تمثال عبد الكريم قاسم أمام متحفه (صفحة المتحف - فيسبوك)
تناقش رواية "الزعيم: خرائط وأسلحة" (دار المدى) فترة شديدة الحساسية والتأثير في تاريخ المنطقة العربية في بداية القرن الـ20، وذلك مع تنامي قوى الاستعمار الغربي وتهاوي الخلافة العثمانية، التي وضعت العرب في كل قطر من أقطارهم أمام سؤال مصيري حول ماهية هويتهم، فلأول مرة في تاريخهم تغيب عنهم المظلة الجامعة بغطائها الديني (أموية – عباسية – فاطمية - عثمانية) مما دفعهم إلى البحث عن البديل الذي لم يخرج عن خيارات ثلاثة، خيار ديني يبحث عن بديل يحل محل الدولة العثمانية، والثاني قومي عروبي كانت تنادي به أطروحات المسيحيين الشوام الرافضة الاحتلال التركي العثماني، والخيار الثالث الذي دعمته القوى الاستعمارية الغربية هو الهويات الوطنية الخاصة بكل قطر عربي، ومنع قيام أية وحدة تخلف الدولة العثمانية.
تقع أزمة الهوية تلك في صلب الرواية التي تسرد سيرة عبدالكريم قاسم منذ ولادته التي واكبت اندلاع الحرب العالمية الأولى عام 1914، ذلك العام الذي يعتبره مؤلف الرواية تاريخ "نشأة العراق الحديث"، وبداية تبلور هوية عراقية جديدة تعرف التعدد الطبقي، وفي قلبه طبقة من المثقفين رأت في الحكم العثماني استعماراً لا يختلف عن الاستعمار البريطاني.
مستعمر جديد
وضع هذا المستعمر الجديد العراق على مفرق الطرق، بين عالمين، عالم ينمو ويتشكل على خريطة استعمارية جديدة، وعالم يتهالك ويتقهقر ويحمل خريطته القديمة معه ويرحل، مستعمر جديد دفع العراقيين إلى محاولة الإجابة عن السؤال الوجودي الذي بدأ يطاردهم "من نحن؟"، ذلك السؤال الذي لم يكن مطروحاً من قبل، وهكذا تكونت في تلك الفترة تيارات سياسية وفكرية اختلفت نظرتها للمحتل الجديد، رأى المسيحيون واليهود أن مستقبلهم سيكون معه أفضل، بينما شعر المسلمون بالعكس، انخرط بعضهم مع المحتل الذي رأى مصالحه تتوافق مع مصالحه، بينما اختار بعض آخر النضال ضده، لكن اختلفت أشكال هذا النضال ما بين نضال يميني يرغب في استعادة الخلافة الإسلامية، ونضال يساري يرى في الاشتراكية والثورة البلشفية النموذج الأفضل للعراق الجديد، ومن بين الذين مالوا إلى هذا الخيار عبدالكريم قاسم الذي تنقل الرواية على لسانه التالي: "ملتُ شخصياً إلى روح العصر، وهي الأفكار الاشتراكية التي انتشرت بقوة ذلك الوقت في العراق، كان ميلاً ولم يكن التزاماً، كان ميلاً من دون أن يكون أي تمثيل سياسي محدد لي، فقد تأثرت فقط بشدة بنضال العالم الثالث ضد المستعمرين الغربيين، تأثرت بهذا النضال الذي كان يتصاعد في كل مكان في العالم وقد شعرت أني جزء من حركة عالمية كبيرة ولست معزولاً في بلد صغير مثل العراق"، ص 99.
الماركسية وعبدالناصر
تشبَّع عبدالكريم قاسم في فترة شبابه بهذا الاتجاه الاشتراكي الذي راج وانتشر في عقد الثلاثينيات في العراق، متمثلاً في تعدد التنظيمات الماركسية التي لعبت دوراً مهماً في المشهد الثقافي والسياسي، وتنامى هذا الاتجاه في الأربعينيات والخمسينيات، ففي عام 1954 حلت الحكومة العراقية جميع الأحزاب والجمعيات والأندية الموجودة في الدولة البالغ عددها 458 حزباً ونادياً وألغت تراخيص 130 صحيفة.
وفي ظل هذا الحراك الفكري والسياسي ظهر متغير سياسي مهم في القاهرة تمثل في حركة "الضباط الأحرار" التي أطاحت النظام الملكي، ونادت بالوحدة العربية، هذا الحراك الذي قام به الجيش المصري شجع عبدالكريم قاسم - كما ينقل علي بدر - على استنساخ التجربة المصرية، فكون حركة "الضباط الأحرار" في الجيش العراقي، التي نجحت في إطاحة الملك فيصل الثاني، لكن وسط مجزرة بشعة.
هذا النجاح الذي حققته الحركة كان يحمل بذور الانقسام منذ تأسيسه بسبب اختلاف الرؤى السياسية للمشاركين فيه لصورة العراق الجديد، بين رأي يتزعمه عبدالسلام عارف بضرورة الاندماج مع مصر وسوريا، وفي المقابل عدم تحمس قائد الانقلاب لهذه المسألة "لأنه أدرك بصورة لا تقبل الدحض، أن الوحدة الاندماجية التي ينادي بها عبدالناصر والسوريون ستلغي الهوية الخاصة للعراق، مشاعر عبدالكريم قاسم كعربي كانت كبيرة جداً ولكن من المحال أن يقبل لعراقيته أن تذوب في كيان دولة أخرى... يعلم أنه لو حدثت الوحدة الاندماجية فلن يقف أي زعيم إزاء عبدالناصر سيهمش الجميع ومن بينهم قاسم ذاته"، ص182- 183.
خطاب سياسي
ومن هذه الزاوية تقوم رواية "الزعيم" على خطاب سياسي مباشر يهدف إلى إعادة كتابة تاريخ الحقبة الممتدة من مولد عبدالكريم قاسم عام 1914 وحتى مقتله عام 1963، يشير الغلاف الخارجي للرواية إلى ذلك بوضوح: "تستعيد هذه الرواية كتابة تاريخ مغيَّب من خلال الصحف والحكايات الشفاهية بعيداً عن التاريخ الرسمي المكتوب لنستكشف نشأة العراق الحديث مع ولادة الزعيم في عام اندلاع الحرب العالمية الأولى".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
يعتمد بدر في إعادة كتابة هذا التاريخ على ما نشر في الصحف والمجلات العربية والعالمية والكشف عن طبيعة هذا العصر الفكرية، والحركات الفنية التي نشأت بعد الحرب العالمية الأولى مثل الدادية والسيرالية والماركسية التي أسهمت في تكوين الوعي لدى النخبة في المجتمع العراقي في هذا الوقت، مع رصد التحولات الاجتماعية التي حولت مسار عبدالكريم قاسم، ابن الطبقة الكادحة، من مدرس فقير إلى ضابط في الجيش، ذلك الأمر الذي كان بعيد المنال قبل الانتداب البريطاني والحكم الملكي للعراق الذي شجع على ظهور طبقة اجتماعية جديدة من الأثرياء التي فضلت التجارة على الانخراط في الجيش، مما فتح الباب أمام أبناء الشعب للالتحاق به ومن ثم محاولة الانقلاب على النظام الملكي كما حدث لأول مرة عام 1941.
تعدد الرواة
ترتكز الرواية في سردها على تعدد الرواة (قاسم، جورج إلياس، شاعر تركي مغمور، صحافي مستقل، الأمير عبدالإله... إلخ)، وهذا بالضرورة لم يعنِ وجود تعددية للأصوات داخل الرواية، إذ يلاحظ توجيه المؤلف بعض الشخوص بأن يجعلها تدين نفسها مثلما هي الحال مع عبدالسلام عارف الذي يصف نفسه بالقول: "لم أكن شديد الذكاء، أعترف بذلك ولكني نزق طائش وأنساق لفعل أي شيء دون تفكير"، ص207، وما يأتي في أوراق نوري السعدي التي يدين فيها ذاته بأنه دجَّن البرلمان وكبت الصحافة مما يبرر في النهاية المصير الذي آل إليه بعد الانقلاب، وفي المقابل يبني السرد موقفاً متعاطفاً مع عبدالكريم قاسم، إذ يصفه بالزعيم الأكثر شعبية، وبأنه الحريص على الهوية العراقية الوليدة، مع إبراز مدى ثقافته وذكر الكتب التي قرأها وتأثر بها، وأن سجون العراق قبل الانقلاب عليه لم يكن يقتل فيها أحد، لكنها تحولت إلى مسالخ مع قدوم عبدالسلام عارف ومن خلفوه في الحكم.
وبذلك، تعمل الرواية على تقديم عبدالكريم قاسم بصورة إيجابية، متجاهلة بعض الأخطاء التي ارتكبها، مثل قتل العائلة الملكية العراقية، وهو ما يعكس توجّهها الواضح نحو إنصافه وإبراز جوانبه الإيجابية وتبرير أخطائه.