رعاية سعودية مثابرة ستقود إلى إنجاز مسألة تتعلق بسيادة البلدين على أرضهما (واس)
يمكن القول إنه للمرة الأولى في تاريخ العلاقات اللبنانية - السورية يتم تناول مسألة ترسيم الحدود بين البلدين بجدية واعدة. تم ذلك في محادثات جدة بين وزيري دفاع البلدين ورعاية مباشرة من وزير دفاع السعودية الأمير خالد بن سلمان بن عبدالعزيز وتوجيه مباشر من قيادة السعودية.
لقد جرت محاولات كثيرة في السابق للتوصل إلى ترسيم وتثبيت الحدود بين البلدين والتي تمتد بطول يناهز الـ375 كيلومتراً، إلا أن كل تلك المحاولات باءت بالفشل أو لم تصل إلى النتائج المرجوة. فقد سادت في سوريا، عبر أزمنة مختلفة فكرة أن لبنان هو جزء من سوريا. ومنذ ما قبل سيطرة "البعث" على النظام، لم يستسغ حكام سوريا بعد رحيل الانتداب الفرنسي فكرة لبنان المستقل، وعندما هيمن حزب البعث بأفكاره المزعومة عن الوحدة العربية، وجدت الأطماع القديمة إطاراً نظرياً لها تجسد في عملية الإلحاق التدريجي التي شنها نظام الرئيس السوري السابق حافظ الأسد ثم ورثه بشار، والتي بدأت منذ مطلع سبعينيات القرن الماضي وتحولت احتلالاً عسكرياً مباشراً استمر حتى اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، الذي فرضت تداعياته المحلية والعربية والدولية انسحاب الجيش السوري من لبنان خلال أبريل (نيسان) 2005، بعد ما يقارب 35 عاماً من الهيمنة على مقدرات الجار اللبناني.
وبديهي أنه لم يكن متاحاً طوال هذه الأعوام "الانشغال" بقضايا تفصيلية تخص "شعباً واحداً في بلدين" على ما كان يزعم الأسد الأب، فأخضعت الحدود مثلها مثل لبنان كله للسيطرة السورية وتحولت منافذها الرسمية إلى خطوط عسكرية تتحكم بها الاستخبارات السورية، ولم يعد ضرورياً البحث في ترسيم وتثبيت ما دام معاهدة الأخوة والتنسيق والاتفاقات التي يربو عددها على الـ40 اتفاقاً جعلت من مسألة الفصل بين البلدين قصة ثانوية يمكن تجاهلها.
لقد سعت الحكومات اللبنانية وحاولت إعادة تحريك قضية الحدود بعد انسحاب الجيش السوري، إلا أن الجانب السوري لم يبد أية حماسة للموضوع، فهو استمر مهيمناً في لبنان عبر حلفائه وفي مقدمتهم "حزب الله" ولم يخش يوماً أن يُفرض عليه السير بجدية في موضوع ضبط الحدود وتحديد حقوق وواجبات الطرفين على جهتيها.
وبالطبع لم يعد ذلك مطروحاً بعد اندلاع الانتفاضة ضد نظام الأسد. فمنذ اللحظة الأولى صارت الحدود ساحات مفتوحة أمام "حزب الله" ذهاباً وإياباً، إذ يرسل عبرها مقاتلوه لضرب المعارضة السورية وحماية الأسد، وعبرها يأتي بأسلحته وصواريخه لتعزيز إمساكه بالأرض والسلطة في لبنان، وفي الأثناء نشطت تجارة الممنوعات ومنها المخدرات والكبتاغون التي ستوفر للحزب وحلفائه في دمشق مليارات الدولارات سنوياً.
لم يعد هذا الواقع الذي ساد منذ أكثر من عقد من الزمن قائماً في لحظة انهيار النظام وفرار الأسد من سوريا. خلال تلك اللحظة لم يسقط نظام الأسد فحسب، بل سقطت معه ركائز المشروع الإيراني المذهبي الذي جعل من سوريا رأس جسر للسيطرة عليها وعلى لبنان وشرق المتوسط. وهرب الإيرانيون إلى العراق وإيران، وأخلى "حزب الله" نقاطه وأوهامه في سوريا وعاد خائباً إلى لبنان لتندلع على الفور اشتباكات حدودية قال عنها السوريون إنها تجري مع عناصر الحزب ومهربيهم، ونسبها الحزب إلى "عشائر" تدافع عن حقوقها، مثلها مثل "الأهالي" الذين مثلوا الحزب في صداماته المتكررة مع قوات الطوارئ الدولية في لبنان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لقد كانت الاشتباكات الحدودية على الحدود اللبنانية الشمالية مع سوريا بمثابة الحرائق الأخيرة التي يمكن أن تتحول إلى كارثة كبرى تضع الجيش اللبناني في مواجهة لا يريدها، ولا مبرر لها مع قوات سوريا الجديدة التي كرر قادتها وعلى رأسهم الرئيس أحمد الشرع أن قيادته تريد أفضل العلاقات مع لبنان. وفي نسختها الأخيرة جاءت هذه الاشتباكات لتواكب الأحداث الخطرة في الساحل السوري التي لا يخفى أن إيران سعت إلى تأجيجها، ضمن استراتيجيتها لإسقاط النظام الجديد في سوريا، وجاءت خلال وقت يتحمل فيه الجيش والسلطات اللبنانية الجديدة مسؤولية كبرى في تنفيذ القرار 1701 وحصر السلاح بيد الدولة. وتمكن الجيش في اتصالاته المباشرة مع الجانب السوري من ضبط الأمور وتهدئتها إلى حد كبير إلا أن المسألة القديمة – الجديدة، مسألة ترسيم وتثبيت الحدود طرحت نفسها بقوة، وفي ظل حرص الطرفين اللبناني والسوري على حلها وإنهائها، كانت السعودية حاضرة للتدخل ورعاية الاتفاق وهذا ما فعلته في جدة بحضور وزيري دفاع البلدين، اللبناني ميشال منسى والسوري مرهف أبو قصرة.
لم يكن التدخل السعودي ورعايته الاتفاق الحدودي مفاجئاً، فالسعودية حريصة على رعاية سوريا الجديدة بقدر حرصها على دعم لبنان في عهده الجديد. والسعودية التي باتت في ظل قيادة الملك سلمان بن عبدالعزيز وولي العهد الأمير محمد بن سلمان مركزاً للحراك العربي والإسلامي من أجل فلسطين والسودان وقضايا الإقليم، ومقراً يستضيف مصالحة القوتين العظميين أميركا وروسيا ويرعى مفاوضات السلام في أوكرانيا، أحد أهم وأخطر أزمات العصر، وليس غريباً ولا بعيداً منها الاهتمام بحل مشكلات تتعلق ببلدين عربيين يجدان فيها عمقهما الطبيعي، في ظروف صعبة تتطلب اهتماماً دولياً لا يمكن لغير السعودية أن يوفره، نظراً إلى مكانتها ودورها.
ضمن هذه الرؤية رعت الرياض اللقاء الحدودي اللبناني السوري الأهم منذ عقود، وأوصلته إلى نتائج صريحة تم فيها "الاتفاق إلى جانب ترسيم الحدود على التنسيق من أجل التعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية". وفي الحصيلة شدد الوزيران اللبناني والسوري "على الأهمية الاستراتيجية" لهذا الترسيم، واتفقا على "تشكيل لجان قانونية متخصصة بينهما، وتفعيل آليات التنسيق للتعامل مع التحديات الأمنية والعسكرية، وبخاصة ما يطرأ على الحدود". واتفق "على عقد اجتماع متابعة في السعودية خلال الفترة المقبلة".
إنها بداية جدية تلك التي انطلقت من جدة، فمسألة الحدود اللبنانية السورية المهجورة بقوة الموقف السوري السابق وتخاذل مسؤولين لبنانيين عادت لتحتل أولويتها باتفاق سلطات البلدين، ورعاية سعودية مثابرة ستقود حكماً، ليس إلى إنجاز مسألة أساس تتعلق بسيادة البلدين على أرضهما، وإنما أيضاً إلى حل نقطة عالقة تتصل بمزارع شبعا التي تحتلها إسرائيل بوصفها جزءاً من الجولان ويطالب بها لبنان، فيما ينتظر اعتراف سوريا بلبنانيتها. وبديهي أن البحث في ترسيم الحدود اللبنانية السورية سيصل إلى شبعا، وهنا أيضاً ستكون السعودية حاضرة، وداعماً قوياً للبنان في مفاوضاته المرتقبة لتثبيت حدوده الجنوبية مع إسرائيل، وهي المفاوضات التي تسعى الولايات المتحدة إلى ترتيبها خلال الأيام والأسابيع المقبلة.