مع بداية الأسبوع الجاري، دعت الخارجية الجزائرية كلًّا من السعودية وإيران إلى “التفاوض المباشر حول النزاعات المسلحة في سوريا والعراق واليمن، من أجل إعادة الاستقرار للمنطقة العربية”، وقالت إن الرئيس عبد العزيز بوتفليقة قدم المبادرة لكل من النائب الأول للرئيس الإيراني، إسحاق جهانغيري، الذي زار الجزائر الأسبوع المنصرم، والأمير سعود بن محمد، المبعوث الخاص للملك سلمان، الذي كان أيضًا متواجدا الأسبوع الماضي بالجزائر.
و بغض النظر عن فرص نجاح هذه المبادرة للتوصل إلى اتفاق بين السعودية وإيران قد يؤدي إلى تسوية نزاعات الشرق الأوسط، فإن الوساطة الجزائرية بين بلدين إقليميين متصارعين على أكثر من جبهة عسكرية ودينية، يحيل إلى أن الجزائر لا تزال تحتفظ بمسافة مع كل من القوتين الدينيتين الأكثر نفوذا في العالم العربي والإسلامي، بعكس معظم البلدان العربية التي انخرطت في الصراع بإعلان سلفا الولاء لأحد المعسكرين.
فكيف يمكننا إذن أن نفهم طبيعة السياسة الخارجية للجزائر في سياق الاستقطاب الشديد لكل من إيران والسعودية في المنطقة العربية؟
لمحة عن علاقة الجزائر مع كل من إيران والسعودية
تاريخيا طبعت الجزائر علاقتها مع إيران منذ عهد الرئيس هواري بومدين، وقد رعت وقتها الاتفاق بين الشاه محمد رضى بهلوي والرئيس صدام حسين حول الخلاف الحدودي الإيراني العراقي سنة 1975، وبعد قيام الثورة الخمينية سنة 1979 بدا أن الجزائر المشبعة بالإرث الثوري حينها رحبت بها، كما أنها سهرت على بعض مصالح إيران في واشنطن، حتى كادت أن تشن حربا ضدها إثر “أزمة الرهائن” بطهران.
بيد أن العلاقات الجزائرية الإيرانية ستعرف توترا وصلت حد القطيعة خلال بداية التسعينات إبان اشتعال حرب العشرية السوداء، حيث اتهمت الجزائر دولة الخميني بتقديم الدعم السياسي والإعلامي لجبهة الإنقاذ الإسلامية، والتدخل في شؤونها الداخلية، لكن سرعان ما عادت هذه العلاقات وتحسنت مع تربع الرئيس عبد العزيز بوتفليقة كرسي الرئاسة.
ومع اندلاع ثورات الربيع العربي، الذي تحول إلى شتاء قارس في بعض البلدان، بدا جليا التقارب بين إيران والجزائر في عدد من القضايا الإقليمية، فبالنسبة للأزمة السورية رفضت الجزائر العزل الكامل لدمشق، كما لم تستسغ تسليح المعارضة الجهادية السورية من قبل دول الخليج.
لكن برز هذا التقارب بين البلدين أكثر في أزمة اليمن، حيث رفضت الجزائر المشاركة في “عاصفة الحزم”، ودعت بدلا من ذلك إلى الحوار السياسي في اليمن بدلا من الحرب التي تشنها السعودية وحلفائها ضد الحوثيين، وهو ما أثار علنيًّا انزعاج الأخيرة.
كيف يعمل العقل السياسي الجزائري مع موجة الاستقطاب السعودي والإيراني في المنطقة؟
تسعى السعودية منذ عقود إلى التغلغل في المنطقة العربية في شتى أرجائها، ونفس الشأن ينطبق على إيران التي تسعى جاهدة لتوسيع رقعة نفوذها، مما أدى في النهاية إلى سقوط منطقة الشرق الأوسط بكاملها في مستنقع الاستقطاب الإيراني السعودي، وأصبح كل من لبنان وسوريا والعراق واليمن والبحرين حلبة لحروب بالوكالة سواء في شقها السياسي أو العسكري.
و في ظل هذا الاستقطاب الساخن فإن منطقة شمال إفريقيا هي الأخرى لم تسلم منه رغم بعدها الجغرافي عن بؤر التوتر المذهبي، حيث يحاول كل طرف إيجاد موطئ قدم له بالمنطقة.
بيد أن الجزائر تصر على أن تكون خارج “لعبة المحاور” والاصطفاف بشكل عام، حيث تحاول الانفتاح مع كل الأطراف وفي نفس الوقت بتحفظ، فنجدها مرة تعقد علاقات مع الولايات المتحدة الأمريكية وفي نفس الوقت لديها علاقات وطيدة مع روسيا، وتنسج علاقات مع إيران وفي نفس الآن لديها روابط مع السعودية، وهو ما يتيح لها مجالا أوفر لاستقلالية القرار السياسي.
أبدت المملكة العربية السعودية استياءها الشديد بعدما رفضت الجزائر بخلاف المغرب وتونس مساندتها في حربها باليمن، وبرر رئيس الوزير الأول الجزائري عبد المالك سلال القرار بأن الدستور الجزائري لا يسمح بشن تدخل عسكري خارج البلاد، إلا أن القرار رغم ذلك لا يخلو من دوافع سياسية.
تعبر الجزائر في غير ما مرة عن عدم رضاها عن طريقة تعاطي السعودية مع الوضع المتأزم في اليمن وسوريا، ولا سيما دعمها للجماعات السورية المسلحة، كما تنتقد إدارتها الداخلية لمنظمة الأوبك ولا تستبعد مسؤوليتها في تراجع النفط، الذي يعد بالنسبة لها قضية محورية لأمنها القومي. كما تنظر الجزائر كذلك إلى السعودية بأنها تشكل تهديدًا لنفوذها بشمال إفريقيا بدعمها الكامل للمملكة المغربية في قضية الصحراء.
أمام هذا الفتور في العلاقة بين السعودية والجزائر، تحاول إيران استثمار هذا الوضع والتقرب من قصر المرداية في سياق التصدي للنفوذ السعودي المتزايد بالمنطقة العربية، وربما إمكانية تشكيل حلف إسلامي مواز له وجهة نظر معارضة حول القضايا الإقليمية المتأزمة، وفي هذا الاتجاه تصب زيارة النائب الأول للرئيس الإيراني إسحاق جهانغيري للجزائر الأسبوع المنصرم، والتي تمخض عنها عقد البلدين خمس اتفاقيات اقتصادية في قطاعات الرياضة والتعليم العالي والبحث العلمي والأشغال الكبرى.
تتقاطع إيران مع الجزائر في عدد من القضايا المشتركة، إذ لديهما إرث ثوري يجمعهما، كما تربطهما مصالح مشتركة متعلقة بالنفط، لكن من المستبعد أن تذهب هذه العلاقات بعيدا، إذ تعي القيادة السياسية الجزائرية جيدا طبيعة الرأي الشعبي الجزائري تجاه العلاقة مع إيران، وما يحمل ذلك بالنسبة له من حساسية مذهبية.
جاءت إذن دعوة الجزائر لكل من إيران والسعودية إلى الحوار في سياق السياسة “المتوازنة” التي تحاول اعتمادها مع أطراف الصراع الإقليمي، فهل ستكون الجزائر النسخة الثانية من عمان “المحايدة” في النزاعات الإقليمية، أم أن ثقل الجزائر الاستراتيجي أبعد من ذلك؟