جلست يومًا بعد الفجر مع أبي نتحدث، فسألته: “ما تقول في حلم عظيم تحقق، ولكنه تحقق مشوهًا مشبوهًا”، لم يفهم أبي حينها ما عنيت إلا بعد أن شرحت له مقصدي. كنت قد قرأت ليلتها خبر اعتماد “الدولة الإسلامية” أو “داعش” عملة ذهبية أسموها “الدينار الإسلامي” وأخرى فضية أسموها “الدرهم الإسلامي” مدعين بذلك الاستقلال عن النظام المالي العالمي وعن الدولار وعن أمريكا والغرب.
ظللت ليلتي هذه أفكر، هل حقًا تحقق الحلم، حلم التحرر والاستقلال، حلم التخلص من النظام العالمي الزائف الظالم، ودار بذاكرتي حينها كل ما تعلمته عن النظام النقدي العالمي وكيف أن ما نتعامل به من أموال لا تساوي ثمن الورق الذي طبعت عليه وكيف خدعت أمريكا العالم سنة 1971 حين ألغت ارتباط الدولار بالذهب فأصبحنا جميعًا نعيش في قصور في الهواء لا أرض لها ولا قرار. دار بخلدي أيضًا ما سمعته عن محاولات “مهاتير محمد” في تأسيس الوحدة المالية الإسلامية المرتكزة على الدينار الذهبي الإسلامي المستقل عن الدولار، وكيف فشلت محاولاته تلك بعد معارضة بعض دول الخليج وتربص صندوق النقد الدولي.
ولكني، في غمرة هذا، تفكرت. لمَ أحس بغصة في صدري تجاه هذا الأمر؟ أليس هذا ما تمنيناه جميعًا وحلمنا به طويلًا، أن يكون لنا عمله ذهبية خاصة بنا مستقلة عن زيف واقعنا؟ هل هذه الغصة من أثر الحسد أو الغيرة لأنني لم أكن مشاركًا في صنع هذا الحدث؟ هل هذه الغصة نابعة من بعض الباطل الذي تلطخنا به فأصابنا شيء من أثره؟ أم أن هذه الغصة هي كالغصص التي أصابتنى مرارًا من رؤية أحلام تتحقق مشوهة مشبوهة نتنة؟
نعم، لقد أحسست بهذه الغصة من قبل، حين أعلن هؤلاء السذج “قيام الخلافة الإسلامية” بهذه البساطة، أعلنها هكذا المتحدث الرسمي باسم الخلافة، الذي لا يعرف أحد على وجه اليقين اسمه ولا شكله ولا علمه ولا عمله.
أعلنها هكذا، في تسجيل صوتي، قد يسجل مثله صبى في السادسة. نظرت حينها إلى أحوال المسلمين، فوجدت المستضعفين في كل مكان، ليس لهم ناصر ولا معين، في مصر والشام وليبيا وأفريقيا الوسطى ومالي والشيشان وتركستان وبورما وآراكان وفلسطين، يعذب المسلمون وتحرق قراهم ويخرجون من بلادهم مطرودين مشردين.
لماذا لا ينصرهم الخليفة إذًا بجيش أوله عنده وآخره عندهم؟ بالطبع إنه لا يستطيع، بل إن أمير المؤمنين، الذي نصب نفسه لإمارتهم، لا يأمن حتى أن يظهر في أي مكان علني، بل لعله مات أو قتل، والمسلمون لا يعلمون من أحواله شيئًا. كيف تبسط هذه الخلافة المزعومة سيطرتها على الأمة، وهي تحاول في عنت شديد ومشقة بالغة الحفاظ على هذه الرقعة الصغيرة من الأرض؟ كيف تكون هذه خلافة المسلمين جميعًا والكثرة الكاسرة من المسلمين، عامتهم وعلماؤهم، ينظرون إلى أفعالها نظرة احتقار واشمئزاز لتشويهها صورتهم ولسرقتها لحلمهم وإرادتهم. كيف تكون هذه خلافة المسلمين، وجُل ما تقدر عليه هو قتل حفنة من المدنيين الآمنين في مسرح أو ملعب أو سوق تجاري، ثم لا تستطيع دفع عاقبة هذه الأفعال الصبيانية عن سائر الأمة.
نعم إن داعش هي التجسيد المشوه المشبوه لأحلام أمة كاملة، ظلت طوال قرن من الزمان تحلم باجتماع الكلمة وعودة الخلافة والسيادة والعزة للأمة ونصر المستضعفين.
لا أزعم أني أعلم الكثير عن أسرار هؤلاء البلهاء، ولا أدعي أنهم صنيعة هذه المخابرات أو تلك، ولا أدعي علمًا ببواطن قادتها أو نياتهم، ولكني أعلم علم اليقين، أن أعداء هذه الأمة لو ظلوا يطعنون في حلم الخلافة آلاف السنين، لو قضوا أعمارهم يكتبون الكتب وينتجون الأفلام وينفقون مليارات الدولارات على تشويه هذا الحلم، لما استطاعوا أن يفعلوا ما فعله هؤلاء السفهاء في شهور معدودات.
عندما أُعلِنت هذه الخلافة، أردت أن أصرخ بكل قوتي ليسمع العالم كله: “لا، ليس هذا ما حلمنا به، ما هذا إلا مسخ مقيت مما ظللنا أعمارنا نتعلمه ونتمنى تحقيقه، ليست هذه هي الخلافة “.
إن خطر “داعش” في ظني، ليس في غلوهم، أو تفريقهم صفوف المجاهدين في كل أرض نزلوها، أو تخريفهم في الدين فقط، إنما هو في تشويههم هذا الحلم العظيم الذي نحلم به جميعًا، حلم الوحدة والاستقلال. فمن يستطيع الآن أن يتكلم اليوم عن خلافة راشدة على منهاج النبوة دون أن يضطر أولًا أن يذب عن هذا الهدف الراقي كل ما أضفت عليه “داعش” من بذاءات وحماقات وجهالات.
إن حلمنا العظيم هذا بالوحدة والاستقلال، لا يتحقق بإعلان حفنة من حدثاء الأسنان سفهاء الأحلام الخلافة، أو إعلانهم إقامة نظام نقدي لا يستطيعون تطبيقه خارج صور المجلات الدعائية أو الترهات الإعلامية المستهلكة، ولا يتحقق هكذا بين ليلة وضحاها، ولا يتحقق في غياهب السراديب وظلمات التطرف والغلو.
ولإن قام هؤلاء جميعًا بتشويه الحلم وإفساده فلقد ألزموا عامة هذه الأمة وعلماءها، جهدًا مضاعفًا لتنقيته من شبهاتهم وتشويههم وحمايته من أطماعهم وشهواتهم.
إن استعادة نقاء هذا الحلم، حلم الاستقلال والوحدة، هو الآن على المحك، ويقع على عاتق هذه الأمة، عامتها وعلمائها، عبء القيام بتصفيته وتجديده وإظهاره للناس بصورته الصحيحة، ومن ثم العمل على تحقيقه. وهذا لعمرى عبء ثقيل وواجب عسير، إلا على من يسره الله له. فنحن فقط من يستطيع أن يقرر إن كنا سنستعيد هذا الحلم، أم أنه سوف يظل حبيس حماقة المتطرفين وأطماع الظالمين.
والحمد لله رب العالمين
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست