برأيي، فانّ احدَ أهمّ اسباب غياب الحسّ الوطني في العراق، هي طريقة قراءتنا لما يُكتب ويُنشر في مجال الرّقابة والنّقد والمحاسبة والتقييم.
من المفروض ان نتعامل مع مقالات النّقد، مثلاً، بقاعدة (لا تنظُر الى مَنْ قال، وانظر الى ما قال) امّا نَحْنُ فنقرأ الاسم قبل المقال، والمقصود من النّقد قبل مادّة النّقد، لنحلّل الخلفيّة قبل الموضوع والنوايا قبل المعلومة!.
فاذا كان الناقدُ شيعياً والمقصود سنّياً، فهو طائفي، واذا كان الناقد سنّياً والمقصود شيعياً فهو من أيتام الطاغية الذليل صدام حسين، واذا كان الناقدُ مسلماً والمقصود مسيحياً فهو متدين متزمّت، واذا كان الناقدُ عربياً والمقصود كردياً فهو عنصري، واذا كان الناقدُ كردياً والمقصود تركمانياً فهو اقصائياً، اما اذا كان الناقدُ شيعياً والمقصود هو الاخر شيعي، فهوَ امّا حاقدٌ او حاسدٌ او له مشكلةٌ شخصيةٌ!.
مشكلتُنا هي انّنا نفهم النّقد مشكلةٌ شخصيةٌ، والتقييم مشكلةٌ شخصيةٌ، والمساءلة مشكلةٌ شخصيةٌ، والنّصح مشكلةٌ شخصيةٌ، والامر بالمعروف والنهي عن المنكر مشكلةٌ شخصيةٌ!
انّها ثقافة نتوارثها جيلاً عن جيل.
فلقد اتّهم معاويةُ أَميرَ المؤمنين (ع) بانّ مشكلةً شخصيةً، بالاضافة الى الحسد، كانت وراءَ موقفهِ من الخلفاء الثّلاث!!! ! وقد أشار الى ذلك الامام، مرّة، وحاججهُ به في كتاب له بقوله عليه السلام {وَزَعَمْتَ أَنِّي لِكُلِّ الْخُلَفَاءِ حَسَدْتُ، وَعَلَى كُلِّهِمْ بَغَيْتُ، فَإِنْ يَكُنْ ذلِكَ كَذلِكَ فَلَيْسَ الْجِنَايَةُ عَلَيْكَ، فَيَكُونَ الْعُذْرُ إِلَيْكَ}.
مِنَ الطّبيعي انّك مُّتهم اذا كُنتَ من جماعة المجلس الاعلى وانتقدت احدٌ من حزب الدعوة، او كنت من حزب الدعوة وانتقدت احدٌ من جماعة التيار، او كُنتَ من التّغيير وانتقدتَ احدٌ من الديمقراطي، او كُنتَ من الاتحاد وانتقدت احدٌ من الجماعة الاسلامية، وهكذا وهكذا.
امّا اذا كنت َمستقلاً فتلك هي الطّامُة الكبرى والمصيبةُ العظمى، فانت مُتَّهَمٌ بمجرد ان تنتقد اذ {لَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} وذلك لسببٍ بسيطٍ جداً وهو؛ انّ الارضَ مفروشةٌ بذيولهم، فأينَ ما وضعتَ قدمك دستَ على احدها! فأين المفرّ؟ فهذا قائدٌ تاريخيٌّ وذاك رمزٌ حزبيٌّ والثالث شخصيّةٌ فلتةٌ والرابع زعيمٌ اوحدٌ والخامس خالد وَالسَّادِس نادر، وهلمجرّا!.
لقد كتب لي احدُهم مرّة كنتُ قد انتقدتُ صاحِبٓهُ، يقول:
وما دخلُك انت، فكلاهما من حزبٍ واحد! لماذا تتدخّل في الموضوع؟ هل تظنُّ انَّ بإمكانكَ ان توظّف خلافهما لتحصل على مكسبٍ ما؟!.
هذه العقليّة تفترض انّ العراق ضيعَةٌ للحزب! يختلفون ويجتمعون ويفترقون ويتشاجرون ويتبادلون المواقع، كلّ هذا شأنٌ داخلي، فما دخل المواطن بكل هذا؟!.
في هذه الأجواء وبهذه العقليّات المريضة لم يعد يجرؤ احدٌ على نقدِ أحدٍ ابداً، الا اللّهم اذا كان عندنا مسؤولون مستقلّون، لوجدنا انّ النقد (بفلس) يصل الى حد التسقيط والاغتيال السياسي اذا لم يتجاوزهُ الى الاغتيال بالكاتم، ولكن؛ ماذا نفعل اذا كان كّل السياسييّن وكلّ المسؤولين حزبييّن؟!.
ماذا يمكن فعلُه؟!.
هل نترك النّقد والمراقبة والمساءلة خوف التشهير والتسقيط والطعن بالولاءات والخلفيات؟!.