مترجَم: كيف قامت الرأسمالية الأمريكية على أكتاف العبيد؟

آخر تحديث 2015-12-24 00:00:00 - المصدر: ساسة بوست

هالة أسامة

4

Follow @ndivingoddess

كان الثامن عشر من ديسمبر هو الذكرى المائة والخمسين للقضاء على العبودية في أمريكا، والعبودية على عكس الاعتقاد الشائع ليست إحدى مُنتجات الرأسمالية الغربية، بل إنَّ الرأسمالية الغربية هي إحدى منتجات العبودية. إذ قاد توسُّع العبودية في الثمانية عقود الأولى بعد الاستقلال الأمريكي تطوُّر الولايات المتحدة وتحديثها.

يُحلِّل المؤرِّخ إدوارد بابتيست كيف نما الجنوب خلال دورة حياة واحدة من قطاع ساحلي ضيق مليء بمزارع التبغ البالية، ليصبح إمبراطورية قارية للقطن، ونمت الولايات المتحدة لتصبح اقتصادًا حديثًا وصناعيًّا ورأسماليًّا.

استخرج مُلَّاك العبيد من عبيدهم كفاءات هائلة عبر التعذيب والعقاب، ممَّا أتاح للولايات المتحدة الاستيلاء على سوق القطن العالمي، وهو المادة الخام الرئيسية للثورة الصناعية، وأن تصبح أمة قوية مزدهرة.

كان القطن في القرن التاسع عشر يشبه النفط في القرن العشرين، البضاعة التي تُحدِّد ثروة الأمم. كان القطن يُشكِّل 50 بالمئة من صادرات الولايات المتحدة، وهي نسبة مدهشة، وأشعل الازدهار الاقتصادي الذي شهدته أمريكا. تدين أمريكا بوجودها باعتبارها أمة من العالم الأول للعبودية.

الرأسمالية والعبودية نظامان متعارضان تعارضًا جوهريًّا من الناحية النظرية، فأحدهما مبني على العمل الحر والآخر على العمل الجبري. ولكن من الناحية العملية، فالرأسمالية نفسها لم تكُن لتُصبِح ممكنة دون العبودية.

أوضح العلماء أنَّ الربح في الولايات المتحدة لم يأتِ فقط من بيع الجنوبيين للقطن الذي حصده العبيد أو الخيزران الذي قطعوه. كانت العبودية أساسية لتأسيس صناعات تُسيطر اليوم على اقتصاد الولايات المتحدة مثل، العقارات والتأمين والمالية.

تأسَّس وول ستريت على العبودية، بنى العبيد الأفارقة الجدار الفعلي الذي كان سبب تسمية وول ستريت بهذا الاسم، مُشكِّلين الحدود الشمالية للمستعمرة الهولندية المُصمَّمة لصد السُكَّان الأصليين المقاوِمين الذين أرادوا استعادة أرضهم. أسَّس المسؤولون بمدينة نيويورك في عام 1711 سوقًا للعبيد في وول ستريت لإضفاء طابع رسمي على تجارة البشر الضخمة.

حقَّق العديد من البنوك الأمريكية البارزة، بما فيها جي.بي.مورجان وواكوفيا ثروات من العبودية، وقبلوا العبيد باعتبارهم (ضمانة إضافية)، اعترف بنك جي.بي.مورجان مؤخَّرًا بقبوله «13,000 فردًا مستعبدًا تقريبًا باعتبارهم ضمانة إضافية على القروض واستحوذوا على 1,250 فردًا مستعبدًا تقريبًا».

القصة التي تحكيها الكتب الدراسية الأمريكية عن العبودية هي قصة إقليمية وليست قومية، فهي تصوِّر العبودية على أنَّها انحراف وحشي عن الحُكم الأمريكي القائم على الديمقراطية والحرية. يُحكَى عن العبودية باعتبارها انعطافًا مؤسفًا عن مسيرة الأمة نحو الحداثة، وليس باعتبارها المُحرِّك الذي قاد ازدهار الاقتصاد الأمريكي بالتأكيد. وهذا أبعد ما يكون عن الحقيقة.

من أجل إدراك أهمية العبودية للرأسمالية الأمريكية تمامًا، يحتاج المرء إلى النظر إلى تاريخ شركة للأقطان تأسَّست بعد الحرب في ألاباما، تُدعَى ليمان براذرز. وارن بافيت هو المدير التنفيذي لبيركشير هاثاواي وأغنى ملياردير في أمريكا، كانت شركة بيركشير هاثاواي السابقة تُصنِّع الأنسجة وتتربَّح من العبودية في رود أيلاند.

وفي الشمال كانت نيو إنجلاند هي موطن صناعة اﻷنسجة القطنية في أمريكا، ومنبت إلغاء سياسة الاسترقاق الأمريكية، والتي أصبحت غنية بفضل المستعبَدين المُجبَرين على حصد القطن في الجنوب. كان المهندسون المعماريون في فترة الثورة الصناعية في نيو إنجلاند يراقبون أسعار القطن باستمرار، لأنَّ مشاغل النسيج كانت ستتوقَّف عن العمل دون عمالة العبيد في المزارع البعيدة.

يُحلِّل كتاب آن فارو (Complicity: How the North Promoted, Prolonged, and Profited from Slavery) كيف كان أفراد الطبقة البرجوازية متصلين بنظام العبودية بمليون خيط، فقد كانوا يشترون العسل الأسود الذي كان يصنعه العبيد، وكانوا يبيعون الرم، وهو ما كان جزءًا من مثلث تجاري، فكانوا يقرضون المزارعين الجنوبيين المال، وكان معظم القطن الذي يُباع إلى بريطانيا يُشحَن عن طريق موانئ نيو إنجلاند.

رغم تحويل أبراهام لينكولن إلى أحد أبطال الحقوق المدنية، إلَّا أنَّه لم يعتقِد أنَّ السود متساوون مع البيض، كانت خطة لينكولن هي إعادة السود في أمريكا إلى إفريقيا، وإن لم يكُن قد اغتيل، كانت إعادة السود إلى إفريقيا لتكون على الأرجح السياسة التي سيتَّبعها بعد الحرب. حتى أنَّ لينكولن قد اعترف أنَّ إعلان تحرير العبيد كان مجرد «إجراء حربي عملي» من أجل إقناع بريطانيا أنَّ الشمال مدفوع بما هو «أكبر من الطموح».

كانت نهاية العبودية منذ مئة وخمسين عامًا للسود مجرد بداية لرحلة السعي وراء المساواة العرقية الاقتصادية والديمقراطية التي لم تنتهِ بعد. في الحقبة التي سبقت الحرب العالمية الثانية كان الرأي النخبوي المُجمَع عليه يرى الحضارة الرأسمالية مشروعًا استعماريًّا وعرقيًّا، ولا يمكن وصف الرأسمالية في أمريكا حتى هذا اليوم سوى بالرأسمالية العرقية، إرث العبودية الذي يتَّسم بالظهور المتزامن والمتشابك لتفوُّق البيض والرأسمالية في أمريكا الحديثة.

يعيش السود في أمريكا في نظام رأسمالي عرقي، تمارس الرأسمالية العرقية سلطتها على الأقلية السوداء عبر مجموعة من الإعدامات القمعية العصرية دون محاكمة على يد الشرطة، وتزيد من الاعتقالات الجماعية لصالحها ومن عدم المساواة الاقتصادية العرقي الذي تدفعه المؤسَّسات، إنَّ الرأسمالية العرقية هي بلا شك جريمة من جرائم العصر الحديث ضد الإنسانية.

كانت رؤية أمريكي من أصل إفريقي على قمة السُلطة في بلد العبودية ستكون أمرًا مثيرًا إذا لم تكُن مؤشِّرات المساواة للسود منخفضة، لقد وصلت الفجوة بين متوسط ثروة الأسرة السوداء والبيضاء في الحقيقة خلال مدة حُكم أوباما إلى سبعة سنتات للسود في مقابل دولار للبيض، كما اتَّسع الفرق بين بطالة السود وبطالة البيض بأربع نقاط منذ تولَّى الرئيس أوباما المنصب.

كانت شرطة الأمة في الماضي تفرض الرأسمالية العرقية، فكانت أول شرطة حديثة في أمريكا مكوَّنة من دوريات للعبيد وحراسة ليلية، وكان كلاهما مُصمَّم للتحكُّم في سلوكيات الأمريكيين من أصول إفريقية.

ومن الواضح في الأدب التاريخي أنَّه كانت هناك قوات شرطة معتمَدة قانونًا قبل الحرب الأهلية موجودة فقط بغرض قمع السُكَّان من العبيد وحماية أملاك مُلَّاك العبيد البيض ومصالحهم. إنَّ التشابهات الصارخة بين دوريات العبيد في القرن الثامن عشر وبين وحشية الشرطة الأمريكية الحديثة في مجتمع السود واضحة بدرجةٍ لا تسمح بتجاهلها أو تجنُّبها.

ظلَّت الإعدامات دون محاكمة عنصرًا محوريًّا في النظام العام للرأسمالية العرقية منذ إنشاء أول قوات شرطية في أمريكا. بعد أيام من إلغاء العبودية، تشكَّلت أسوأ جماعة إرهابية في التاريخ الأمريكي بمباركة حكومة الولايات المتحدة، وهي كلو كلوكس كلان.

يعتقد أغلبية الأمريكيين أنَّ الإعدامات دون محاكمة وسيلة مندثرة للإرهاب العرقي، الذي أفسد المجتمع الأمريكي حتى نهاية حقبة قوانين جيم كراو، ومع ذلك ازداد ميل أمريكا نحو قتل الأمريكيين من أصل إفريقي دون قيود مع مرور الوقت. أشارت صحيفة الجارديان مؤخرًا إلى أنَّ المؤرِّخين يعتقدون أنَّ اثنين من الأمريكيين من أصل إفريقي في المتوسط كانا يُقتلان دون محاكمة كل أسبوع في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

قارن هذا بالبيانات الناقصة التي جمعها مكتب التحقيقات الفيدرالي التي توضِّح أنَّه في الأسبوع الواحد يُقتَل شخص أسود على يد ضابط شرطة أبيض أكثر من مرتين، ومن الواضح أنَّ وحشية الشرطة في مجتمعات السود تزداد سوءًا ولا تتحسَّن.

لم تكُن الإعدامات قديمًا تعني بالضرورة الشنق، بل كانت تتضمَّن غالبًا الإذلال والتعذيب والحرق والبتر والخصي. كان الإعدام طقسًا شعبيًّا أمريكيًّا خالصًا يحدث غالبًا أمام حشود كبيرة تُقدَّر أعدادها أحيانًا بالآلاف ويلعب الأطفال خلال الاحتفالات.

بعد إلغاء العبودية في 1899 بوقت قصير وصفت صحيفة سبرينجفيلد الأسبوعية إعدامًا نفَّذته جماعة كلو كلوكس كلان، مدوِّنةً كيف «فقد الزنجي أذنيه وأصابعه وأعضاءه التناسلية. كان يتوسَّل في شفقةٍ من أجل البقاء حيًّا بينما عملية البتر مستمرة…وقبل أن يبرد جسده، قُطِّع إلى أجزاء، وسُحِقت العظام إلى قطع صغيرة…قُطِع قلب الزنجي إلى عدة قطع، وكذلك كبده…بلغ سعر القطع الصغيرة من العظام 25 سنتًا».

إنَّ الإرهاب العرقي عنصر جوهري لتخليد الرأسمالية العرقية، وهو سبب رفض حكومة الولايات المتحدة حتى هذا اليوم تصنيف جماعة الكلو كلوكس كلان منظمةً إرهابية محلية. يرتبط إرهاب مجتمعات السود إرهابًا عرقيًّا ارتباطًا وثيقًا بالضبط والسجن المنهجي للسود، وبفضل الحرب على المخدِّرات المدفوعة بدوافع عرقية، تسجن الولايات المتحدة الآن نسبةً من الأمريكيين من أصل إفريقي أكبر من تلك التي سجنتها جنوب إفريقيا في ذروة حقبة التمييز العنصري.

صُمِّمت السجون الخاصة من أجل الأغنياء، على يد الأغنياء، يعتمد نظام السجون الربحي على سجن السود من أجل البقاء، كما صُمِّمت أمريكا تقريبًا. فالرجال السود في السجن أو الحبس الاحتياطي أو الموضوعون تحت المراقبة أو المُخلَى سبيلهم بشروطٍ أكثر من الذين كانوا مستعبَدين في عام 1850 قبل بدء الحرب الأهلية.

لم تحدث انطلاقة أمريكا في القرن التاسع عشر على الرغم من العبودية بل نتيجةً لها. صنعت العبوديةُ الرأسماليةَ، وخلقت العبودية بدورها إرث الرأسمالية العرقية الذي ما زال مستمرًا في أمريكا حتى اليوم.

لطالما كان هناك تعارض حاد بين مُثُل أمريكا السامية من ناحية، وبين وضع الأمريكيين من أصول إفريقية بصفتهم مواطنين من الدرجة الثانية والذي يبدو وضعًا دائمًا من ناحية أخرى. كانت سخرية القرن التاسع عشر تكمُن في وجود تمثال يُدعَى الحرية مُشرِفًا على وصول ملايين الأجانب في ميناء نيويورك، حتى مع استمرار استعباد الفلاحين الجنوبيين السود ⎼ الذين لم يكونوا أغرابًا وإنَّما كانوا يشعرون باغتراب عميق ⎼ في الحدود الاجتماعية. إنَّه نفاق أيديولوجية عنصرية تُشكِّك علنًا في أهمية نجاة الزنوج من هزيمة أمريكا للنازيين. ما زالت أمريكا حتى هذا اليوم بعيدة تمامًا عن أن تكون أمة قد تخطَّت العنصرية، فوصلت مؤشِّرات المساواة العرقية والعلاقات بين الأعراق إلى انخفاض جديد.

إنَّ مشكلة العرق هي معضلة أمريكا القومية الكبرى التي تستمر في تشكيل أكبر تهديد للتجربة الديمقراطية الأمريكية. سيستمر الاستياء الثائر في مجتمعات السود في الازدياد حتى يصل إلى نقطة الغليان الخطيرة إلَّا إذا فُضِح إرث العبودية الأكبر، وهو الرأسمالية العرقية المستمرة، وقُضي عليه تمامًا.

هذا المقال مترجمٌ عن المصدر الموضَّح أعلاه؛ والعهدة في المعلومات والآراء الواردة فيه على المصدر لا على «ساسة بوست».