كما أن "قوات سوريا الديمقراطية"، بسبب هويتها وطريقة عملها، أثارت غضب المجتمعات المحلية (العربية تحديداً) والحكومة التركية على حد سواء. لقد سبق لهذه القوات خلال الحرب التقليدية ضد "داعش" أن شكلت أداة مفيدة للمساعدة في استعادة المناطق التي وقعت تحت سيطرة ما سمي بقوات "الخلافة". لكن في الحرب لكسب قلوب وعقول المناطق العربية في شرق سوريا – التي ما زال "داعش" يجند في أوساطها – فإن قوات سوريا الديمقراطية بالتأكيد ليست أداة مناسبة.      

الطريق عبر دمشق

يمكن للولايات المتحدة بدل الاعتماد على قوات سوريا الديمقراطية، أن تلجأ للحكومة الجديدة في دمشق للمساعدة والتعاون في القضاء على "داعش". وهذا ظاهرياً وللوهلة الأولى قد يبدو اقتراحاً غريباً. فالولايات المتحدة تعد "هيئة تحرير الشام"، الميليشيات التي أطاحت الأسد وتقود الحكومة السورية راهناً، جماعة إرهابية، بيد أن هذا التصنيف إياه لم يمنع واشنطن من التعاون والعمل من كثب مع "وحدات حماية الشعب" المقربة من حزب العمال الكردستاني، الذي هو أيضاً جماعة إرهابية وفق تصنيف الولايات المتحدة. ومن المؤكد هنا أنه لا ينبغي التقليل من أهمية تشدد "هيئة تحرير الشام" وأيديولوجيتها العنفية. فأنا شخصياً حين كنت سفيراً للولايات المتحدة في سوريا قدت جهوداً أميركية في خريف عام 2012 لتصنيف جبهة النصرة، الجماعة المرتبطة بالقاعدة والتي انبثقت منها أخيراً "هيئة تحرير الشام" كمنظمة أجنبية إرهابية. وكان علينا خلال فبراير (شباط) 2012 إغلاق السفارة في دمشق بفعل تهديد حقيقي من هذه الجماعة. وخلال وقت لاحق قامت جبهة النصرة بسحق واستيعاب الجيش السوري الحر، التحالف الذي ضم متمردين مناهضين للأسد شمال سوريا دعمتهم وزارة الخارجية الأميركية ووكالة الاستخبارات المركزية. وقامت جبهة النصرة بمضايقة الأقليات المسيحية والعلوية خلال الأعوام الأولى من الحرب الأهلية. وقاد (أحمد) الشرع هذه الجماعة عبر تغييرات مختلفة بالأسماء والمظاهر، إلى أن رست على مسمى "هيئة تحرير الشام" خلال عام 2017. على أن كثراً داخل واشنطن يشككون في أن تكون الصيغة الجديدة لهذه الجماعة ابتعدت حقاً من الإرهاب، أو تخلت عن نظرتها الأيديولوجية المتشددة وغير المتسامحة تجاه العالم.

بيد أن الشرع يصر على خلاف ذلك. لقد أمضت جبهة النصرة التي أصبحت في ما بعد "هيئة تحرير الشام" أعواماً عديدة في محاولة إبعاد نفسها من الجماعات الإرهابية الإسلامية. والشرع نفسه انفصل عن "داعش" عام 2014، ثم خاض مقاتلوه معارك دامية ضد ذاك التنظيم (داعش)، متمكنين في نهاية المطاف من طرده من شمال غربي سوريا. وانفصل الشرع علناً عن تنظيم"القاعدة" عام 2016، وقاتلت قواته ضد جماعة مرتبطة بالقاعدة تعرف باسم "حراس الدين" شمال غربي سوريا. ولم تشن جبهة النصرة ولا "هيئة تحرير الشام" أية هجمات إرهابية بعد انشقاقهما عن تنظيمي "داعش" و"القاعدة"، كما أنهما قضيا على كل محاولة من قبل هذين التنظيمين لإعادة تأسيس وجودهما شمال غربي سوريا. ويمكن القول إن أفعال "هيئة تحرير الشام" على مدى الأعوام الثمانية الماضية تصعب تبرير إبقائها على القائمة الرسمية للمنظمات الإرهابية الأجنبية. كذلك حاولت "هيئة تحرير الشام" أيضاً تلميع صورتها أمام الرأي العام. فابتداءً من عام 2022 ودون التخلي عن هدفها المتمثل بتشكيل حكومة إسلامية في سوريا، بدأت بترميم بيوت المسيحيين وإعادة أراضيهم الزراعية المصادرة من قبل الميليشيات الإسلامية خلال أسوأ مراحل الحرب الأهلية شمال غربي سوريا. وقال لي قادة مسيحيون في إدلب خلال شهر سبتمبر (أيلول) 2023 إن معظم الأملاك تقريباً أعيدت لهم.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشير سجل الأفعال الحافل هذا إلى أن "هيئة تحرير الشام" وليس قوات سوريا الديمقراطية، هي من سيقوم على الأرجح بتقويض جاذبية "داعش" بأوساط مجتمعات معينة، لتتمكن في النهاية من استيعابه. لقد ألحق الشرع الهزيمة بـ"القاعدة" و"داعش" في شمال سوريا. والمناطق التي سيطر عليها خلال العقد الماضي كانت خالية من أنشطة "داعش". وفي حين تعاني قوات سوريا الديمقراطية حصاراً تركياً، تتمتع الحكومة التي تقودها "هيئة تحرير الشام" بدعم إقليمي متزايد، لا سيما من قبل تركيا. ولعل الأهم في هذا السياق أن بوسع الشرع وبسهولة أن يحوز دعم الجماعات والمناطق العربية شرق وشمال شرقي سوريا، التي يستمد تنظيم "داعش" مجنديه منها.

إلى هذا ستحتاج الحكومة الانتقالية السورية إلى تبني المجموعات العربية المقاتلة العاملة الآن بإمرة مباشرة من "وحدات حماية الشعب"، ووضعها تحت إشراف وزارة الدفاع الناشئة في دمشق. وبالتوازي سيتعين على حكومة دمشق أن تتوصل إلى صيغة تتولى بموجبها مسؤوليات الحكم في المناطق العربية بشرق سوريا، معفية قوات سوريا الديمقراطية من مسؤولياتها هناك. هذه الإجراءات ستثير استياء قوات سوريا الديمقراطية من دون شك، لكنها ستساعد سوريا وشركاءها الإقليميين في نهاية المطاف على إلحاق الهزيمة بـ"داعش".

وإدارة ترمب من جهتها تحتاج إلى فتح قناة تواصل مع الحكومة التي تقودها "هيئة تحرير الشام" لمناقشة الجهود المستقبلية لمواجهة "داعش". وينبغي أن يتضمن الحديث بين الطرفين موضوعات مثل كيفية انضمام الميليشيات العربية المحلية العاملة الآن تحت مظلة قوات سوريا الديمقراطية إلى حملة حكومة دمشق ضد "داعش"، ومسألة نشر قوات تابعة لحكومة دمشق في مناطق ما زال ينشط فيها التنظيم، والجدول الزمني لتلك الإجراءات. ويمكن للطرفين أن يناقشا أيضاً كيفية تبادل المعلومات الاستخباراتية بين سوريا والولايات المتحدة، إذ إن الاستخبارات الأميركية بالفعل ساعدت الشرع في إحباط هجوم لـ"داعش" في دمشق خلال يناير (كانون الثاني) الماضي. كذلك على النقاش بين الطرفين أن يتناول القضية الأصعب وهي مستقبل مخيمي الهول والروج حيث لا يزال هناك قرابة 40 ألف شخص مرتبطين بـ"داعش" معتقلين لدى قوات سوريا الديمقراطية. فالشرع لم يتسامح مع أي تحد سياسي من العناصر الإسلامية الأكثر تشدداً، وأدارت حكومته في شمال غربي سوريا برنامجاً محدوداً لمكافحة التطرف هناك، إلا أن حجم التحدي في الهول يتجاوز بدرجات كبيرة كل ما تعامل معه الشرع سابقاً.

لمساعدة حكومة دمشق على تحقيق الاستقرار في سوريا ومحاربة تنظيم "داعش"، سيتعين على واشنطن تخفيف العقوبات على سوريا. فإعادة بناء سوريا بعد التدمير الهائل الذي لحق بها جراء الحرب الأهلية المديدة قد يتطلب أكثر من 200 مليار دولار، وفق تقديرات البنك الدولي عام 2021. وسيحتاج السوريون إلى المساعدة الدولية والاستثمار الخاص، فيما العقوبات الأميركية بحق الأجانب الذين يمارسون الأعمال التجارية في سوريا ستؤدي إلى إعاقة تدفقات رأس المال والبضائع التي تحتاج البلاد إليها. ورجال الأعمال الذين التقيتهم في دمشق خلال يناير الماضي شددوا على القول إن الإعفاءات الموقتة التي اعتمدتها إدارة بايدن في ذلك الشهر بمجالات الطاقة والمساعدات الإنسانية لا تكفي بأية صورة من الصور، وذلك نظراً إلى حجم عمليات إعادة البناء المطلوبة. وإن كانت إدارة ترمب مترددة في إلغاء جميع العقوبات على سوريا، فيمكنها في الأقل البدء باعتماد إعفاء لمدة عام واحد قابل للتجديد على العقوبات التي تؤثر في قطاعات المال والبناء والهندسة والصحة، والتعليم، والنقل، والزراعة. وهذه الإجراءات لن تحمل وزارة الخزانة الأميركية أية تكاليف، فدول المنطقة وغيرها من أطراف مانحة ستقدم المساعدات المطلوبة إلى سوريا. لكن على العقوبات الثانوية الأميركية أن لا تمنع أولئك المانحين ومستثمري القطاع الخاص من المضي قدماً. من دون هذه الاستثمارات، ستبقى سوريا في حال شلل، غير قادرة على هزيمة "داعش"، تماماً كما كانت حكومة الأسد الضعيفة بين عامي 2017 و2024.

اتركوا مقود القيادة

إن الابتعاد من قوات سوريا الديمقراطية لمصلحة التقرب من الحكومة الجديدة في دمشق لا يحكم على الأكراد السوريين بمستقبل مظلم، إذ إن أمن المجتمعات الكردية وازدهارها لا يعتمد على قوى أجنبية، بل على احترام الحكومة السورية لحقوقهم وحقوق جميع المواطنين السوريين. ولا يزال من غير الواضح مدى استعداد "هيئة تحرير الشام" لإقامة ديمقراطية شاملة في سوريا. لكن من الواضح أن السوريين الذين يعيشون اليوم في ظل الحكومة الجديدة يتمتعون عموماً بحقوق سياسية وشخصية تفوق ما تمتعوا به منذ تولي حزب البعث السلطة عام 1963. وكنت خلال النصف الثاني من يناير الماضي قضيت 10 أيام في سوريا، من ضمنها أسبوع في دمشق. ومظاهر حرية التعبير بدت واضحة في كل مكان. في المقاهي، سوريون لا أعرفهم شعروا بالحرية في المشاركة بأحاديث ونقاشات سياسية وفي انتقاد الحكومة التي تديرها "هيئة تحرير الشام". كما أن الشرطة تركت التظاهرات الصغيرة التي قامت في دمشق دون مضايقات. وأقيمت زينة عيد الميلاد في الأحياء المسيحية بالمدينة القديمة، وقرعت أجراس الكنائس على نطاق واسع يوم الأحد. يشعر المسيحيون في دمشق بالتوتر، لكنهم أقروا بأن مخاوفهم لا تتعلق بسلوك "هيئة تحرير الشام"، بل نابعة من قلق تجاه خلفيتها الأيديولوجية.

لدى ترمب وجهة نظر محقة تتمثل بالابتعاد من الصيغ التوجيهية (التقريرية) تجاه التطور السياسي في سوريا. وغرد ترمب خلال الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، مباشرة بعد فرار الأسد من سوريا إلى روسيا، قائلاً إن مستقبل سوريا ليس مسألة تمليها الولايات المتحدة وتقررها. فالسوريون يحتاجون إلى دستور جديد، دستور ربما ينتهي الأمر به إلى استيعاب نمط من أنماط اللا مركزية والفيدرالية – وهذه سمات الدولة المستقبلية التي يحرص قادة قوات سوريا الديمقراطية وغيرهم من قادة الأقليات الأخرى في سوريا، على تأمينها وضمان تحققها. وصياغة هذا الدستور ستستغرق بالضرورة وقتاً طويلاً وستتطلب كثيراً من الصبر، إلا أن السوريين لن يتمكنوا من إجراء الانتخابات إلا عبر دستور قوي.

يمكن لواشنطن أن تتطلع للحكومة في دمشق للمساعدة في القضاء على "داعش"

 

ومن المهم أن نتذكر بالطبع . الانتخابات في سوريا سيكون لها فرصة أفضل لتعزيز الاستقرار الحقيقي والحكم الرشيد إن عملت الحكومة الانتقالية بالفعل على تطبيق سيادة القانون وحماية الحريات السياسية والفردية، بما في ذلك حرية الرأي والخطاب، وحرية الدين وحرية التجمع، وابتعدت من ممارسات الاعتقال التعسفي. وعلى الدول الغربية أن تركز على تشجيع دمشق على معاملة السوريين كمواطنين في دولة واحدة يتمتعون جميعاً بالحقوق الأساس، وعلى القوى الخارجية أن لا تنحو أو تسعى إلى تأليب الأكراد والمسيحيين والدروز والعلويين والمسلمين السنة على بعضهم بعضاً.

وعلى الولايات المتحدة من جهتها أن تكون مستعدة للتخلي عن قوات سوريا الديمقراطية، وتشجيعها على الاندماج في هيكليات وبنى سوريا الجديدة. كذلك ينبغي من واشنطن الإصرار على أن القوات الأميركية لن تبقى في سوريا لأكثر من عامين إضافيين تزامناً مع تقدم الانتقال (في السلطة) شمال شرقي سوريا. فجميع المجموعات الكردية والعربية التابعة لقوات سوريا الديمقراطية قادرة على الاندماج في الجيش السوري الجديد، ضمن هذا الإطار الزمني. وعلى واشنطن أن تضغط على دمشق وقوات سوريا الديمقراطية وعلى الإدارة المستقلة للتفاوض على ترتيب انتقالي يغطي المسائل الأمنية، والمستقبل القريب للهياكل الإدارية القائمة في منطقة الإدارة الذاتية، وعلى إعادة إدخال خدمات الحكومة المركزية، بما في ذلك مراقبة الحدود وإعادة فتح المكاتب الإدارية الحكومية المركزية التي تصدر جوازات السفر وتسجل معاملات الأملاك. لكن على واشنطن أن لا تغرق في التفاصيل، وهي لا تحتاج إلى ذلك. بل عليها أن توضح لدمشق مسألة بسيطة، إن حاولت الحكومة السورية الجديدة تهميش الإدارة المستقلة وفرضت انتقالاً من دون تعاون كردي، فهذا سيشعل نزاعاً جديداً ويعوق محاربة "داعش"، ويؤجل تفكير الولايات المتحدة بتخفيف مزيد من العقوبات. ورسالة واشنطن إلى قوات سوريا الديمقراطية يجب أن تكون بسيطة أيضاً، سقوط نظام الأسد يعني أن الوقت حان لتقديم تنازلات صعبة في جوانب الأمن والإدارة في مناطق سيطرة قوات سوريا الديمقراطية – والأمر يتضمن حل هذه القوات تدريجاً.

لا ينبغي على الولايات المتحدة أن تضغط بغية الحصول على حصة أو منصب حكومي محدد للأكراد السوريين أو لأية فئة أخرى. فـ"هيئة تحرير الشام" رفضت فكرة توزيع الحصص على أسس عرقية أو طائفية، إذ عدت نظام التحاصص الإثني والديني الذي دعمته الولايات المتحدة في العراق الجار منذ 20 عاماً، نظاماً خاطئاً. إن الانخراط العام المعزز بسيادة القانون وحماية الحريات السياسية والشخصية يمثل السبيل الوحيد لبناء ديمقراطية حقيقية في سوريا. وستكون العملية بطيئة وفوضوية، وسيكون على السوريين قبل غيرهم حل هذه الأمور. لكن ينبغي أن لا يكون هناك حاجة ليد أميركية مباشرة على مقود القيادة، أو جزمات أميركية على الأرض السورية.

 

مترجم عن "فورين أفيرز" 8 مارس (آذار) 2025

روبرت س. فورد باحث رفيع في "معهد الشرق الأوسط". شغل منصب السفير الأميركي لدى سوريا بين 2011 و2014.