بقلم: علي سعدون
الاصلاح كمفهوم وممارسة، قضية واردة وطبيعية وضرورية وقد مرت بتجربة مثلها شعوب متعددة ومختلفة، إذ كلما تصاعد نجم الفساد في دولة ما، انبثقت بموازاته رؤية معاكسة ومناهضة بسبب ميل عوام الناس الى العيش بطريقة افضل، اعني ما يصطلح عليه بالرخاء في الادبيات المختلفة..
لكن العراق بوصفه دولة ناهضة بعد عقود من التسلط والقمع والاستلاب، سيحتاج الى فلسفة للإصلاح وليس الى خطوات عادية وروتينية، معظمها ان لم نقل كلها تبدأ وتنتهي على الورق.
هذه الفلسفة يمكنها ان تجد طريقا للتطبيق اذا ما تضافرت الجهود الحكومية والمجتمعية للخوض فيها.وقد لا يختلف اثنان على ان التأسيس لمؤسسات الدولة بعد العام 2003 كان يسير وفقا لرؤية ضبابية وفوضوية بسبب التناحر والتحزب والتخندق الطائفي الذي خسر العراق بسببه ثرواته وموارده البشرية، لاسيما الهجرة/ هجرة الكفاءات التي تبحث عن فضاء آمن للعمل وبيئة مستقرة وهادئة لتحقيق ما تصبو اليه.
هذا التأسيس كان سيحقق الكثير من النمو والتقدم لولا الامراض التي اظهرها الاحتقان والتناحر والتنافس على الكسب غير المشروع، وصولا الى تفشي الفساد كآفة خطيرة على هذا النحو المقيت، مستنزفا موارد الدولة وإمكانات نهوضها الذي تعثر كثيرا، الامر الذي ادى الى نكوص حكومي في تقديم الخدمات العامة للمواطنين، وهي خدمات صار توفرها من بديهيات المجتمعات في كل بقاع العالم، اذ لا يمكن ان يعيش المرء اليوم دون وجود مستلزمات الحياة العادية، كالكهرباء والمياه الصالحة للشرب والسكن البسيط وغيرها من مقومات الحياة، خاصة في البلدان المصدرة للثروات الطبيعية او ما نسميه (البلدان النفطية) التي يمكنها ببساطة شديدة ان تقوم بإنشاء المؤسسات التي يمكنها ان تقوم بتوفير هذه الخدمات بطريقة سلسلة.
إن تأسيسا صحيحا كان كفيلا بتحقيق هذه الأهداف الخدمية الضرورية، لكنه تعثر بسبب اضطراب واقعنا السياسي الذي شهد تعقيدا بالغا طيلة الفترة الماضية، على الرغم من الممارسة الديمقراطية التي شهدها العراق خلال ثلاث دورات انتخابية كانت قد جرت بظروف معقدة وخطيرة للغاية وبتحد للرعب الذي اشاعته الجماعات الارهابية في اغلب مناطق
العراق.
اقول ان تأسيسا صحيحا في المرحلة التي تلت عام 2003 كان بمقدوره ان يفعل الكثير، لكن التجربة العراقية الجديدة التي استدعت المزيد من الاخطاء، كانت ضرورية لتحقيق نوع من الانتباه الى مسافة ذلك التأسيس والاستفادة من اخطائه المتكررة، وهو ما يجب ان ينتبه اليه صانع القرار اليوم في التشريع والتنفيذ، وهو يخوض معركة الاصلاح ضد منظومة هائلة ومتضخمة من الفساد والتخريب في معظم مفاصل الدولة، فضلا عن اضطلاع الكثير من المتنفذين في صنع الفساد واتساعه على هذا النحو الواضح، والذي افرز تقاطعا مع طموحات النخب العراقية المنتفضة اليوم والتي راهنت كثيرا على نهضة العراق واستعادته لدوره التاريخي والحضاري، الذي كنا نظن انه قاب قوسين او ادنى من التحقق والتشكل وفق احلامنا الوطنية، على الرغم مما يعانيه العراق وعمليته السياسية الناشئة والجديدة، من ارهاب لم يشهد العالم مثله طيلة قرون خلت، الامر الذي اربك مسيرته بشكل لا يقبل اللبس، واستنزف امكاناته الاقتصادية والبشرية وعطل الكثير من مشاريعه الستراتيجية.
إن فلسفة الاصلاح الحكومي باعتبارها خطاطة علمية ومهنية تقرأ المرحلة السياسية والاقتصادية بعناية بالغة، ستعمد الى المرور ببواطن المرحلة كلها – مرحلة التأسيس – وما تلاها، ولن تتوقف عند مفصلٍ محدد، وانما ستعمل على تحليل الازمة، بمراجعة لمواطن الخلل والنكوص الذي ادى الى افراغ تلك المسيرة الناهضة من محتواها الحقيقي، وجعلها في مهب رياح الفوضى الاقتصادية عند عتبات اول ازمة اقتصادية حقيقية يمر بها العراق، البلد الغني بموارده الطبيعية والبشرية، والذي اقام موازناته الانفجارية طيلة السنوات السابقة، دون ان يرى اختلافا جديا في نوع الخدمات المقدمة لمواطنيه الذين ترتفع اليوم اصواتهم بالأسئلة وسواها دون ان يتلقوا اجابات محددة وواضحة عن ذلك الضياع الذي تكرر كثيرا.
فلسفة الاصلاح اذن وفق ما تقدم، هي مواجهة حقيقية للماضي والحاضر والمستقبل بجدية وحزم وصبر وطول أناة..
وهي بالتالي خطوة اولى في الاتجاه الصحيح، الاتجاه الذي انتظره المواطن طويلا دون ان يلوح في الافق طيلة السنوات الماضية، بسبب من محاصصة مقيتة جثمت على صدور الناس ولم تترك لهم اي خيار اخر سواها، وهذه المحاصصة التي هي كذبة روجها سياسيو الفساد والتغانم، ما هي الا ديباجة ومفتتح المرحلة المربكة التي أودت بأحلام الوطن كله – من اقصاه الى اقصاه – وقد كلفته سنوات من نهضته ومستقبله. هكذا ستكون فلسفة الاصلاح منهجا لبناء الدولة وليست فرصة لترقيع احلامه ومشكلاته بإجراء هنا او تعديل هناك.
ما سنحتاجه اليوم هو المراجعة الشاملة لعقد من الزمن لم يفلت من فساده اي شيء، وقد تغلغلت مخالبه في ارواح وأجساد المغلوبين على امرهم من فقراء ومعوزين وجرحى وشهداء وشرائح اخرى، فضلا عن تهرؤ منظومة الدولة التي كنا ننتظر نهضتها ونموها بفارغ صبر.
ستتطلب فلسفة الاصلاح ايضا تضافر الجهود الوطنية مجتمعة، وليس الجهود الحكومية وحدها، ويقينا ثمة من سينتصر لهذا الاصلاح من السواد الاعظم من الشعب، من خلال المساهمة في ارشاد الحكومة الى مواطن الخلل – بالتنبيه والاشارة – اضافة الى العمل الجاد في مختلف المجالات.