فنزويلا .. هل انهارات شعارات «تشافيز» الشعبوية؟

آخر تحديث 2015-12-24 00:00:00 - المصدر: ساسة بوست

في الرابع من فبراير 1992، سعى الضابط الشاب هوجو تشافيز 35 عامًا، لانقلاب عسكري حالمًا بسلطة يستعيد معها القدرة على مواجهة الرأسمالية الإمبريالية، لكن انتهت هذه المحاولة بسجنه عامين ليخرج من السجن بعد نهاية ولاية الرئيس آندريز بيريز وتولي رافائيل كالديرا السلطة مكانه.

تجددت هذه المحاولة في عام 1998 بعد تأسيس” تشافيز” حركة الجمهورية الخامسة مستندًا لدعم اليساريين والطبقات الفقيرة ليصل إلى السلطة معلنًا عن برنامج يركز على مقاومة الفقر والرشوة فحصل على نسبة 56% في رئاسيات ديسمبر/كانون الأول 1998

خلال فترة ولاية “تشافيز” سعى لتطبيق سياسات منحازة للفقراء ملهمًا جمهوره بشعارات يسارية، بيد أن هذه الشعارات التي صنعت شعبية “تشافيز” يبدو أنها قد انهارت أمام تحديات الواقع على خليفته نيكولا مادورو الذي كان نائبًا له .

خلال السطور التالية، تحاول “ساسة بوست” التعرف على الأسباب التي جعلت فنزويلا التي تمتلك أحد أكبر احتياطي نفطي في العالم، تعاني من انهيار عملتها الوطنية، وندرة المنتجات في أسواقها، وأزمة تضخم كبرى.

 ثروات البترول .. سر شعبوية نموذج «تشافيز» الرعوي اليساري

مثل نموذج “هوجو تشافيز” الرئيس الفنزويلي الراحل في السلطة خلال فترة حكمه بريقًا سياسيًا واقتصاديًا في العالم، جسدت خلالها خُطبه السياسية وسياسته الاقتصادية مصدر الهام كبير لكافة أنصاره ومريديه من المعسكر اليساري حول العالم وخطابًا مضادًا للرأسمالية العالمية، والإمبريالية التي تسعي الشيطان الأكبر “أمريكا” في تسويقها لتفكيك هذا النموذج .

بيد أن هذا النموذج الذي جذب شعبية تشافيز يبدو أنه لم يعمل في الواقع بنفس الكفاءة، وظهرت مآلاته علي الاقتصاد الفنزويلي، وما تبعها من موجة تضخمية هائلة خلال فترة وريثه في السلطة “نيكولاس مادورو” النقابي السابق 50 عامًا، والذي أوصى “تشافيز المريض” باختياره إذا اضطر لمغادرة السلطة.

يرجع تفكك هذا النموذج الاقتصادي الذي سعى “تشافيز” لتسويقه في العالم إلى اعتماده الكلي على ثروات البترول كمصدر أوحد للاقتصاد والناتج الإجمالي، إذ كانت شركة PDVSA، إحدى كُبرى شركات البترول في فنزويلا مصدر الدخل الرئيسي للدولة ولإيرادتها، والتي اعتمدت علي تعيين موظفيها داخلها علي أسس حزبية وفساد الرشاوي .

سعى “تشافيز” للحد من مستويات الفقر الهائلة التي وصلت إليها الدولة، من خلال استخدام موارد الشركة في عمل مشاريع كبرى لصالح محدودي الدخل كمشروع المليون وحدة سكنية، ومشاريع التموين وبرامج الرعاية الصحية وهو ما تؤكده الأرقام الصادرة عن المؤسسات الدولية إذ تراجع معدل الفقر في البلاد من 44 في 1998 إلى 27,3% في2013 .

بيد أن هذا النموذج الرعوي القائم على الثروات الطبيعية المتمثلة في لبترول، والتي استخدمها في مشاريع للفقراء لم تجلب له عوائد استثمارية على المدى القريب أو البعيد، بجانب هجرة رؤؤس الأموال الأجنبية خارج البلد نتيجة سياسات التأميم والمصادرة التي سعي لتطبيقها “تشافيز”، والذي أدى أيضًا لارتفاع حجم العمالة الحكومية، وانهيار القطاع الخاص .

 نيكولا مادورو .. وريث «تشافيز» في الحُكم

بعد وفاة “تشافيز” متأثرًا بمرض السرطان، صعد سائق الحافلات السابق “نيكولاس مادورو” إلى السلطة مرددًا شعاراته وعاملا بأفكاره.

“نحن جميعا في حافلة أرض الآباء..  ولها سائق.. ها هو سائق تشافيز”، مستلهمًا هذا الشعار من زعيمه الراحل، أطلق مادورو حملته الانتخابية من المنزل الذي قضى فيه تشافيز طفولته، لكن سرعان ماتبددت هذه الشعارات تحت وقع المشاكل الاقتصادية التي صارت تحاصر “فنزويلا”.

ظهرت هذه التداعيات في تجاوز التضخم معدل 200% في السنة الحالية، وانكماش الناتج المحلي الإجمالي بوتيرة غير مسبوقة، وانخفضت قيمة العملة إلى أقل من 10% من قيمتها السابقة، وبروز نقص واسع النطاق في الإمدادات.

تزامنت هذه المشاكل الاقتصادية الناتجة عن النموذج الرعوي المتمثل في الاقتصار على مورد أوحد كمصدر للدخل القومي، وانهيار القطاع الخاص، وتضخم حجم العمالة لدى القطاع الحكومي، وسط اتهامات من الحزب الحاكم لأمريكا بالسعي وراء هذه المشاكل، والمؤامرات التي تقودها لهزيمة الثورة البوليفارية عقب وفاة زعيمها “تشافيز”.

كما أحصى البنك المركزي 19 فئة من المواد الأولية التي تشهد “مشاكل تزويد خطيرة”، واعتبرت “فيديكاماراس” اتحادية رجال الأعمال التي تجمع أغلبية من الشركات الخاصة أن “السنة ستنتهي على الأرجح بانخفاض أربعة أو خمسة بالمئة” من إجمالي الناتج الداخلي.

وأصبحت فنزويلا البلد الذي يملك أحد أكبر احتياطي نفطي في العالم، يستورد تقريبا كل ما تستهلكه، يقول فنان رسام في السبعين من حي غواراتارو غرب العاصمة “هذا شيء فظيع! كيف يمكن أن يعتمد بلد نفطي إلى هذا الحد على الاستيراد؟ نحن لا ننتج شيئا هنا”.

ويرجع الباحث الاقتصادي الفنزويلي أسدروبال أوليفيروس من معهد إيكونواناليتيكا هذا الوضع إلى عدة عوامل منها ضعف الإنتاج الوطني واحتكار السلطات للورادات وازدواجية صرف العملة (الدولار في السوق السوداء يبلغ خمسة أضعاف سعره الرسمي) وندرة العملة الصعبة، ومآلات السياسات الاقتصادية القائمة على النفط كمصدر أوحد لتطبيق سياسته التنموية وإدارة المشاريع لصالح الفقراء التي لاتدر ناتجًا قوميًّا وذلك في عهد تشافيز.

تزامن مع هذه السياسات الاقتصادية الفاشلة تنظيم مجوعات طلابية مُظاهرات احتجاجية، واجهتها السلطة بتنظيم مظاهرات موازية من قبل الأعضاء المنتمين لها، وحصار أمني من جانب قوات الأمن أسفرت عن حملة اعتقالات واسعة لهؤلاء المحتجين، وذلك عقب مقتل 43 من هذه العناصرالاحتجاجية في عام 2014 .

بنك التنمية الصيني: بديل «النقد الدولي» الأكثر تحايلًا على ثروات فنزويلا

اتساقًا مع سياسات “تشافيز” الاقتصاية، تأثرت العلاقات بين فنزويلا وصندوق النقد الدولي، الذي طالما اعتبره أحد آليات الإمبريالية الدولية الساعية لتقويض النموذج الفنزويلي في التنمية خصوصًا مع دعم الصندوق في (أبريل) 2002 تأييدها لحكومة منبثقة عن انقلاب فاشل ضد الرئيس الراحل هوغو تشافيز.

بجانب رفض فنزويلا منذ أكثر من 8 سنوات التقييم الاقتصادي الذي تجريه المؤسسة سنويًا للدول الأعضاء فيها، سعى “تشافيز” لتلبية حاجياتها التمويلية بمساعدة بنك التنمية الصيني، كبديل لصندوق النقد الدولي، والذي لا يفرض ذلك النوع من الشروط التي يكرهها من يهاجمون صندوق النقد. وبدلا من ذلك، يقدم البنك الصيني قروضا وفق شروط سرية، من أجل أغراض متكتم عليها، ويصاحب ذلك منح امتيازات ضمنية للشركات الصينية في مجالات مثل الاتصالات (شركة هواوي)، والأجهزة (شركة هاير)، والسيارات (شركة شيري)، والتنقيب عن النفط (شركة آي سي تي في).

يوضح هذا الأمر، “ريكاردو هوسمان” وزير التخطيط في فنزويلا سابقا، وكبير خبراء الاقتصاد السابق لدى بنك التنمية للدول الأمريكية، وأستاذ ممارسات التنمية الاقتصادية في جامعة هارفارد: “المأساة هي أن أغلب الفنزويليين (والعديد من المواطنين في بلدان أخرى) يعتقدون أن النقد الدولي يسعى إلى الإضرار بهم وليس مساعدتهم”، ونتيجة لهذا يتحاشون الموارد والمشورات التي يقدمها المجتمع الدولي إبان الأزمات الاقتصادية. مضيفا أن: “هذا جعلهم في حال أسوأ كثيرًا مما قد يحمل منتقدي الصندوق أنفسهم على الاعتراف به، وهو ما يجعل بنك التنمية الصيني عارًا”. وعلى كل الأحوال فإن التردي الاقتصادي الذي تعيشه فنزويلا يشير إلى أن بدائل “الحكومة” للتحرر من الهيمنة الاقتصادية العالمية لم تكن ناجعة إلى حد كبير. مؤخرًا خسر الحزب الحاكم في فنزويلا الأغلبية البرلمانية لأول مرة منذ 16 عامًا لصالح ائتلاف طاولة الوحدة الديموقراطية المعارض الذي حصل على أغلبية الثلثين والتي قد تمكنه من تعديل الدستور وإعادة النظر في العديد من الاتفاقات التي ترتبط بها البلاد. وهو ما يعني أن الجدل السياسي والاقتصادي سوف يتجدد من جديد في فنزويلا التي ظلت ترفع شعارات المناهضة للهيمنة الأمريكية لحوالي عقدين من الزمان.