تمهيد: “إن الرحم الذي خرج منه هذا الوحش ما يزال خصبًا”. هكذا اختتم تيموثي غارتون آش مقالته، بمقولةٍ لبرتولت بريخت يصف ويحذر فيها من العوامل التي أدت لظهور الوحش النازي. تيموثي غارتون آش هو أستاذ الدراسات التاريخية بجامعة أكسفورد، وزميل بارز بمعهد هوفر بجامعة ستانفورد. يحاول آش في مقالته عرض نسخة مما سيكتبه التاريخ مستقبلًا عن تاريخ أوروبا، بعد مرور قرنٍ كامل على الحرب العالمية الثانية، وعلى حد قوله لسنا بحاجة للانتظار؛ إذ يمكننا من الآن التنبؤ به.
اتحادٌ مقسمٌ نَسِي تاريخه، تفسده ذكرياته من أهوال القرن العشرين
اقتباس من كتاب “أوروبا الحديثة، تاريخ أكسفورد” المنشور في 2045
“يمكن اعتبار أوائل عام 2005 أنها ذروة ما أطلق عليه لاحقا المشروع الأوروبي، ففي ربيع 2004، انضمَّت عشرة دولٍ من دول أوروبا الوسطى وأوروبا الشرقية إلى الاتحاد الأوروبي. مما جعله أكبر اتحاد كومنولث ديموقراطي ليبرالي في التاريخ الأوروبي. واقترح الاتحاد المعاهدة الدستورية المعروفة شعبيًا باسم “الدستور الأوروبي”. وتنص على وجود عملة موحدة -اليورو- والتي بدا حينها أنها كانت تعمل بشكل جيد. وبالنسبة إلى الأوروبيين أنفسهم، ساد بينهم شعور بالتفاؤل من جميع النواحي. وساهم اندلاع الثورة البرتقالية في أوكرانيا المؤيدة للاتحاد الأوروبي في إقناع فلاديمير بوتين الرئيس الروسي وقتها، أن ما قد بدا له من كون الاتحاد الأوروبي ما بعد الحداثة صار لينًا، في الحقيقة هو يشكل تهديدًا حقيقيًا لسلطته. حتى أن توني جودت المؤرخ المشكك، قال في كتابه “تاريخ أوروبا؛ بعد 1945” الذي نشر في عام 2005 “إن القرن ال 21 قد ينتمي إلى أوروبا”.
“إلا أن العقد التالي أثبت أن تلك لم تكن إلا أوهام عظام. فقد مرت القارة الأوروبية بمجموعة من الأزمات المتلاحقة التي تركت القادة الأوروبيون في ترنح. بدءًا من رفض الدستور الأوروبي في استفتاءٍ أجري في فرنسا وهولندا، واستمرار أزمة طوال عقد كامل بشأن نطاق منطقة اليورو، وضم روسيا لأجزاء من أوكرانيا، والهجمات الإرهابية الإسلامية، واستفتاءٍ في بريطانيا يؤيد الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وملايين اللاجئين الذين يفرون من منطقة الشرق الأوسط وأفريقيا، فضلًا عن زيادة الاتجاه المشكك في الاتحاد الأوروبي والمعادي لنظامه وكذلك الأحزاب المناهضة لوجود للأجانب في جميع أنحاء القارة”.
“لسوء الحظ، القادة الأوروبيون الذين تجمعوا في ديسمبر2015 في بروكسل لحضور أحد مؤتمرات القمة التي لا حصر لها، فشلوا في تحديد مدى عمق الأزمة الوجودية للاتحاد. ناهيك عن فشلهم في إيجاد إجاباتٍ فعَّالة لمواجهة خيبة الأمل المتزايدة لدى شعوب الاتحاد. لم ينهر الاتحاد الأوروبي فجأةً مثل ما حدث مع الإمبراطورية الرومانية واحتلال جحافل البرابرة القصور البيروقراطية في بروكسل، إنما كان انهياره أشبه بانهيار الإمبراطورية الرومانية المقدسة: حيث استمرت كل المعاهدات الرسمية والاحتفالات والمؤسسات في مكانها كالمعتاد، لكن في نفس الوقت تم نهبها وتفريغها من أية أهمية حقيقية، لذا فالقرار الرسمي بحل الاتحاد الأوروبي في عام 2043 كان أشبه بسقوط الإمبراطورية الرومانية المقدسة 1806. وهو اعتراف متاخر بما كان واقعًا سياسي لفترة طويلة”.
وبالنسبة إلى بعض الاتجاهات الموجودة حاليًا، ربما يبدو ذلك السيناريو معقول ومحتمل لمستقبل الاتحاد الأوروبي. غير أنه يتحتم علينا بذل ما بوسعنا لتجنب حدوث ذلك. قال وينستون تشيرشيل ذات مرة “إن الديمقراطية هي أسوأ أشكال الحكم، باستثناء كل الأشكال الأخرى التي تم تجربتها”. وأوروبا التي نعيش فيها اليوم هي أسوأ أشكال أوروبا، باستثناء كل أشكالها الأخرى الممكنة التي تمت تجربتها من وقت لآخر. على مر التاريخ، لم يستمر أي تحالف أوروبي أو إمبراطورية أو اتحاد كومنولث أو مجتمع إلى الأبد؛ فجميعهم إلى زوال، لكن ينبغي علينا أن نرغب في استمرار هذا الاتحاد طالما أمكنه ذلك.
لتجنب المستقبل السيء، يجب علينا أن نوقظ داخل الأجيال الجديدة وعيًا أكثر وضوحًا بتاريخنا السيء
إلا أن العديد من النخب الأوروبية ستعتبر صياغة الوضع بتلك الطريقة، هو درب من دروب التشاؤم، بل وحتى الانهزامية. لكن في الحقيقة، الواقعية المشككة تعتبر أساسًا أكثر صلابة لإعادة بناء المشروع الأوروبي المترنح؛ أكثر من طرق تفسيرات الأحزاب اليمينية للتاريخ الذي شكل الاتحاد الأوروبي من الأساس، باعتبار أنه مسار تقدمي لا رجعة فيه، يتجه نحو المزيد من الوحدة والرخاء والتنوير أكثر من أي وقتٍ مضى. والذي يترجم في الحياة اليومية الواقعية إلى مجرد تفكير حالمٍ مشوش تظهره العديد من البلاغات والتقارير الواردة من بروكسيل.
إن أوروبا في مسارٍ سيئ الآن، ولعل بداية التعافي تتمثل في الاعتراف بخطورة المرض؛ لا إنكاره. بالفعل نواجه العديد من المشكلات التي لا يوجد لها حلول شاملة، بل مجرد حلولٍ جزئية تمكننا فقط من الاستمرار، فليس هذا وقت المخططات الكبرى. مرارا وتكرارا أجد الزملاء الأوروبيون يعودون إلي نسخةٍ قديمةٍ من “أوروبا المركزية” ويسيرون بها للأمام. بينما توجد مجموعة أخرى يتبعون أوروبا التقدمية “متعددة السرعات”، أو أنهم يقبعون بحذر في الحلقات الخارجية من “الدوائر المتحدة المركزة”؛ فهذا لن يحدث، لا الآن ولا مستقبلًا.
أن ترفض خطاب التصاميم الكبرى التقدمية ليس مجرد تراجعٍ في البراغماتية الجزئية أو ما أطلقت عليه دير شبيغل ذات مرة “فلسفة التخبط”. وعوضا عن ذلك، هناك خيطان أساسيان يربطان بين الأنسجة المختلفة لهذا الكيان المتنوع في ذاته المترامي الأطراف: أحدها مستقبل جديد والآخر ماضٍ ربما يعود ليطاردنا جميعا.
كونه بصدد مواجة القوى الناشئة مثل الصين والهند والبرازيل، إن الغرب القديم –المتمركز في أوروبا وأمريكا الشمالية- لم يعد بوسعها رسم وتحديد خطط العالم. ففي هذا العالم الجديد، تحتاج الدول الأوروبية إلى توازن يمكن للاتحاد فقط أن يوفره. تعتبر تلك الحجة مقنعة عقليًا، لكنها أيضًا تحمل بين طياتها بعض الجذب العاطفي خاصة إذا كنت شابا أسبانيا عاطلا، أو قرويا فرنسيا يشعر أنه لم يعد بإمكانه التعرف على بلده.
الخيط الثاني هو ماضي القارة الأوروبية الذي ربما يعود مجددًا في المستقبل القريب. ففي الفترة الأخيرة، شَهِدنا حوادث متزايدة من ذاكرة أوروبا الوحشية البربرية في القرن العشرين؟ الحرب في أوكرانيا، تخفيض المهنيين في الطبقة الوسطى، إرهاب في شوارع باريس، جثث أطفال غرقى حملتها أمواج البحر لتلقي بها على شواطئ المتوسط، معاداة السامية، والعنصرية والتعبير الواضح عن التحيز العرقي المتزايد ضد المسلمين والذي يُلحِق العار بأيِ شخص؛ حتى لو كان دونالد ترمب نفسه المرشح الجمهوري في انتخابات الرئاسة الأمريكية.. وبطريقة ما، مازلنا نعامل تلك الأمور على أنها استثناءات، لكن ماذا لو صارت تلك هي القاعدة؟!
إن مشروع مجتمع سياسي أوروبي أمر غير اعتيادي، حيث أن عدوه هو ماضيه نفسه. على مر 3 أجيال، لطالما كانت الذكريات الشخصية عن الحرب والاحتلال والمحرقة والدكتاتورية -الفاشية والشيوعية على السواء- هي القوة المحركة الأكثر عمقًا لغالبية الناس المؤيدة للتكامل الأوروبي. وكما بدأت تتلاشى تلك الأحداث من الذاكرة الحية: صرنا في أمس الحاجة للذاكرة الجمعية التي نطلق عليها التاريخ. لتجنب مستقبل سيء، يجب علينا بطريقةٍ ما أن نوقظ بداخل الأجيال الجديدة وعيا أكثر وضوحًا عن ماضينا السيء، وكيف أن ذلك الماضي ربما يكون على وشك العودة من جديد متنكرًا في زيٍّ جديد. وعلى حد التعبير القاسي لبرتولت بريخت “إن الرحم الذي خرج منه هذا الوحش ما يزال خصبا”.
ليس متاخرًا أن نبدأ في كتابة “تاريخ أكسفورد 2045؛ أوروبا الحديثة”، فلسنا بحاجةٍ للانتظار حتى عام 2045؛ إذ يمكننا البدء من الآن.
هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».