مرج الزهور .. النضال من بعيد

آخر تحديث 2015-12-20 00:00:00 - المصدر: ساسة بوست

وفاء هلالFollow @wafaahelall

توقفت عجلات السيارة النقل بحمولتها البشرية أمام وابل من الرصاص أطلقه جنود الاحتلال، على إثرها ترجل جميع من كانوا في الشاحنات، وللمرة الأولى يجتمع كل هذا العدد من المبعدين في مكان واحد على حدود الوطن.

تم اعتقال الجميع في ليلة باردة من ليالي ديسمبر – كانون الأول ، كإجراء انتقامي من قيادات العمل الإسلامي في الضفة الغربية وغزة؛ على خلفية خطف وتصفية أحد جنود الاحتلال، كان ورقة ضغط للإفراج عن الشيخ أحمد ياسين، لم تقبل إسرائيل المساومة، وتم إعدام الجندي.

٤١٥  فلسطيني قرر الاحتلال إبعادهم إلى لبنان، وبالفعل، وصلوا الحدود اللبنانية الفلسطينية، إلا أن السلطات اللبنانية منعت دخولهم؛ لعدإعلامهم بعملية الإبعاد، كما رفض المبعدون أن يكونوا لاجئين بعيدا عن الأرض والأهل، وعلى إثر ذلك تم توقيف الشاحنات – التي يمتلكها دروز – وأُجبر من فيها على النزول منها في منطقة ‘ مرج  الزهور’ .

في العراء جلس المبعدون حتى انتشرت أخبارهم، وتوصلت إليهم هيئات إغاثية عالمية وإقليمية، كان أولها الصليب الأحمر الذي عرض توزيع الخيام والمؤن عليهم، لكن المجموعة المُبعدة رفضت ذلك،  وفضلوا أن يدبروا أمرهم بأنفسهم، وبدأت حكاية مرج الزهور .

٤١٥ مُبعد  في وادي يُعرف بوادي العقارب – لكثرة الزواحف القاتلة به والضواري المفترسة – منهم ١٢ طبيب و١٤ مهندس و ١٧ أستاذ جامعي و ١٠٠ عالم و٧ صحفيين وغيرهم بدأوا في إقامة مخيمهم من أجل الضغط على دولة الاحتلال في أن تبقى قضيتهم معلقة، فلا هم لاجئون انتهى أمرهم ولا هم معتقلون في سجون الاحتلال .

تحول المخيم بخيامه ومبعديه إلى استوديو مفتوح لجميع المحطات العالمية، نقلوا من خلالها كل أفكارهم وأرائهم وطلباتهم بشكل واضح وعلني مما أثر على آراء الصحفيين الأجانب  :

• مراسلة شبكة CNN الأمريكية ( برانت سدلر) : إن المبعدين يتمتعون بمعنويات عالية، وهم متكاتفون رغم غموض مصيرهم.
• مراسل صحيفة الإندبندنت قال: ” كان المبعدون في غاية البراعة حيث استقطبوا الصحافة العالمية بابتساماتهم وأعمالهم ، ولم أجد مكانا أو حدثا استطاع أن يستقطب هذا العدد من الصحفيين كمرج الزهور حيث يعسكرون” .
• مراسل مجلة هولندا الحرة ( ادياتوس دندون ) :” لقد مرغت إسرائيل وجهها بإبعادكم فأنتم أصحاب حق، لستم إرهابيين ، لقد لمست فيكم حب العقيدة والفكر الثوري وثقافة المقاومة،عاش الصحفي أسبوعاً كاملا في خيام المبعدين واعدا بنقل معاناتهم.
• الصحفية البليجيكية ( مارلين بوذاتيكا): لقد ذهلت عندما قرأت وعرفت تكوين شريحكتم:
(علماء، أطباء ، مهندسون ، أكاديميين ، شيوخ ، شباب) وهذا يدحض أقوال إسرائيل بأنكم إرهابيون.

روبرت فيسك علق على وضع المبعدين قائلا ، المبعدون واعون جيدا للحرج الذي تتعرض له إسرائيل والتمارين الرياضية التي اتخذت من الجبال الباردة مسرحا لها ليست لصحتهم فقط بقدر ماهي إغراء لطواقم التصوير العالمية لم يحدث لأحد في المنطقة أن جلب هذا العدد من الصحفيين كما فعل الفلسطينيون بابتساماتهم وعذاباتهم فوق تل مرج الزهور

من هنا استطاعوا تحويل الإبعاد من عقاب إسرائيلي ، إلى قضية رأي عام دولي إقليمي وعالمي ساهمت بشكل كبير في إحراج إسرائيل على جرائمها المتكررة بحق الشعب الفلسطيني .

تحول المخيم لمدينة صغيرة بها بعض مقومات الحياة ، تعهد البعض بإيجاد الماء من القرى المجاورة – التي كان بعضها يبعد ٨ كيلو مترات – سيرا على الأقدام ، وتم تقسيم الخيام حسب مناطق الاعتقال لرام الله والخليل ومبعدي چنين نابلس وأريحا وطولكرم وغزة كما أطلقوا أسماء الاشهداء على بعض الخيام

شاهد هنا وثائقي من قلب مرج الزهور يؤرخ تجربة نضال المبعدين 

ليتمكن المخيم من الاستمرار انتخبت قيادات، وقسمت لجان ليستطيع كل معرفة دوره في خدمة الآخرين :
1-لجنة علاقات خارجية : 
تتعلق بإستقبال الوفود الإعلامية والزائرة والتنسيق معها ومع المؤسسات والهيئات التي كانت تقدم المساعدات المعنوية أو المادية .

2- لجنة إعلام خارجية وداخلية :  
تهتم بنقل الواقع الذي يعيشه المبعدون إلى كافة أنحاء العالم عبر اللقاءات والتصريحات وعبرالبيانات الداخلية والنشرات الخاصة التي كانت توزع بين المبعدين، وقد كان على رأس هذه اللجنة الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي،وكان هو المتحدث الإعلامي باسم المبعدين .

3- لجنة التموين :  
تهتم بكافة المؤونات التي يحتاجها المخيم بالتسنيق مع اللجان الأخرى والداعمة .

4- لجنة التعليم والصحة :  
كانت من أبرز اللجان وأكثرها خدمة للمبعدين، حيث كان من ضمن المبعدين عدد لابأس به من علماء ومفكرين وأطباء وخطيبي المسجد الأقصى وخطباء غزة والصفة الغربية.
ومن أبرز ماتم تدشينه في هذا المخيم كان جامعة ( ابن تيمية ) التي أنشأوها في العراء، وكان مدرجها الوحيد “مدرج العودة” كومات من الأحجار بعضها فوق بعض، وحاضرهم فيها العلماء والأساتذة، وعلى رأسهم دكتور عبد الفتاح العويسي، الذي تعهد لهم بأنهم سيدرسون ويتم اختبارهم وتعتمد نتائجهم ودرجاتهم العلمية من الجامعة بعد التنسيق مع جامعات الضفة الغربية وغزة، وبهذا أصبح الإبعاد فرصة ذهبية للتفرغ للدراسة و نيل الشهادات العليا.

وقام الأطباء في هذه اللجنة بإقامة عيادة طبية، وقد تم تجهيز هذه العيادة بعدد بسيط من المعدات والأدوية واللوازم الأخرى ، حيث أصبح بمقدور هذه العيادة الطبية بإجراء عمليات جراحية متوسطة، ومن الطريف أن عددا من سكان مرج الزهور تلقوا علاجا منها وأجريت لهم بعض العمليات الجراحية المتوسطة .

رغم صعوية المعيشة وخاصة الجانب الإنساني المرتبط بالأهل والأسرة، إلا أن بارقة أمل أطلت على المبعدين من خلال الهواتف التي وصلت إلى المكان عبر شركات اتصالات ، حيث وجد المبعدون خطا هاتفيا دوليا مكنّهم من الاتصال بذويهم.

الموقف الرسمي العربي والدولي من قضية المبعدين 

يصف حسني البوريني- النائب في المجلس التشريعي الفلسطيني عن كتلة التغيير والإصلاح وأحد مبعدي مرج الزهور – في دراسة له الموقف الرسمي العربي من قضية الإبعاد مليئا بالأسى والحسرة؛ فالعجز العربي عن نصرة المبعدين وصل إلى حد لا يمكن تصوره، باستثناء الموقف اللبناني، حيث رفضت الحكومة اللبنانية دخول المبعدين إلى مناطق السيادة اللبنانية، في انسجام تام مع موقف المبعدين، وقد تطور هذا الموقف إلى نوع من التنسيق المسبق بين قيادة المبعدين والجيش اللبناني على الكثير من الخطوات الميدانية التي قام بها الطرفان.

وحسب البوريني فقد كان الرد العربي على الإبعاد باهتًا، إذ اعترض بعض الزعماء والمسئولين العرب، في تصريحات رسمية، على الإجراء الإسرائيلي؛ لأنَّ “من شأنه أن يؤثر على عملية السلام”، وأعلنوا أنهم سينسحبون من جولات المفاوضات، لكنهم ما لبثوا أن تراجعوا عن هذا القرار وأعلنوا في اجتماع وزراء الخارجية العرب في دمشق 17/4/1993 استنئناف جولات المفاوضات في واشنطن والذهاب للجولة التاسعة، كما أنهم تعمدوا تجاهل المبعدين فلم يزرهم وفد عربي رسمي، باستثناء الوفدين السوداني والليبي، وليت الأمر توقف عند هذا الحد، فقد بادر بعض المسئولين العرب إلى تقديم حلول هزيلة ومبادرات جزئية ليس فيها ما يؤكد العودة الجماعية للمبعدين، وكأنَّه يريدون حفظ ماء الوجه للإحتلال.

أمَّا الموقف الدولي فتمثل بقرار مجلس الأمن رقم 799 الصادر في يوم الجمعة 18/12/1992، حيث أدان المجلس “إسرائيل” على فعلتها، واعتبر الإبعاد انتهاكًا لاتفاقية جنيف الرابعة لعام 1949، وطالب الاحتلال بإعادة المبعدين إلى ديارهم فورًا وبدون قيد أو شرط. كما وجه الأمين العام للأمم المتحدة رسالة إلى رئيس مجلس الأمن الدولي في 4/1/1993 أبلغه فيها أن الإبعاد هو انتهاك لحقوق الإنسان، أما الدول الفاعلة على الساحة الدولية فكان رد فعلها فاترًا باستثناء الولايات المتحدة التي أقدمت على طرح بعض الحلول والمبادرات لحل القضية.

العودة 
بقي هؤلاء المبعدون في مرج الزهور حتى عادوا على مراحل، فكان أول العائدين: باسم السيوري، أصغر المبعدين سنًا، الذي أعلن الاحتلال أنَّه أُبعد خطأ وأعاده إلى بيته؛ والمبعد المريض زهير لبادة الذي أعيد إلى السجون الإسرائيلية. وتم ذلك في 7/1/1993.

ثمَّ أعيد 17 شخصًا آخر إلى السجون الإسرائيلية في 23/1/1993، وأعلن الاحتلال أنَّهم أبعدوا خطأ، وأعيد المريض المبعد علي سويعد أبو عجوة في 21/6/1993، ثمَّ عادت الدفعة الأولى المكونة من 189 شخصًا في 9/9/1993، اختار منها 8 مبعدين عدم العودة، وتلتها الدفعة الأخيرة المكونة من 214 شخصًا في 17/12/1993، اختار منها 19 مبعدًا عدم العودة.

تأتي مزايا الإبعاد على رأس أفكاري حين أذكر مرج الزهور فقد ساهم في تشكيل ملامح الكثير من قيادات الحركة الإسلامية، و دعم التجربة الإسلامية المقاومة بشكل خاص في فلسطين، واقعهم الصعب في المخيم دفعهم لمواجهة الاحتلال بأساليب إبداعية صقلت قدراتهم في مواجهة المواقف، وهيأت منهم الكثيرين لتفرز لنا كوادر سطع نجمها بعد ذلك.

فقد برز عبد العزيز الرنتيسي وجمال منصور كأهم قائدين داخل المخيم، وتعزز دورهما لاحقًا إذ أصبحا من أهم القيادات التي صاغت مواقف الحركة وسياساتها في مرحلة ما بعد أوسلو حتى استشهادهما، ويمكن كذلك الانتباه إلى طبيعة الدور الذي سيلعبه إسماعيل هنية لاحقًا، باعتباره تطورًا طبيعيًا لما كان عليه دوره إبان مرج الزهور، وكذلك شخصية مثل عدلي يعيش الذي كان يطلق عليه المبعدون رئيس بلدية مرج الزهور، والذي أصبح لاحقًا من أنجح رؤساء البلديات في الضفة الغربية، أو اطلاع فوزي برهوم بدور في اللجنة الإعلامية مما سيؤهله ليكون لاحقًا ناطقًا باسم الحركة في قطاع غزة .

لذا فلقد ألهمتنا تجربة مرج الزهورأن الدفاع عن الأوطان والمبادئ وسبل المقاومة والتحرير لا تلتزم بأرض ولا زمان محددين، تبقى دائما الثوابت هي ما يدفع صاحب الحق للبقاء على حقه مهما حرم منه ، حتى لو كان نضالا من بعيد.

هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست