ارتأت الإدارة السورية الجديدة أن تبدأ باجتثاث البعث من القطاع الحكومي أولاً (أ ف ب)
جرت العادة مع انتصار كل ثورة أو انتفاضة أو انقلاب أن يفكك الواصلون الجدد إلى الحكم رموز النظام السابق من مفاصل الحكم، لكن المهمة بدت أصعب مما تصورت الإدارة السورية الجديدة التي أطاحت بحكم بشار الأسد في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 2024، إذ إن بشار الأسد الذي ورث الحكم عن والده حافظ، لتمدد فترة حكمهما لما يقارب 54 عاماً، اعتمدا على الولاءات في التعيين وفي شتى التخصصات والمجالات والوظائف، بدءاً من رئيس الحكومة وصولاً إلى عامل النظافة.
الحزب الأوحد
وفي ظل الحكم الشمولي الأحادي الذي يقوم على الحزب الواحد كان لا بد أن ينال "حزب البعث العربي الاشتراكي" الحصة الوفيرة، بل والكاملة، من التغلغل في مفاصل البلد حتى إتمام السيطرة عليها في جو تكاد تنعدم فيه المنافسة السياسية، أو بأفضل الأحوال القبول بوجود أحزاب غير مؤثرة تمكن البعث من أدلجتها في سياق تصوره للمرحلة المستديمة استراتيجياً لاستتباب حكمه.
ومع كل ذلك الترهل المؤسساتي الذي فاجأ الإدارة الجديدة حين وصولها إلى السلطة لناحية إمكان استمرار تلك المؤسسات بالعمل في ظل ما تشهده وما تعيشه، بدا الموقف شائكاً ومربكاً ومعقداً ولم تعرف من أين تبدأ في تفكيك "حزب البعث" ومناصريه وعزلهم خارج إطار الدولة، فالتجأت للحل الأسهل وهو التفكيك الجماعي للحاضنة الاجتماعية الهيكلية لبنية الدولة، على رغم علمها المسبق أن "بعثيي بشار ليسوا كما بعثيي حافظ"، والفرق هنا شاسع.
"الفرق بين بعثين"
بعثيو حافظ كانوا يملكون توجهاً أيديولوجياً صارماً في الغالب ضمن بوتقة الأهداف والمنطلقات والنظريات القومية، أما بعثيو بشار، لاسيما في حرب الأعوام الـ14 الأخيرة، فلم يكونوا إلا مناصرين بغية المناصب والوظائف بعيداً من أي هدف أيديولوجي قومي عابر للحدود. ويمكن الاستدلال على ذلك من ناحيتين، الأولى كم الفساد الذي نهش "البعث" في عهد بشار، والثانية حين حاولت السلطة تشكيل ميليشيات مقاتلة باسم "البعث" (كتائب البعث - مغاوير البعث وغيرهما) وكانوا الأقل شأناً وقدرة وحماسة وتأثيراً، ومرة ثانية خلاف بعثيي حافظ الذين استخدمهم كقوة ضاربة في مواجهة "الإخوان المسلمين" في أحداث ثمانينيات القرن الماضي.
إذاً فرغ بشار الحزب من مضمونه، حول وسمح لقادته أن يكونوا سماسرة يصلون إلى مناصبهم بالعلاقات والأموال وتقديم شروط الطاعة وخطط جني الأموال والالتزام المطلق بتخوين الآخر أياً تكن درجة قربه السابقة من النظام في حال خروجه عن الخط المرسوم أو اعتراضه على أمر قضت به القيادة.
شكل حافظ الأسد في عام 1963 مع مجموعة ضباط لجنة عسكرية تمكنت من السيطرة على سوريا تحت مسمى "البعث" (أ ف ب)شركة قابضة
تحول الحزب إلى ما يشبه "شركة قابضة" على مستوى القيادة جعلت جميع أصحاب المناصب شركاء في دائرة من الفساد المسموح به على الصعيد الضيق، ومع اتساع مواردها يجب أن تصب في جيب السلطات الأعلى، أي في القصر الجمهوري، بحسب مقربين من النظام السابق.
وتلك اتهامات طاولت حتى مفتي الجمهورية السابق أحمد بدر الدين حسون بالأعمال التجارية المشبوهة بغطاء بعثي تحت عمامة دينية، وحين تجاوز الحصة المسموح بها له كان أن عزل قبل أعوام وظلت الدولة بلا مفت، مع توسع صلاحيات وزير الأوقاف عبدالستار السيد الذي كان يوصف بأحد حكام الظل مع احتفاظه بحقيبته الوزارية لـ17عاماً متتالية، وما فضحه شيوخ الشام بعد سقوط النظام عن تدخل الوزير بأمر من الرئاسة في فرض موعد بدء شهر رمضان وعيد الفطر بناء على حسابات سياسية، لا على حسابات دينية من التماس قمر الشهر الفضيل وخلافه، وذاك مثال إلى أي حد كانت تتدخل السلطات في شؤون الناس، ولذا كان البعثيون يقودون الدولة، لأنهم تعلموا ألا يقولوا "لا".
فوضى الاجتثاث
ارتأت الإدارة الجديدة أن تبدأ باجتثاث البعث من القطاع الحكومي أولاً، فسرحت أكثر من 400 ألف موظف، وأوقفت رواتب أكثر من 500 متقاعد مدني وعسكري قبل الحرب، ومن ثم واجهت مشكلة أخرى هي أن الجيش السوري بأكمله مع الإدارات الأمنية بعثيون، فقامت بحلهم جميعاً.
ثم اتجهت للجامعات وأعادت ترتيبها، وآخر ذلك الترتيب تعيين شاب من إدلب عمره 35 سنة عميداً لكلية الإعلام في دمشق، مما أحدث إرباكاً على أساس أن تعيين الدكتور الجديد جاء على حساب قامات كبرى من الدكاترة والأساتذة الذين يحسب لهم حساب في الكلية إياها، خصوصاً أن الدكتور الوافد كان يدرس في جامعة إدلب غير المعترف بها. بالتزامن جرى إقصاء دكاترة وحملة ماجستير وجامعيين من مديرية نقل طرطوس لصالح تعيين مدير من إدلب من الفئة الثالثة (أي يحمل شهادة ثانوية)، وهو أمر آخر من جملة عشرات الأمور التي لم تفهم في حيثياتها وسياقها.
يرى الشارع السوري اليوم أن السلطة الجديدة تعيد إنتاج القديمة، فالقديمون اعتمدوا على "البعث"، والجدد اعتمدوا بالخصوص على أهل إدلب، والمرتبطين بـ"هيئة تحرير الشام" عموماً.
وبذلك يكون السوريون خرجوا من مرحلة الولاءات القديمة إلى الولاءات الجديدة، فعلى رغم حل "هيئة تحرير الشام" نظرياً، إلا أنها هي من أعدت مؤتمر الحوار الوطني والإعلان الدستوري، وهي من يستلم أفرادها المناصب الحكومية والوزارية والإدارية العامة والأمنية والعسكرية، حتى أنها في سياق تفكيكها لـ"البعث" لم تجد بداً من أن يكون أمنها وجيشها وحكومتها ولجانها من لون واحد، إذ لا يمكن العثور على مكونات شريكة في القرار في المناصب التي يعول عليها.
أقصى حافظ رفاق دربه واستأثر بالسلطة عام 1970 (أ ف ب)الكذبة الكبرى
اجتثاث "البعث" من الدولة كما في سوريا يعني اجتثاثها من نفسها أساساً، بل وتفكيكها كهيكلية كاملة يغلب عليها النمط البيروقراطي الذي جعلها تتمكن من المضي في تسيير الأعمال في خضم الحرب.
"اندبندنت عربية" حاولت الاستماع لبعثيين سابقين قبل حل حزبهم مع انتصار الانتفاضة للأخذ برأيهم، فإيجاد البعثيين السابقين في سوريا ليس أمراً شاقاً، إذ كان الانتساب للحزب بمثابة "فرض عين" على المواطن السوري، وهو ما يؤكده المهندس معتز جمراني المفصول من عمله بقوله: "في الصف العاشر الثانوي يجري تنسيب كل الطلبة إلى ’حزب البعث‘، ونجد أنفسنا مع الوقت بعثيين بغير إرادتنا، فإما أن نبقى في خانة نصير وندفع الاشتراكات، أو هناك من تكبر أحلامه فيخضع لدورة عضو عامل لتؤهله لتبوؤ مناصب في المستقبل، وتلك الدورة عادة حدها الأدنى عامان، وبالطبع يمنع دخول مؤسستي الجيش والأمن من غير البعثيين، كما تحجب الوظائف بنسبة 99 في المئة عن غير البعثيين، إذ يمكن أن يتسلل مستقل من هنا أو هناك أو منتم لحزب مسموح به إلى وظيفة ما على قاعدة أن البلد ديمقراطي وتلك الكذبة الكبرى".
فرض وليس خياراً
"الحزب فرض وليس خياراً"... يقول الموظف زيدان ميداني ويكمل: "إما أن تكون بعثياً أو أن تبقى فلاحاً، طريقك للراتب الشهري والمعيشة الكريمة تبدأ من البعث، واليوم نحن ندفع ثمن بعثيتنا القسرية، لأننا بعثيون أجلسونا في المنازل، أما كبار البعث فإما صاروا خارج البلد أو يفاوضون السلطة الجديدة. في المعادلة السورية يدفع الفقير دوماً ثمن ما يحصل، صحيح أننا كنا بعثيين، ولكن هل كنا مقتنعين أو مؤمنين بأفكاره وسلوك قياداته وضمنهم رئيس الجمهورية؟ كنا نرى كيف أن ’البعث‘ هو سبيل المال والوصول والسلطة والحماية حتى، هذا عدا عن أن آخرين تماهوا مع ’البعث‘ سعياً وراء مركز فتعلموا بإتقان كيف يكونون مخبرين وكتبة تقارير بأقرب الناس لهم. اجتثاث ’البعث‘ بفكره وأدبياته البائدة وشخوصه المتلونين، ضرورة لا بد منها، لكن ليس أن ندفع الثمن والثمن هو تلك الـ20 دولاراً التي كنا نتقاضاها كراتب شهري لتحل ’هيئة تحرير الشام‘ مكان ’البعث‘، فنكون كمن يدور في مكانه".
المد القومي
نشأ "حزب البعث" في غمرة صعود الأحزاب القومية في العالم العربي في أربعينيات القرن الماضي على يد صلاح البيطار وميشيل عفلق، مطورين نظريات الحزب التي جاء بها قبلهما زكي الأرسوزي، وانضم إليهم لاحقاً الزعيم الحموي أكرم الحوراني، وتمسك الجميع بالأيدولوجية التقدمية التحررية التي اتخذت من شعار "أمة عربية واحدة... ذات رسالة خالدة" شعاراً لها، ومن "وحدة، حرية، اشتراكية" أهدافاً لها، وتمكنوا من التوسع وافتتاح أفرع قطرية في بلدان عدة بينها العراق واليمن والأردن ولبنان وليبيا وغيرها، وكل تلك الأفرع سقطت تباعاً، وكان آخرها "بعث العراق" مع سقوط نظام صدام حسين عام 2003.
وفي عام 1963 شكل حافظ الأسد مع مجموعة ضباط لجنة عسكرية تمكنت من السيطرة على سوريا تحت مسمى "البعث"، قبل أن يقصي حافظ رفاق دربه ويستأثر بالسلطة عام 1970. وكانت تلك فاتحة المقولة الشهيرة "الجدران لها آذان"، إذ إنه مكن البعثيين بصلاحيات وقوة وشأن شرط الولاء المطلق والوشاية بأقرب الناس إليهم، أخاً أو أباً، إن شذوا عن طريق القومية والولاء.
بين سوري وبعثي
قبل ذلك كان العالم العربي مأخوذاً بالحالة الناصرية، وكان جمال عبدالناصر مخذولاً من سوريا التي فضت الوحدة مع بلده وانقلبت عليها مطيحة بالجمهورية العربية المتحدة (1958-1961) فقال في كلمة شهيرة، "إن حزب البعث قسم سوريا بين بعثي وسوري"، وهو ما أثبتته الأيام والأعوام والعقود اللاحقة.
جاء حافظ بكل طائفته إلى حزبه الذي انتزعه من قادته التاريخيين، ولكنه كان أكثر دهاء من جعله حزباً طائفياً، فشرع أبوابه للجميع، حتى صارت طائفته الأقلوية أقلية في صفوف حزب "الجماهير والفلاحين والعمال"، وأغلق الأسدين كل أبواب الأحلام في الوصول والسيطرة والهيمنة إلا للحزبيين على النطاق الأعلى، وفي النطاق الأسفل ترك لهم الوظائف والمناصب الفرعية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هل يصلح العطار ما أفسده الدهر؟
ما كان يحدث في سوريا لم يكن شذوذاً عن دول كثيرة أخرى حكمت بالحزب الواحد، لكن الفرق أن انتفاضة انتصرت وأطاحت بحكم دام 54 عاماً، فكم سيحتاج العطار لإصلاح ما أفسده الدهر؟ وهل سيتمكن؟
الناس في لا وعيها أدلجت، تعودت على التصفيق والخطابات والمسايرات ونمط حياة من الصعب اقتلاع جذوره في أشهر قليلة.
عبدالمعطي حازم كان أحد قيادات "البعث" في تسعينيات القرن الماضي، يقول لـ"اندبندنت عربية": "لا شك أن الحزب الواحد عطل مسار الحياة السياسية التعددية في سوريا، لكن اقتلاعه بطريقة عشوائية سيسهم في دمار أكبر. البعثيون منذ زمن بعيد ليسوا أصحاب نضال وقضايا وبنادق محشوة، هم فقط تماهوا مع المرحلة المفروضة قسراً، وتطهير البلد منهم وظيفياً وجماعياً سيخلق أحقاداً لا تريدها سوريا الآن تحديداً، وسيخلق أزمات مركبة من بينها البطالة والمجاعة وارتفاع منسوب الجريمة، الحل هو بالعدالة الانتقالية التي تحاسب كبار البعثيين الذين عينوا حكومات وضباطاً وإدارات أمنية لا ممرضين وموظفين في معامل الأسمدة والغزل والتربية وغير ذلك".
ويتابع "مع انحدار المد القومي صار البعث مجرد حزب، لكنه احتفظ بدوره التعبوي في عهد الرئيس المخلوع خدمة لأجندات تتعلق بالولاء في مقابل العيش، وخدمة لملفات تتعلق بالتجييش والتحشيد والانتخابات، أما لو سألت الناس عن رأيهم بالبعث، فهم منذ زمن بعيد لا يعرفون شيئاً عن منطلقاته، وأجزم أن كل بعثيي سوريا لا يعرفون تاريخ تأسيسه ولا سياق اندماجه مع أحزاب أخرى ليتشكل، أولئك أبناء الشعب، يريدون أن يأكلوا ويشربوا ويعيشوا، وإقصاؤهم بتلك الطريقة يعني أن ’هيئة تحرير الشام‘ تدق إسفيناً بينها وبين شعبها".
ما نسبة السوريين القوميين الاجتماعيين والشيوعيين والناصريين والوحدويين والمستقلين من الشعب السوري؟ هي نسبة ضئيلة أمام الطوفان البعثي الكبير، الطوفان الذي كان أهل إدلب أنفسهم جزءاً كبيراً منه، لكن 14 عاماً من الانتفاضة والاستقلال الجغرافي أتاحت لهم التخلص من عباءة الحزب، وهو ما لم يتح لبقية السوريين في مناطق النظام، المناطق التي كان يسيطر فيها على المدن الكبرى والمركزية.
ولكن استبدال أيدولوجية بأخرى ليس بالأمر السهل، تغيير نمط الاعتياد الفكري للناس ليس سهلاً، قد يبدو السوريون سعداء بتخلصهم من الحزب الحاكم، لكن ثمناً كبيراً سيدفعونه عاجلاً على ماض كانوا شركاء فيه بالقوة، وهنا دور الإدارة الجديدة باحتواء الناس والعمل لأجل الجميع والاقتناع بأن البلد يبنى بمن حضر.
الشعب مصدر السلطات
وللإدارة السورية الجديدة في تجربة اجتثاث "بعث العراق" ما بعد صدام دروس كبيرة وكثيرة، فالسلطات هناك عادت لاحقاً لتعتمد على الموظفين العسكريين والمدنيين من البعثيين، إذ إن بناء الدولة يجب أن يكون من منظور أكثر شمولية وواقعية وتشاركية وإدراكاً أن تجربة إدلب لا يمكن أن تنجح في حكم سوريا متفردة.
فالإعلان الدستوري الذي لم يذكر أن الشعب هو مصدر السلطات عليه - بحسب قانونيين - لا بد من مراجعته لأن أسباب شرعية الحكم تستمد من الشعب الذي يجب أن تشمله عين المغفرة والمسامحة والانتقال السلس البسيط للسلطة، وهو الذي أكده رئيس الجمهورية العربية السورية أحمد الشرع غير مرة وفي غير مناسبة، بأن الانتفاضة انتهت والآن يجب التوجه لبناء الدولة، ولبناء الدولة لا بد من إشراك ومشاركة جميع مكوناتها، إلا أن اللون الواحد ما زال طاغياً على رغم مرور ثلاثة أشهر من تسلم السلطة. فكيف ستبنى سوريا في نهاية المطاف؟ هذا سؤال يتجاوز تفكيك "حزب البعث" لأن يصير محرك القادة الجدد الذين عليهم الاتعاظ من تجارب غيرهم في بناء الدول، بحسب متخصصين وسياسيين.