الحرب اللبنانية بريشة الرسام رفيق شرف (صفحة الرسام - فيسبوك)
بلغت الحرب اللبنانية عامها الـ50. أقول بلغت وكأن حربنا الأهلية لا تزال على قيد الحياة، وأنها تكبر وتكبر بينما نحن نتقدم في السن أيضاً. الرقم 50 لا يمكن تجاهله البتة لما يحمل من معانٍ مبهمة في الذاكرة الشعبية، فهو الرقم الذي يغلب عليه معنى انتصاف العمر وبداية ملامح الشيخوخة. 50 عاماً على الحرب التي اندلعت في ربيع 1975. لا يسترجع اللبنانيون ذكرى انتهاء هذه الحرب التي حلت عام 1990 وقد عرف بعام اتفاق "الطائف". هم لم يحتفلوا مرة بذكرى انتهاء حربهم، ولم يدرجوا هذا التاريخ في روزنامتهم الجماعية. إنهم يصرون على عام ولادة الحرب، الذي حفروه في قلوبهم وذاكرتهم، وانطلاقاً منه راحوا يحصون أعوامها المتوالية، عاماً تلو عام. وكانت كثرة منهم قررت المشاركة فيها علانية: أحزاب وطوائف وجماعات وأفراد، ناهيك بأطراف آخرين، وجدوا فيها ذريعة لترسيخ موقع أو هوية، ومنهم أحزاب الكفاح الفلسطيني المسلح والنظام السوري البعثي. ولا أظن أن ربيعاً مر لم يتذكر فيه اللبنانيون هذا اليوم: 14 أبريل (نيسان) 1975، على خلاف يوم "الطائف" الذي وقع فيه الاتفاق الشهير.
لم تنتهِ الحرب أو الحروب التي توالت، بل جرت معارك عنيفة جداً، وأقساها تلك التي شنتها إسرائيل على الجنوب اللبناني ولبنان كله. يحن اللبنانيون إلى يوم اندلاع الحرب لا إلى يوم "موتها"، وفي الذكرى الـ50 لا يتذكر اللبنانيون حرب عام 1975 بمقدار ما يحنون إليها. اللبنانيون الذين يشعرون بأنهم خرجوا منها خاسرين، واللبنانيون الذين يظنون أنهم خرجوا منتصرين، وكذلك القلة القليلة التي مكثت خارج حساب الربح والخسارة. البدايات، كل البدايات لها سحرها، حتى وإن انتهت إلى مآسٍ رهيبة. هذه حرب تظل في ربيعها مهما شاخت وتقدمت في السن. الجميع يذكرون أن بدايات الحرب أو لأقل "حرب السنتين" الأوليين، كانت أرحم من السنوات التالية التي اتسعت فيها رقعة العنف والقصف والتدمير، لا سيما مع الراجمات السورية التي نشرت الرعب في المناطق، خصوصاً عندما اقتحم الجيش السوري القصر الجمهوري، عقب فشل "حرب التحرير" الشهيرة.
قد يكون من العبث الآن تذكر الحرب اللبنانية. إنها إزاء الحروب التي اندلعت في سوريا والعراق واليمن وغزة أشبه بـ"مسودة" حرب. ولعلها تبدو قياساً إلى مآسي هذه الحروب حرباً "رومنطيقية"، حرب الأهل، التي شارك فيها الأصدقاء الغرباء، الذين فتح لهم الأهل أبواب مدنهم وقراهم، والتي كانت تعتريها في أحيان، نوبات ندم أو ضمير ونداءات إلى السلام. في بضعة أعوام قليلة فاقت حرب العراق وحرب سوريا أشد حروب التاريخ العربي الحديث فتكاً وقتلاً وتدميراً وتشريداً واقتلاعاً، لكن حرب غزة أو الحرب الإسرائيلية على غزة تخطت كل التصورات، حرب إبادة وسحق ومجازر رهيبة تحت أعين العالم كله.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لا تستقيم المقارنة بين حرب لبنان 1975 والحروب العربية الراهنة. هذه الحروب العنيفة جعلت اللبنانيين ينسون حربهم ولو أنهم على يقين أنها لم تنتهِ عام 1990 وأنها ما زالت مستعرة بالسر أو الخفية. أحدثت الثورة السورية التي سرعان ما استحالت حرباً داخلية مفتوحة على الحدود، من الخراب ما يفوق الوصف. تخطت الحرب الأهلية السورية المفهوم الأهلي للحروب. وكذلك حرب العراق. لا أهل هنا ولا أبناء وطن واحد ولا إخوة ولا أقارب، لا ماضٍ يشفع ولا انتماء إلى أرض واحدة ولا تقاليد ولا ذاكرة. النظام السوري وشركاؤه بلغوا من العنف مبلغاً فاق وحشية إسرائيل. وكذلك العشائر والمذاهب والملل المتناحرة في العراق وسواه، وكذلك الظلاميون والأصوليون من "داعش" و"نصرة"... لكن حرب إسرائيل على غزة تخطت أعنف صور الحروب التاريخية.
نتذكر بداية الحرب اللبنانية، لا نهايتها. حربنا لم تنتهِ أصلاً، وتوقفُ المعارك لم يعن البتة انتهاء الحرب. الحرب لا تقتصر على الرصاص والقذائف وخطوط التماس والخطف والقتل. لا تنتهي الحرب إلا عندما تقتلع جذورها من النفوس والذاكرة. لا تنتهي إلا عندما يشعر الجميع أنهم خاسرون، وأن لا أحد استطاع أن يلغي أحداً. كانت حربنا أهلية، وما برحت، أهلية في ما طرحت من أسئلة ظلت بلا أجوبة، أهلية في ما حملت من كراهية وحقد وطائفية ومذهبية وعبث وجنون، أهلية هذه الحرب هي التي زادتها احتداماً وانغلاقاً والتباساً. حرب يتبادل فيها الأهل مواقعهم وأكاذيبهم وأوهامهم ومآسيهم، في عراء الموت وتحت شمس الاستباحة. كيف تنتهي حرب في ظل رسوخ الطائفية والمذهبية والتحاصص والفساد؟ في ظل الصعود الدائم للسلطات الدينية والغياب الدائم للمواطنة والعلمانية والحرية؟
هل انتهت حرب لبنان لنتذكر نهايتها؟ إصرارنا على استعادة ذكرى ولادتها يدل على أن حربنا لم تنتهِ، ولن. لا يحتاج اللبنانيون إلى ساحات المعارك ولا إلى السلاح والرصاص كي يؤكدوا أن حربهم لم تنتهِ. حربهم هذه تخطت مواصفات الحروب التاريخية. إنها حرب الحروب الصامتة، حرب كامنة في الخفايا، حرب "السلم الأهلي" الذي لا يعلم أحد متى ينفجر وكيف.