ثمّةَ جانب لابدّ من مراعاته في قراءة صناعة الشّعر عند القدامى حتّى لا يذهبنّ في الظنّ أنّنا أوتينا من سعة العلم ما لم يؤتوا، ورزقنا من دقّة الفهم ما لم يرزقوا، ونتّخذ ذلك ذريعة لقراءة مرسلة ترخي للتّأويل وتوسّع فيه، دونما سند من هذا النّظام اللّغوي الخاصّ التّاريخي. فليست القصيدة شيئا دُونًا نخاطر به ونملي عليه ما ليس منه، عسى أن نظفر فيه بمطلوبنا من الشّعر «استعادة الوعي الكلّي بالأشياء»، كما نجد عند بعض معاصرينا. فهذا لا يعني أكثر من أنّنا نطلب من الشعر القديم، أن يرشح بما ليس فيه، ويبوح بما هو لاحق عليه من «وظائف» الشّعر أو من مفاهيمه. ومن اللاّفت مثلا أن يسلّم المعاصرون من دارسي أبي تمّام، بهذه «المصادرة» ويسلّطوها على شعره، وكأنّها اكتشاف لم يسبقوا إليه.
فقد تذرّع أدونيس بصورة «القصيدة البكر» المطّردة في شعر أبي تمّام ليخلص إلى أن أبا تمّام يصدر عن «أوّلية» اللّغة الشّعريّة، ويريد أن يبدأ الشّعر من «كلمة أولى»، ولا يستلمه من القصائد المتراكمة في تاريخ الشّعر. وهذه الكلمة تصل- عند أدونيس- بين ذات الشّاعر وأشياء العالم، وتلتقط من الشّيء فاعليّته وترينا اندفاعه وتفجّره وبكارته. ومن ثمّة تتسلّل إلى الكلام شرارة لغويّة جديدة هي شرارة الشّعر الذي يعيد كلّ شيء إلى بدايته الأصليّة.المشكل في هذا النّوع من القراءة أن أسطورة الأصل والبدايات، تؤخذ لدى البعض على أنّها مسلّمة أو حقيقة من حقائق اللّغة. فقد يغفل الشّاعر، وهو ينشئ قصيدته، على أن الكلمات علامات ورموز اصطلاحيّة توافقيّة، وقد يفسح المجال لتعبيريّة صوتيّة خاصّة به. ولكن لا في هذا ولا في ذاك تكمن قيمة القصيدة. فالقصيدة لغة حيّة، والكلمات وهي تتجاذب وتتدافع، يمكن أن تغيّر ما يطوف بذهن صاحبها من أخيلة وصور أو هي تقصّر في أدائها، ويأتيه منها ما لا يريده، ويريد منها ما لا يأتيه. أمّا التّعبيريّة الصّوتيّة التي يتأتّاها، أو هذه «البكارة» التي يدّعيها لشعره، فهي مقصورة على تصوّره الخاصّ للّغة أو للشّعر. ولم يكن أبو تمّام يخترع، بهذه الإشارات، نظريّة في الشّعر ولا في اللّغة، بل أن القدامى اختلفوا في ما انفرد به أبو تمّام من المعاني المخترعة. فذهب محمّد بن العلاء السّجستاني إلى أنّها لا تزيد على ثلاثة، وخالفه الآمدي وقال: «إنّ له، على كثرة ما أخذه من أشعار النّاس ومعانيهم؛ مخترعات كثيرة وبدائع مشهورة». على أن ابن رشيق يقول إن أكثر المولّدين اختراعا وتوليدا، أبو تمّام وابن الرّومي. ويقول ابن الأثير أن معانيه المبتدعة تزيد على عشرين. وكانوا يكبِرون هذه «المخترعات» على قلّتها؛ على الرغم من أن القضيّة ليست قضيّة كمّ، وإنّما هي قضيّة نوع، بل أن لغة أبي تمّام ترتبط بالعمليات الذّهنيّة أكثر من ارتباطها بالأشياء. ونكاد لا نقف على ما يسمّيه أدونيس اندفاع الأشياء وتفجّرها، أو طلاقتها وتدفّقها، إلاّ في الفلتات النّادرة من شعره. وفي ما عداها فإنّ الشّاعر في أبي تمّام هو الباحث الدّارس والمستبصر المتأمّل. ولم يجانب القدامى الصّواب عندما لاحظوا أن الصّنعة من الصّفات البارزة في شعره. بيد أن من دواعي الإنصاف أن نشير إلى أن غرابة الصّورة عند أبي تمّام وهي من غرابة لغته هي التي أغرت هؤلاء المعاصرين بهذا النّوع من الطّرح. ذلك أن اللّغة المألوفة، وهو ما لا نتنبّه إليه عادة كثيرا ما تجعل الأشياء الطّبيعيّة، بل الطّبيعة الإنسانيّة نفسها، غاية في الغموض. والألفة تذهب بالأشياء أو هي لا تجلوها في كونها الخاصّ، وما نتلقّاه من العالم وأشيائه ينقلب، بحكم العادة والألفة إلى نماذج تحتذى ورواسم لا نصغي لها. وغرابة اللّغة عند أبي تمّام، إنّما تتأتّى من هذا الجانب، فقد ضمّ «العاميّ» و«المبذول» إلى «الفصيح» «المهجور»، وجعل المألوف كما لو أنّه غير مألوف، الأمر الذي يغري بالقول إن اللّغة عنده تنزع عن الأشياء شريط الألفة والعادة، أو هي تضفي عليها سحر الجدّة والطّرافة. فربّما توهّمنا بسبب من ذلك، أن اللّغة لديه تعيد إنتاج الأشياء، أو هي ظلّ الأشياء ذاتها، أو أن وظيفتها تكاد تنحصر في استعادة الإحساس بالأشياء. وربّما عزّزت هذا الوهم ظاهرة مطّردة في شعره هي اعتماده اعتمادا يكاد يكون كلّيّا على الإسميّة في تركيب الصّورة، وعلى الأسماء في خواتيم الأبيات، بل أن قسما منه يخلو من الأفعال خلوّا تامّا. وقد تدفع ظاهرة أسلوبيّة كهذه إلى استنتاج يبدو للوهلة الأولى سائغا مقبولا فـ»خلوّ الجمل من الأفعال يجعلها تأخذ طابع الحقائق الصّارمة المنفصلة عن عرضيّة الحدث التي تطرأ على الأشياء…»، كما يقول مصلح السريحي.الحقّ أن اطّراد الأسماء في خواتيم الأبيات سمة تكاد تكون ملازمة لأكثر الشّعر العربيّ القديم، ولعلّ مردّها إلى التّقفية والإنشاد وما يقتضيه من ضرورة النّبر في آخر البيت على «ذروة المعنى». ومن شأن الاسم أن يعزّز هذا النّبر كلّما وقع على كلمة بأكملها. أمّا إذا اعترضنا بما أثبته ابن رشيق من أن أفعالا بعينها مثل «أضحى وبات وظلّ وغدا» أو عبارات مثل «قد» و«يوما» وأشباههما، كثيرة الدّوران في شعر أبي تمّام وأنّ ظاهرة كهذه، وإن عدّها ابن رشيق من الحشو وفضول الكلام؛ تعارض الاستنتاج السّالف، فإنّ أصحابنا من المعاصرين لا يعدمون إجابة يعاجلون بها من دون تروّ، فـ«علينا أن ندرك أن الفعل الذي يقلّ في شعر أبي تمّام هو الفعل الذي ينطوي على الدّلالة على الحدث، والأفعال التي عدّها ابن رشيق كثيرة الدّوران في شعره أفعال تجمّدت فيها هذه الدّلالة ولم يبق فيها إلاّ دلالة حركة الشّيء في الزّمان، أي أنّها أفعال ترصد حركة الصّيرورة التي تعرض للأسماء في حدّ ذاتها». وربّما صحّ هذا الوصف، ولكن أن نحتجّ به ليصبح أبو تمّام، بأخذة ساحر، شاعرا «صوفيّا» أو «رومانسيّا»، فهذا ما يستدعي كثيرا من حسن التّناول.إن النّصّ هو مادّة التّأويل، ومن مقتضيات الموضوعيّة الناّبعة لا شكّ من وعي القارئ الذّاتي أن نحاول فهم هذا الموروث من داخل الموروث نفسه وحسب منطقه الذّاتي؛ فقد يتسنّى لنا على هذا الأساس أن نصيب من النّص بعض معناه الكلّي أو معناه «الحدث» الذي يتولّد من خلال ما نحمله إلى النّصّ وما يحمله النّصّ إلينا؛ وأن نترسّم القراءات المتعاقبة عليه من منظور «التّدلال»، أي ما يصطنع دلالات النّصّ المتغيّرة بتغيّر القراءة وأدواتها ومواقيتها من جهة أخرى. على أن هذا المسعى مرتهن بمدى احتكامنا إلى شعريّة النّصّ وشعريّة قراءته في آن. ولا نماري في