إحياء ذكرى الجنرال الإيراني قاسم سليماني في بغداد، العراق، يناير (كانون الثاني) 2025 (رويترز)
منذ ثورتها في عام 1979، أنشأت إيران شبكة من الوكلاء والأصدقاء في جميع أنحاء الشرق الأوسط. وعلى مدار سنوات، أثبتت هذه الاستراتيجية نجاحها. فببطء، ولكن بثبات، اكتسب "محور المقاومة" التابع لطهران نفوذاً في العراق ولبنان وسوريا، حيث واجه إسرائيل والولايات المتحدة. وفي سبتمبر (أيلول) 2014 سيطر المسلحون الحوثيون المدعومون من إيران على أكبر مدن اليمن، وبعد ذلك بفترة وجيزة تفاخر أحد أعضاء البرلمان الإيراني بأن حكومته تهيمن على أربع عواصم عربية، هي بغداد وبيروت ودمشق وصنعاء.
لكن الأحداث التي شهدها العام الماضي قلبت المشهد الإقليمي رأساً على عقب، فاليوم فقدت إيران السيطرة إلى حد كبير على اثنتين من تلك العواصم العربية الأربع. فقد دمرت الحرب الإسرائيلية في لبنان "حزب الله"، الجماعة المسلحة المدعومة من طهران التي كانت تهيمن على بيروت. وفي ديسمبر (كانون الأول)، تمكنت القوات السنية المدعومة من تركيا من انتزاع دمشق من نظام بشار الأسد، الحليف الإيراني الذي حكم سوريا لمدة نصف قرن، والآن تخشى إيران من سقوط حجر دومينو آخر.
العراق هو المكان الأكثر ترجيحاً لحدوث ذلك، فالقوات الأمنية في اليمن وإيران نفسها تبدو قوية ووحشية بما يكفي للحفاظ على قبضة محكمة على شعوبها، لكن أتباع طهران في العراق يشعرون بالقلق، فالميليشيات العراقية المدعومة من إيران كانت شنت هجمات منتظمة على القوات الأميركية والأهداف الإسرائيلية طوال عام 2024، وهو ما أسفر عن مقتل ثلاثة جنود أميركيين في ضربة بطائرة مسيرة في مارس (آذار) من ذلك العام. لكن يبدو أن هذه الميليشيات غيرت مسارها، فهي لم تنفذ أي هجوم منذ أوائل ديسمبر في إشارة إلى أنها باتت أكثر خوفاً من لفت انتباه واشنطن.
واستطراداً يبدو أن السياسيين العراقيين أكثر ميلاً من المعتاد لاسترضاء الولايات المتحدة، في الواقع يقود الحكومة العراقية رئيس الوزراء محمد شياع السوداني و"الإطار التنسيقي"، وهو تحالف وثيق الصلة بإيران. لكن فريق السوداني قدم ثلاثة تنازلات للمسؤولين الأميركيين في أواخر يناير (كانون الثاني): إلغاء مذكرة اعتقال بحق الرئيس الأميركي دونالد ترمب بسبب إصداره أمراً بقتل إرهابيين في بغداد خلال فترته الرئاسية السابقة، والموافقة على إطلاق سراح الباحثة في جامعة برينستون إليزابيث تسوركوف، التي كانت تحتجزها كتائب "حزب الله"، الميليشيات المدعومة من إيران، وإقرار تعديل حيوي في الموازنة كثيراً ما سعى إليه الأكراد العراقيون، وهم الشريحة الأقرب إلى ترمب داخل المجتمع العراقي. هذه التنازلات تشير إلى أن حلفاء إيران في العراق يشعرون بالضعف.
لذا، يتعين على واشنطن أن تستغل هذه اللحظة لتقليص مستوى النفوذ الإيراني في العراق بصورة دائمة. ولكن ينبغي ألا تفعل ذلك من خلال عمل عسكري واسع النطاق، بل عن طريق استخدام دبلوماسية صارمة، والتهديد بفرض عقوبات، والعمليات الاستخبارية. وهو ما سيفضي إلى حرمان إيران من مصدر تمويل حيوي، وستمنح الولايات المتحدة نفوذاً في أية مفاوضات مع قادة النظام الإيراني. والأهم من ذلك، ستؤدي هذه الخطوات إلى حكم أفضل للعراقيين، الذين عانوا لفترة طويلة تحت هيمنة إيران.
بقرة حلوب
تسعى طهران بصورة يائسة إلى الاحتفاظ بسيطرتها على العراق، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن البلاد تمثل بالنسبة إليها بقرة حلوب [مصدراً مدراً للأموال]. فعلى مدى قرون، تمكنت "شركة الهند الشرقية" (East India Company)، وهي منظمة تجارية وعسكرية، من نهب ثروات الهند لتمويل الإمبراطورية البريطانية وتوسيع الشركة نفسها. واليوم، يفعل الحرس الثوري الإسلامي الإيراني وجناح عملياته الخارجية، فيلق القدس، الشيء نفسه في العراق. فالعراق هو خامس أكبر منتج للنفط في العالم (بينما تحتل إيران المرتبة التاسعة) ولا يخضع لأية عقوبات دولية على صادراته النفطية، خلافاً لإيران ووكلائها. نتيجة لذلك، يمكن للحرس الثوري الإيراني، والإرهابيين العراقيين، و"حزب الله" في لبنان، وحتى الحوثيين في اليمن، تحقيق أرباح ضخمة من خلال استغلال الاقتصاد العراقي والاستفادة منه بصورة طفيلية. على سبيل المثال، تتجنب إيران العقوبات عن طريق نقل نفطها إلى المياه العراقية، لكي يصنف زوراً على أنه نفط عراقي، ويصدر إلى الأسواق العالمية. إضافة إلى ذلك، فإن الميليشيات المدعومة من إيران في العراق، مثل عصائب أهل الحق وكتائب "حزب الله"، اللذين تعتبرهما الولايات المتحدة منظمتين إرهابيتين، تسرق النفط العراقي إما عن طريق الاستيلاء عليه مباشرة من الآبار أو من خلال إنشاء شركات وهمية تحصل بصورة غير عادلة على الوقود المدعوم حكومياً.
في بعض الأحيان، تحدث هذه السرقات بصورة سرية، ولكن في حالات أخرى تجري في وضح النهار. ففي عام 2014، وضع تحالف "قوات الحشد الشعبي"، وهو ائتلاف من الميليشيات العراقية المدعومة من إيران، تحت السيطرة الاسمية للحكومة العراقية، مما أدى فعلياً إلى إنشاء جيش مواز. ويتلقى "الحشد الشعبي" الآن أكثر من 3 مليارات دولار سنوياً من تمويل الحكومة العراقية، معظمها على صورة رواتب لمقاتليه البالغ عددهم 250 ألفاً. وكثير من هؤلاء المقاتلين يرفضون اتباع أوامر رئيس الوزراء، وبدلاً من ذلك يطلقون الصواريخ على القواعد الأميركية ويقاتلون في سوريا بناء على طلب إيران. وبعضهم لا يحضر إلى العمل إلا في أيام تسلم الرواتب، إذ يحصلون على أجور من دون القيام بأي عمل فعلي. وسمحت حكومة السوداني أيضاً للحشد الشعبي بإنشاء تكتله الاقتصادي الخاص، "شركة المهندس العامة"، التي سميت على اسم أبو مهدي المهندس، القائد الإرهابي الذي قتل في غارة جوية أميركية في يناير (كانون الثاني) 2020. وتتعاون هذه الشركة مع شركات صينية وأخرى تابعة للحرس الثوري الإيراني من أجل الحصول على عقود نفط وبناء من الحكومة العراقية. في الحقيقة، تتمتع الإمبراطورية الاقتصادية التابعة للحرس الثوري الإيراني بامتيازات هائلة داخل الاقتصاد العراقي، بما في ذلك قطاع السياحة الدينية واستيراد الأدوية والنقل والاتصالات والصناعات العسكرية. أما اللجنة العليا لإعادة الإعمار والتنمية في العراق، وهي هيئة يديرها السوداني، فتمنح الشركات المرتبطة بالحرس الثوري الإيراني أولوية في الحصول على الأراضي والتراخيص بمختلف أنواعها.
تحقق إيران وعملاؤها أرباحاً ضخمة من خلال استغلال الاقتصاد العراقي بصورة طفيلية
اقتصادياً، تحتاج إيران إلى العراق الآن أكثر من أي وقت مضى. فالحكومة الإيرانية تواجه ضغوطاً مالية هائلة. وتشهد العملة الوطنية انهياراً سريعاً، فيما ترتفع أسعار السلع الأساسية بصورة يومية. في الفترة ما بين يناير 2024 ويناير 2025، فقد الريال الإيراني 62 في المئة من قيمته وبلغ متوسط التضخم 32 في المئة. وبالتالي فإن نهب العراق يعد أحد الطرق القليلة التي يمكن لإيران من خلالها الحصول على ما يكفي من السيولة لتمويل الخدمات الأساسية للإيرانيين. وبذلك، تضمن طهران أيضاً أن يدفع العراقيون، وليس الإيرانيون، جزءاً كبيراً من تكاليف أنشطتها التخريبية الخبيثة في جميع أنحاء الشرق الأوسط.
ويعد الحفاظ على السيطرة في العراق أمراً بالغ الأهمية بالنسبة إلى النظام الإيراني لأسباب رمزية أيضاً، إذ أدى فشل وكلاء إيران وحلفائها في بلدين عربيين إلى جعل طهران تبدو ضعيفة ومتزعزعة، وعزز معنويات معارضي النظام. ومن وجهة نظر إيران، فإن خسارة النفوذ في بلد عربي آخر، خصوصاً في بلد قريب جغرافياً واجتماعياً منها، سيكون مدمراً وقد يؤدي إلى تداعيات ارتدادية خطرة داخل البلاد نفسها. فالإيرانيون يسافرون بانتظام إلى العراق لأغراض دينية وتجارية، وما يحدث في العراق غالباً ما تكون له انعكاسات مباشرة في الداخل الإيراني. ويخشى النظام في طهران أنه إذا فقد السيطرة على جاره العراق، فمن المرجح أن يفقد السيطرة على الشعب الإيراني.
جار سيئ
إن إخراج إيران من العراق لن يكون بالأمر السهل: فطهران تتمتع بنفوذ داخل الحكومة العراقية يفوق بكثير نفوذ الولايات المتحدة. قد لا تتدخل إيران في إدارة جميع جوانب الحكم في العراق، لكنها تسيطر على بغداد في اللحظات الحاسمة، مثل اختيار رئيس وزراء، أو عندما يريد أحد أفرع الحرس الثوري الإيراني العبور عبر العراق، أو عندما ترغب إيران في إطلاق طائرة مسيرة على مستشارين عسكريين أميركيين من داخل الأراضي العراقية. في مثل هذه اللحظات، يمكن لإيران التدخل في شؤون جارتها والإفلات من دون عواقب تذكر.
على سبيل المثال، إيران خبيرة في اختيار الفائزين في الانتخابات العراقية. ففي عام 2018، كانت العقل المدبر لوصول عادل عبدالمهدي إلى رئاسة الوزراء. آنذاك، أجرى قائد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني قاسم سليماني، اختبار ولاء لعبدالمهدي، وبمجرد أن اجتازه، أمر سليماني الفصائل الموالية لإيران بدعم ترشيحه. كما نجحت طهران في التأثير في الانتخابات البرلمانية الأخيرة في العراق، في عام 2021، على رغم خسارة الفصائل المرتبطة بإيران بفارق كبير. وبينما حاول المسؤولون المستقلون تشكيل حكومة، شجع الحرس الثوري الإيراني الميليشيات المدعومة من إيران على تغيير قواعد تشكيل الحكومة لصالحهم، والاحتجاج على نتائج الانتخابات، ومهاجمة المنافسين السياسيين جسدياً. ونتيجة لذلك، تمكن السوداني و"الإطار التنسيقي" الموالي لإيران من تولي السلطة على رغم امتلاكهم أقلية من المقاعد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
في الواقع، يمكن لواشنطن أن تعطل هذا النمط، لكنها تحتاج إلى مواجهة جهود إيران بصورة مباشرة. على مدى العقد الماضي، اعتادت الحكومة الأميركية دعم رؤساء الوزراء العراقيين، بمن فيهم عبدالمهدي والسوداني، حتى لو كانوا مجرد دمى في يد إيران. كان صناع القرار الأميركيون يخشون من انهيار العراق في حرب أهلية أو سقوطه في يد تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، لذلك كان من الضروري الحفاظ على علاقات وثيقة مع الحكومة العراقية مهما كان الثمن.
لكن على واشنطن أن تتخلى عن هذا النهج، إذ لم يعد مقاتلو داعش يطرقون أبواب بغداد، كما أن النفوذ الإيراني قد تراجع في مختلف أنحاء المنطقة، والعراق أصبح مندمجاً بالكامل في محيطه العربي. ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية في أكتوبر (تشرين الأول) 2025، يتعين على واشنطن أن توضح أنها لا تملك أية مصلحة في بقاء السوداني رئيساً للوزراء، وألا تدعوه إلى البيت الأبيض هذا العام، مما يرسل إشارة واضحة بأنه لا يحظى بدعم أميركي. ويجب على السفارة الأميركية في بغداد مراقبة كل مرحلة من مراحل العملية الانتخابية عن كثب، وإدانة أولئك الذين يقوضون الديمقراطية ومعاقبتهم بصورة علنية. كما ينبغي أن تكون انتخابات 2025 وعملية تشكيل الحكومة التي ستليها حرة ونزيهة، وألا تتأثر إلا بإرادة العراقيين أنفسهم.
إنهاء المهمة
يجب على الولايات المتحدة اتخاذ خطوات إضافية لضمان عدم خضوع القادة العراقيين للمطالب الإيرانية. ومن أجل تحقيق ذلك، عليها أن تضع خطوطاً حمراء واضحة يفهمها المسؤولون العراقيون. كما يتعين على واشنطن عقد اجتماعات علنية حصرياً مع العراقيين الذين يخدمون المصالح الوطنية للعراق. على النقيض من ذلك، يجب على الولايات المتحدة أن تتخذ موقفاً أكثر صرامة تجاه مجموعة من النخب العراقية التي تضر بمصالح بلادها من خلال التحالف مع إيران. وعلى الحكومة الأميركية أن تفرض عقوبات على أصول هؤلاء الأشخاص، وتتجاهلهم دبلوماسياً، وتهدد باستخدام القوة ضد الإرهابيين المدعومين من إيران ومموليهم داخل العراق. واتخذت إدارة ترمب بالفعل بعض الخطوات في الاتجاه الصحيح. ففي الرابع من فبراير (شباط)، أصدرت مذكرة تدعو وزارة الخزانة إلى "فرض عقوبات أو إجراءات إنفاذ مناسبة فوراً" ضد أي شخص ينتهك العقوبات المفروضة على إيران، وهذا يشمل أتباع طهران في الجوار. وفي السابع من مارس (آذار)، رفضت الولايات المتحدة تجديد قرار الإعفاء من العقوبات الذي كان يسمح للعراق بشراء الكهرباء من إيران.
قد لا تردع هذه الخطوات جميع قادة العراق عن التنسيق مع إيران، إذ إن هناك مجموعة صغيرة من النخب التي تعادي الولايات المتحدة بشدة. لكن العراقيين بغالبيتهم العظمى لا يكنون ولاء حقيقياً لأي من طهران أو واشنطن، بل يتفاعلون ببساطة مع الحوافز التي كانت إيران أكثر مهارة في توجيهها حتى الآن.
يمكن للعقوبات والدبلوماسية الصارمة أن تحقق نتائج تتجاوز مجرد تحسين موقف واشنطن في العراق، إذ يمكن أن تساعد أيضاً في منح الولايات المتحدة اليد العليا في المحادثات النووية مع إيران. فالجمهورية الإسلامية تخشى فقدان نفوذها في بغداد، ويمكن لإدارة ترمب استخدام هذا الخوف كورقة ضغط في المفاوضات. في ولايته الأولى، انسحب ترمب من الاتفاق النووي الذي تفاوض عليه سلفه، وشن حملة "الضغط الأقصى" على إيران على أمل التوصل إلى اتفاق أفضل. هذه المرة، يمكن لترمب أن يتواصل مع طهران بينما يشدد الخناق على شبكاتها في العراق. بهذه الطريقة، سيكون لدى إيران الحافز للجلوس إلى طاولة التفاوض بدلاً من المماطلة أو إطالة أمد المفاوضات.
ويمثل هذا النهج تغييراً في مسار واشنطن، فعلى مدار العقد الماضي، تجاهلت الإدارات الأميركية المتعاقبة الأنشطة الإقليمية الخبيثة لإيران أثناء المفاوضات النووية، لأن محاولة تفكيك شبكة وكلائها الإقليمية الواسعة كانت عملية معقدة ومرهقة. ولكن بعد سقوط الأسد وإضعاف "حزب الله"، قد يتمكن المسؤولون الأميركيون من تحقيق الهدفين معاً [إجراء المفاوضات وتفكيك شبكة الوكلاء]. ومن خلال إخراج إيران من العراق، تتاح لواشنطن فرصة لتقليص نفوذ طهران عالمياً وتحسين فرص التوصل إلى اتفاق يوقف برنامجها النووي، ويجب على إدارة ترمب أن تغتنم هذه الفرصة.
مترجم عن "فورين أفيرز" 11 مارس (آذار)، 2025
مايكل نايتس هو زميل رفيع في برنامج "جيل وجاي برنشتاين" في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى، وأحد مؤسسي "ميليشيات سبوتلايت" (Militia Spotlight)، المدونة البحثية التابعة للمعهد المذكور.
حمدي مالك زميل مشارك في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى وأحد مؤسسي "ميليشيات سبوتلايت".