مثل أي مرض، تزداد الظاهرة المراد فهمها غموضاً وصعوبة إن انشغلنا بالأعراض وأهملنا الأسباب.
في دراسة حديثة نشرتها مجلة أتلانتك، يرى باحثون غربيون مهمّون أن جلّ الدراسات المهتمة بتفسير ظاهرة داعش قد ركزت على أعراض الحركة دون الولوج في أسباب نشوئها ومبررات وحشيتها المفرطة. ثم أن الحديث عن الأسباب لو حصل فلن يكون خارج رؤية الحقل المعرفي الواحد.
هناك مَن ينحاز للتفسير الاجتماعي لظاهرة داعش ومنهم من يعزوها لأسباب سياسية وآخرون يرونها مشكلة دينية. الحقيقة أن داعش مشكلة متداخلة Interdisciplinary Problem.
داعش ليست ديناً ولا حركة سياسية. ليست عُصاباً نفسياً ولا فلسفة مجتمعية. هي عالم متداخل صنعته عوامل عدّة تداخلت مع بعض لدرجة يصعب على علم الاجتماع والفلسفة والدين وعلم النفس تفسيره منفصلةً. لن يفسر داعش حقل معرفي واحد بل وحدها الرؤية المتداخلة Interdisciplinary Perspective تستطيع وصل النقاط مع بعض وإعطائنا فهم متكامل عن هذا التنظيم.
وعليه تشدّد الدراسة المنشورة في أتلانتك على ضرورة فهم الأسباب والسياقات المتداخلة لنشوء داعش بدلاً من التركيز على داعش نفسها.
التركيز على أسباب المرض بدلاً من أعراضه وهو ما أصطلح عليه طبياً بالباثولوجيا Pathology، أي علم دراسة أسباب الأمراض ومسبباتها وليس فقط معالجة المرض وإنهاء أعراضه. الباثولوجي هو علم قائم على رؤية متداخلة، رؤية تستعير مفاهيمها واصطلاحاتها من حقول إنسانية متعددة وليس بالضرورة من الطب فقط.
يعتقد عالم النفس الأمريكي الشهير وأستاذ علم النفس الاجتماعي في جامعة ستانفورد ألبرت باندروا، أن العنف ليس من طبع الإنسان وانما نتيجة ظروف تاريخية واقتصادية وثقافية خارجة عن سلطته وإرادته. هذه الظروف باستطاعتها تحويل الإنسان الطبيعي الى إرهابي إن اجتمعت سويةً في مكانٍ ما.
داعش ليست سوى ظروف وسياقات متداخلة وغض النظر عن هذه السياقات يعني غض النظر عن أسباب الظاهرة وتضييع فرصة فهمها علمياً.
يشاطره الرأي الباحث في شؤون الإرهاب جون هورغان ويقول علينا أن نهجر السؤال التقليدي "لماذا ينضم هؤلاء لمنظمات إرهابية" ونبدأ أسئلتنا بكيف وأين ومتى انضموا لتلك المنظمات. أسئلة الـ "كيف وأين ومتى" أسئلة باثولوجية جذابة للباحثين لأنها تهتم بالظروف المنتجة للإرهاب وليس بالعالم الداخلي للإرهابيين ومنظماتهم.
باعتقادي الشخصي أن هذا الكلام يفسر لنا جزءاً مهماً من الصورة، فلم يظهر التطرف الاسلامي صدفة بل كان نتاج عملية تاريخية معقدة هيأت لها ظروفنا الحالية المساحة النفسية الكافية أن يتقبلها جمهور عريض من شباب المسلمين. هناك، على الأقل، عاملان مهمان دفعا باتجاه التطرف في منطقتنا العربية والإسلامية، الأول داخلي حيث عانت البلدان الإسلامية من حكام علمانيين متطرفين قمعوا الحريات الدينية بطريقة شديدة جداً. لعلّي أذكر هنا شاه إيران وجمال عبد الناصر وصدام حسين واستخدام كل منهم سلطته وسجونه وأسلحته في محاربة الدين بطريقة قاسية. ساهمت سياسات هؤلاء الرؤساء والملوك في إنعاش سوق التطرف الاسلامي وظهور حركات إسلامية متطرفة عبّأت مجتمعاتها بمشاعر الغضب ضد ما تراه علمانية غير متسامحة.
ثمّة عامل خارجي أيضاً ساعد في تنشيط حركات التطرف في مجتمعاتنا الاسلامية وهو عامل التدخلات الغربية واحتلالات دول الاستعمار لدول المسلمين سابقاً وحالياً. احتلال الغرب لدول العرب والمسلمين بعث الروح في الخطاب الاسلامي ليبني ثقافة ممانعة ضد الثقافة الغربية. ورغم أن صوت القوميات، العربية وغيرها، كان هو الصوت الأعلى في البلدان الاسلامية في مواجهة تلك الاحتلالات إلّا أن الخطاب الديني الاسلامي القابع وراء مقولات القومية قد لعب دوراً مهماً في تحفيز وتنشيط سلاح المقاومين ضد المحتلين آنئذ.
كما أن ظروف المنطقة الإسلامية الحالية من انحياز غربي غير مبرر لإسرائيل وقضية احتلال العراق وتدخلات الغرب في القضايا العربية والإسلامية سيما القضية السورية قد هيّأت نفسياً الشباب المسلم لربط الماضي بالحاضر وجعلتهم يعتقدون أن منهجية الغرب الاستعمارية تجاه دول المنطقة الإسلامية ما زالت مستمرة حتى اليوم.
حتى أن باحثاً عراقياً مهماً يقيم في فرنسا قد ذكر لي قبل أيام أن الشباب الجزائري المتطرف في ضواحي باريس لا يزال يعتقد ان حرب الجزائر ضد فرنسا لم تنته بعد وأن عملياتهم ضد الفرنسيين ما هي إلّا امتداد لتلك المشاعر الجزائرية السابقة. لو لم تكن داعش ، لانخرط هؤلاء الشباب في أي حركة متطرفة أخرى حتى لو كانت ماركسية ربما. داعش وفّرت لهم مناخاً ممتازاً ومبرراً مهماً أن يعيدوا توظيف الحنق الجزائري في سياق أوسع وأكبر من الجزائر، ألا وهو السياق الإسلامي. التهميش والإذلال والمعاملة الرديئة التي يحظى بها شباب الضواحي هؤلاء تزيد من مشاعر الكراهية عندهم. مشاعر قد تظهر عبر سيارة مفخخة أو عبوة أو رشقة سلاح تقتل عدداً من الأبرياء. أنها شيء من التنفيس الجمعي Collective Catharsis لغضب متراكم في صدر الجماعة كما يسمّيها فرانز فانون.
مع اعتقادي أن العاملين، الداخلي والخارجي، قد ساهما فعلاً في إنتاج التطرف الإسلامي إلّا أنني أرى بعدم اكتمال حلقة التطرف بهما. الالتصاق بهذين التفسيرين لظاهرة التطرف عموماً، وداعش خصوصاً، قد يبدو وكأنّه تبرير للتطرف وليس تحليلاً لمسبّباته وأصوله.
هناك محرّك أساس ومهم يلف كل هذه الاسباب ويصيغ نهاياتها. هذا المحرك هو الدين. فلو كانت أسباب انضمام مهمّشي ضواحي باريس لداعش سياسية واجتماعية فقط لكنّا قد شهدنا داعشيين من أديان أخرى غير الدين الإسلامي.
بالطبع، الاسباب السياسية والاجتماعية موجودة لكن عملية تنفيس الغضب لا تكون إلّا من فوهات وقنابل نصوص الدين وخطاباته، كما يعلم الجميع.
ربما لكل بلد ظروفه السياسية والاجتماعية والاقتصادية التي ولدت له داعشه الخاص لكن المحصلة النهائية تقول إن كل الدواعش اليوم وفي كل دول العالم متفقون في العقيدة والدين. متفقون على الخلافة وانتصارها في آخر الزمان. متفقون على منازلة العالم في دابق. متفقون على دخول الأتراك الموصل ووصول قوى الغرب الى الشام. قالها مسلم في صحيحه قبل مئات السنين، "نزول الترك الجزيرة ودخول الروم الرملة".
باثولوجيا داعش سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية لكن وقودها الدين ونصوصه. التركيز على تلك الأسباب على حساب السبب الأساس (الدين) قد يخل بشروط البحث المتداخل Interdisciplinary Reseacrh ويجعلها رؤية ناقصة غير مكتملة الحقول.
*رابط دراسة الأتلانتك:
http://www.theatlantic.com/international/archive/2015/06/terrorism-isis-motive/395351/
خاص بـ "واي نيوز"