عندما يُسكت ترمب "صوت أميركا"

آخر تحديث 2025-03-24 03:00:06 - المصدر: اندبندنت عربية
عندما يسكت ترمب صوت أميركا

الهجوم الياباني على "بيرل هاربر" كشف عن حاجة واشنطن إلى إيصال صوتها في خضم النزاع العالمي (أ ف ب)

لا يقاس قرار الرئيس الأميركي دونالد ترمب بإقفال قناة "الحرة" ومحطة إذاعة "صوت أميركا" بمقياس ما يراه مصلحة أميركية عليا، بقدر ما يُنسب إلى موقف ترمب من الإعلام نفسه ومدى استجابة هذا الإعلام لكل ما يقوله أو يفكر فيه أو يبشر به، وقرار الإقفال بهذا المعنى تتمة طبيعية لسلسلة قرارات اتخذها ويتخذها الرئيس الأميركي، وتدور جميعها في فلك دعم توجهاته ومنها اختياره لمعاونيه الذين يجتهدون في الدفاع عنه وعن مقولاته، انطلاقاً من ثابتة ألا مجال للنقاش في ما يراه ترمب مصلحة أميركية عليا.

وقد يكون مفهوماً أن يأتي ترمب بمن يريد لمساعدته في إدارة الولايات المتحدة بعد فوزه الساحق بالانتخابات الرئاسية وهيمنة حزبه الجمهوري على مجلسي الشيوخ والكونغرس، فيعين الوزراء والإداريين ممن يرتاح إليهم بما في ذلك في مؤسسات الإعلام الحكومية، لكن المفاجأة أنه قرر إلغاء أهم مؤسستين رسميتين للإعلام الأميركي الموجه إلى الخارج ببساطة كلية، وكأنه يخوض إحدى معاركه مع "تويتر" سابقاً، أو ضد صحيفة "واشنطن بوست" التي اتهمها بـ "فقدان الصدقية" لأن أحد صحافييها سأله عن رأيه في استمرار القصف الروسي على أوكرانيا، على رغم اتصالاته مع الرئيس فلاديمير بوتين.

طوال حياته السياسية اصطدم ترمب بقطاع واسع من الإعلام الأميركي الخاص ومؤسساته الراسخة، ولم يقصر إعلاميون في خوض معارك ضده، فيما وقف آخرون إلى جانبه وخاضوا معاركه السياسية والقضائية، لكن الإعلام الذي تموله الحكومة وتعين إدارته لم يتخذ موقفاً منحازاً أو حتى نقدياً، بل استمر في نقل وقائع المشهد السياسي الأميركي فيما كان اهتمامه الأبرز الوصول إلى جمهوره الأصلي في أنحاء العالم، محكوماً بما يراه مصلحة أميركية عليا على المستوى العالمي لا تتغير مع تغيير الأشخاص في البيت الأبيض، ولا يغير ذلك النقاش من مستوى نجاح أو فشل هذا "الإعلام الرسمي" في تحقيق خرق معتبر قياساً إلى ما حققه الروس عبر مؤسساتهم الموجهة إلى الخارج.

لم تكن الولايات المتحدة سباقة في اللجوء إلى الإعلام الإذاعي والتلفزيوني الخارجي كدولة، فقد سبقتها بريطانيا العظمى بكثير عندما أطلقت هيئة الإذاعة البريطانية عام 1923 وطورتها لتتحدث بلغات العالم لاحقاً، بما فيها اللغة العربية منذ الثالث من يناير (كانون الثاني) 1938، وأسس الاتحاد السوفياتي "راديو موسكو" عام 1929 وكان يبث لدى إقفاله مع انهيار الاتحاد عام 1993 بأكثر من 70 لغة حول العالم، ثم ورثه راديو "سبوتنيك" في دور مشابه لمصلحة روسيا الاتحادية قبل أن تحتل قناة "روسيا اليوم" مكانتها البارزة، وأطلقت دول كثيرة أخرى محطاتها ووجهت بثها إلى حيث لها مصالح عدة، وأنشأت أقساماً مرئية ومسموعة بمختلف اللغات ومنها العربية.

صارت "صوت أميركا" بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سلاحاً بيد الإدارة الأميركية لخوض معارك الحرية والديمقراطية (أ ف ب)

تأخرت الولايات المتحدة في إطلاق بثها العالمي الخاص إلى الأول من فبراير (شباط) 1942 عندما سُمع أول بث لـ "صوت أميركا"، وذلك بعد شهرين من الهجوم الياباني على "بيرل هاربر" الذي كشف حاجة واشنطن إلى إيصال صوتها في خضم النزاع العالمي، والكلمات الأولى عبر الأثير قالها الصحافي وليام هارلان بالألمانية "ننقل إليكم أصواتاً من أميركا، يومياً سنتحدث إليكم عن أميركا والحرب، قد تكون الأخبار جيدة لنا وقد تكون سيئة، لكننا سنخبركم بالحقيقة".

واستمرت الإذاعة 83 عاماً صوتاً للرؤية الأميركية للعالم، ومثلما كانت إذاعة موسكو سلاحاً بيد الاتحاد السوفياتي دفاعاً عن الشيوعية ومعارك "التحرر الوطني"، فقد صارت "صوت أميركا" بعد نهاية الحرب العالمية الثانية سلاحاً بيد الإدارة الأميركية أياً كانت لخوض معارك الحرية والديمقراطية، ومنها انبثقت إذاعة "أوروبا الحرة" و "راديو الحرية" وإذاعة "آسيا الحرة" وكثير من الوسائط التابعة العاملة بنحو 100 لغة حول العالم.

لم يؤد انهيار الاتحاد السوفياتي إلى تخفيف النزاعات الدولية، ومرة أخرى لجأت الدول إلى تعزيز أدواتها الإعلامية التي صارت جزءاً من القوة الناعمة لتلك الدول، كبيرة كانت أم صغيرة، فدخلت الفضائيات بقوة على المشهد الإعلامي الدولي منذ قيام محطة CNN بنقل مشاهد حروب الخليج على الهواء مباشرة، وفي العام التالي بعد غزوها العراق أسست الولايات المتحدة شبكة الشرق الأوسط للإرسال MBN التي أطلقت قناة "الحرة" التي قرر ترمب الآن إسكاتها مع شقيقتها "صوت أميركا" من دون سبب سوى اتهامه للشبكتين بالتحيز للديمقراطيين.

إلا أن هذا الاتهام لا يكفي لتبرير خطوة بهذا الحجم في وقت تخوض الولايات المتحدة بقيادة ترمب شخصياً مواجهات ومفاوضات دولية حاسمة يلعب فيها الإعلام أدواراً كبرى، فروسيا مثلاً طورت شبكة RT وأطلقتها منذ مايو (أيار) 2007 برعاية خاصة من الرئيس فلاديمير بوتين، وعززت إلى جانبها وسائل إعلام أخرى موجهة إلى الخارج، وفي تقرير أخير عبّر الاتحاد الأوروبي عن قلقه إزاء تنامي النفوذ الإعلامي الروسي في العالم، مشيراً إلى افتتاح مقر جديد لـ "روسيا اليوم" في صربيا، واعتبر أن راديو "سبوتنيك" أداة للتلاعب بالمعلومات العالمية، وأن "نوفوستي تلعب دوراً مركزياً في تشكيل وتعزيز خطاب الدولة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويخلص التقرير الأوروبي إلى أن "روسيا تواصل استغلال نقاط الضعف في المشهد المعلوماتي العالمي مما يجعل تكتيكاتها المتمثلة في التدخل الأجنبي مصدر قلق وخطراً، فلقد تطور الإعلام الدولي الأميركي خلال المواجهة مع الاتحاد السوفياتي ثم مع روسيا، ومنذ أعوام يواجه هذا الإعلام خصماً دعائياً كبيراً وهو إيران التي تمول عشرات الفضائيات وتوحد شعاراتها تحت عنوان العداء لأميركا، كما يواجه إعلاماً صينياً هادئاً لكن فعالاً في منافسة الخطاب الأميركي عبر أنحاء الكرة الأرضية، وهؤلاء جميعاً لم يخفوا اغتباطهم بقرار ترمب إسكات "صوت أميركا" في العالم، إذ اعتبر رئيس تحرير "غلوبال تايمز" الصينية السابق شي جين أن القرار عظيم، وأبدى الإعلام الإيراني سروره بإغلاق "إدارة ترمب وسيلة الإعلام المعادية لإيران"، أما "روسيا اليوم" فقد "تحركت لمطالبة ترمب بإلغاء العقوبات التي فرضها سلفه جو بايدن على القناة في أميركا، فلماذا اتخذ ترمب قراراته هذه؟ هل لأن "وكالة الإعلام الأميركية فاسدة وخطرة على الأمن القومي الأميركي وغير قابلة للإنقاذ" كما قالت كاري ليك التي عينها الرئيس مستشارة أولى لتلك الوكالة المشرفة على عمل "صوت أميركا" و"الحرة"؟ أم لأن "صوت أميركا" محطة حزبية كما تتهمها المستشارة المذكورة؟

الاتهامان لا يبرران الإلغاء، كما أن المشهد الإعلامي العالمي لا يتحمل قراراً كهذا من وجهة نظر المصلحة الأميركية الخاصة، فعالية وكلفة، خصوصاً أن كلفة تشغيل "الحرة" مثلاً لا تساوي ثمن مروحيتي "أباتشي" على قول أحد مسؤوليها، فماذا يريد ترمب؟

إن السؤال سيبقى مطروحاً والقرار سيتفاعل في الأوسط الأميركية مثله مثل قرارات إدارية أخرى، ومن حق كثيرين أن يتكهنوا بمدى اعتماد ترمب على إعلام بديل يقترحه مستشاره إيلون ماسك ويعتبره كافياً.