ساعات معدودة تفصلنا عن توديع خمس عشرة سنة مرت بعد ألفي سنة من ميلاد المسيح، لنعانق بعدها العام السادس عشر، الذي كلنا أماني أن يكون أحسن، أن يكون أكثر سلامًا، وطمأنينة، أن يكون أكثر إنسانية، أكثر تسامحًا، أقل معاناة من الذي قبله، نريده سلاما على فلسطين وسوريا، على اليمن، على مصر، على تونس، وعلى باقي الدول العربية، وعلى الإنسانية جمعاء، خمس عشرة سنة مرت من الألفية الثالثة عانى منها العرب ربما أكثر مما عانى غيرهم، وشاءت الصدف أن تتصادف أيام ميلاد المسيح عليه السلام، مع ميلاد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فتكون الفرحة فرحتين، فرحة بسلام المسيح، وفرحة برحمة العالمين محمد العربي، تبدو كأنها إشارة من التاريخ لهذه الأمة التي تجمعها الجغرافيا ويفرقها الواقع.
سنسمح لأنفسنا أن نتغاضى عن الواقع المؤلم، ونطلق العنان لأحلامنا، فنرسم لوحة لغد أفضل، غد من الحرية والانعتاق، غد لا يكون فيه مكان، للفتنة، للمذهبية، للطائفية، للكره، غد تولد فيه عروبتنا من جديد، عروبة تتكامل فيها انتماءاتنا ولا تتصارع، عروبة يتآخى فيها السني والشيعي، المسيحي والمسلم، العربي وغير العربي، تحت سقف البيت العربي الذي نحلم أن نراه يبنى بسواعدنا، أنا، سأسمح لنفسي أن أحلم بيوم نكون فيه أحسن مما نحن عليه، يوم تبنى فيه سوريا من جديد، تستقر فيه أحوال مصر وتونس واليمن، غد يعود السلام مسرعًا فيه إلى أحضان ليبيا العربية، نريد العام السادس عشر أن يكون سلاما ورحمة، سلاما على خطى المسيح العظيم، ورحمة تيمنا بخير المرسلين محمد.
ليس عيبا ولا ضعفا أن نحلم، فقد توقف بنا التاريخ عندما توقفنا عن الحلم، عندما أصبحنا نرى المستقبل الجميل بعيدا، عندما أصبح فكرنا ماديا يترفع عما هو خيال، ربما، أنست المادية البعض أن أي برج شاهق، بدا بفكرة في عقل مهندس، وأن أي اختراع عظيم، كان حلمًا يستأنس به عالم، سمحنا لأنفسنا بأن نعكس القواعد، ونشذ عنها فأصبحنا ماديين متصلبين في فكرنا، بدعوى الواقعية التي فهمناها ربما خطأ، فالواقعية هي أن تحكم على الواقع كما هو، لكن، دون أن تمنع عن نفسك ابتداع وتصور، والحلم بما يجب أن يكون، من هنا، علينا أن نحلم بواقع عربي أفضل، وننطلق بواقعيتنا لتحقيقه، أن نتمنى السلام والحرية، ونستيقظ صباحًا لتحقيق ذلك، لا أن نستيقظ فيصدمنا الواقع ويذيب جليد أحلامنا، من حقنا أن نحلم أن نعيش واقعًا أحسن، فقد هزمنا حين توقفنا عن الحلم بالأفضل، ورضينا بالواقع الهزيل.
نحن اليوم على مرمى حجر من معانقة عامنا السادس عشر من الألفية الثالثة، نمشي هذه الساعات مشبعين بسلام المسيح، ورحمة محمد، يجب علينا أن نتيمن بهذه الصدفة التاريخية فنحلم بالسلام والرحمة، ونجمعها، لنستيقظ في الصباح على أمل تجسيدهما في واقعنا، نسالم بعضنا البعض، ونتراحم نحو بعضنا البعض، فيكون المسيحي سلامًا كسلام المسيح، والمسلم رحمة كرحمة محمد على العالمين، ما أجمل أن تكون أحلامنا العربية سلاما ورحمة، وستكون أكثر جمالا لو تحولها إرادتنا وعزمنا إلى واقع، واقع نبنيه من المغرب إلى الخليج، سلام ورحمة نتقاسمها، ونوزعها على العالم أجمع، فما المسيحي إلا امتداد للمعلم عيسى، وما المسلم إلا امتداد للحبيب محمد.
قد يبدو الأمر مثالية، أو رومانسية، أو حتى ضرب من الخيال، لكن هذا لا يجعل من تحوله إلى الحقيقة أمرا مستحيلا، ليس مستحيلا أن نعيش السلام والرحمة، فقد أصبح من السهل أن نثور على من يسيء لإسلامنا، وكذا لمسيحيتنا، لكن أصبحنا عاجزين عن أن نكون مسلمين ومسيحيين، كما كان السيد المسيح، والرحمة محمد، أليس من الأولوية أن نثور على أنفسنا، فنكون كمعلمينا، حتى نواجه الآخرين بثقة أكبر في أنفسنا، متسلحين بالوحدة، التي أصبحنا نراها على أوراق الخرائط الساكنة، نرى العروبة تسند بعضها البعض، الجزائر فاتحة ذراعيها لليبيا وتونس من اليمين، وللمغرب وموريتانيا من الشمال، تطل بهم على شرفة المتوسط الجميل، وكذا الحال بالنسبة لمصر التي تحتضن أرض فلسطين، وتساند الجارة السودان، فتمشي قليلا متأملًا في عظمة الجغرافيا، لترى العروس سوريا وقد جمعت حولها العراق ولبنان، والأردن، دون أن تغفل فلسطين السجينة، لترى بعد ذلك عظمة الأم السعودية وهي تحيط بصغارها، الإمارات، وقطر، البحرين، والكويت، وتقف على السلطنة وعلى اليمن وهما كتف لكتف على شواطئ العرب.
نعم هي مدعاة للحزن، أن نكتشف أن الجغرافيا رحمتنا، في الوقت الذي لم نرحم فيه أنفسنا، جعلتنا نصطف صفًّا واحدًا متماسكًا، متراصًّا، يسند بعضه البعض، وكأنها تقول للإنسان العربي امض في مأمن من نواكشوط إلى صنعاء، وألق سلامًا على الصومال، وجيبوتي، وحتى جزر القمر، والتاريخ في كل مرة يحاججنا بصدفه، فتمر دون أن نعي، هناك حكمة في أن يعيد التاريخ ميلاد المعلمين المسيح ومحمد في نفس الأيام، فشلت الجغرافيا، وفشل التاريخ في أن يوحدنا، حين فشلنا نحن في أن نحلم، وأن نسعى لنرى أحلامنا ترسم واقعنا، كيف لم ننجح ونحن تلامذة المسيح ومحمد، كيف نعنف من يمسهما بسوء، ولسنا قادرين على جلد أنفسنا ونحن من ضيعنا وصاياهما، ضاع منا السلام، وضاعت منا الرحمة.
أمنياتنا في هذا العام، لن تكون أمنيات الميلاد، بل ستكون أمنيات الميلادين، فالفرحة هنا فرحتان، فرحة بالسلام، وفرحة بالرحمة، نور في المساجد، وشموع مضاءة داخل الكنائس، نريد العام السادس العشر، نورًا وضياءً، سلامًا ورحمةً، في كامل منطقتنا العربية، نريد أن تكون الخمسة عشر الماضية آخر أيام تعاستنا، وغبننا، وتشردنا، نريد أن نجتمع حول العروبة التي ضاعت منا، حين ضيعنا أنفسنا، حين توقفنا عن الحلم العربي، عن أمنية تشييد بيت عربي يكون تكملة للبيت الذي بنته لنا الجغرافيا، ودعمت أعمدته صدف التاريخ، فليكن العام السادس العاشر، ببركات السيد المسيح، ومعزة النبي الرسول محمد، أمنًا، وأزهارًا ورقيًّا، على الأهل في سوريا، وفي مصر، وفي ليبيا، وفلسطين وتونس واليمن، فليسكن سلام المسيح، ورحمة محمد صلى الله عليه وسلم في قلب كل عربي في هذا الصرح العربي الفسيح، الذي يستحق أيامًا أفضل، وواقعًا أحسن، من عندنا بزغ فجر المسيح، وعلى أرضنا ولد الصادق الأمين، نحن صدرنا النور إلى العالم أجمع، لكننا بخلنا على أنفسنا أن نترك شيئا منه لنا، وللقادم من أجيالنا.
فليكن القادم أحسن، ليكن سلاما يولد من فلسطين، ورحمة تولد في أرض مكة المكرمة، فيعم السلام والرحمة على كامل جغرافيتنا المريضة، التي تئن من وجع القهر، والحروب، والاقتتال، فيعود سلام المسيح، ورحمة محمد إلى أيامنا، ولتعد الأفراح إلى خير الأمم التي أخرجت للناس، والتي كنا للأسف جزءًا من تعاستها، هي أمنية الميلادين، ميلاد السيد المسيح عليه السلام، ومحمد صلى الله عليه وسلم، وغدًا نريده أن يكون أفضل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست