لا يكاد يمر يوم على الساحة العربية إلا ويذكرنا بحدث ثوري، هذا فضلاً عن أننا نرى أن الملحمة الثورية اتخذت مسارات ومستويات مختلفة أكثر عمقـًا ولعل من ثمار الحالة التي يعيشها الإنسان “الغائب” أو الذي أصبح في طور الظهور أصبح أكثر صدقـًا في محاولة كشف القصور الذي أدى بنا إلى ما نحن عليه.
قد أتى هذا المقال أو سلسلة الحقائب الثورية من خلال مناقشات شبابية تبحث سبل تصحيح أهم الحقائب الثورية “الأدوات والمسائل الفكرية” المرتبطة بالعمل الثوري والتي رأينا أنها من أسباب تخلف العمل الثوري وضياع بوصلته.
بات من الواضح أن السواد الأعظم من أبناء الأمة العربية قام بثوراته بصورة عفوية وإيمانًا منه كإنسان عاطفي أن النتائج التي من الممكن الوصول إليها ستحدد بشكل لاحق الفكر والنمط الثوري الحقيقي، بيد أن الحالة العاطفية التي سادت إبان انطلاقة الربيع العربي لم تنجح بأن تصل الثورة إلى تلك الحالة التي تنسجم بداخلها الدوافع المؤسسة للعمل الثوري وتلغي الحواجز الممانعة لها.
ومع تقدم العقلانية “الثورة المضادة” في مواجهة الهبة العاطفية اصطدم الوعي الثوري بعمومه بافتقاده إلى أدوات فكرية خلاقة قادرة على احتضان الدوافع المباحة بل الضرورية التي تشرعنها حالة الإنسان العربي الذي يقبع في أسفل البنية الحضارية العالمية.
وإنه لمن التخبط الواضح أن تحاول النخبة من أبناء الأمة في غمار الأحداث والاصطدام الثوري أن تعود إلى ترميم أرضية مؤسسة للفكر الثوري أو بنائها، مما أدى إلى فقدان الشعوب ثقتها بهذه النخب بشتى مجالات عملها.
“وقد ظهر لنا من خلال كتاب النخبة والثورة لمؤلفه نبيل عبد الفتاح الكثير من الثمار التي يجب تناولها بصدق وبحث وإخلاص إذ أنها كشفت الكثير من الضعف والقصور، ولعل أبرز ما يجب الوقوف عليه الاعتراف بهذا القصور على مستوى النخب والأحزاب”
“وما زالت مكتباتنا ومراكز البحث منوط بها جهود أكبر لبحث القضايا الثورية العربية والإسلامية وفكرة الثورة بذاتها”
ولعل أكبر التساؤلات الممانعة للعمل الثوري الجمعي وعلى مستوى كافة طبقات المجتمع تلك التي تأتي من الطبقة المهيمنة على هوية الدولة وهي طبقة الفقراء وما دون الطبقة المتوسطة التي ينأى بها حالها للعمل الثوري والانخراط به ولسان حالها يقول إذا كانت النخبة لا تملك بوصلة تهتدي بها لما تريد فكيف بحال من غيبته الدولة عن الاشتغال بأي نشاط من شأنه أن يكشف له أسس التغيير. فسرعة رغيف الخبز وتعرجاته أثقلت كاهل العامة من أبناء الأمة من الاكتراث بمثل هكذا أساطير على حسب تعبير بعض منهم.
هل الثورة غريبة أم فكرة أصيلة؟
والخطاب الديني لتعدد الفرق وعدم الوفاق لتحديد المفهوم أصاب وعي الطبقات المخاطبة بالعمل الثوري بكثير من الإحباط وأفقدها الثقة، ولكن التاريخ يجيب عن هذا التساؤل بشكل واضح ودقيق بحيث إنه ثبت أن التاريخ العربي قبل الإسلام استخدم فكرة الثورة والثورية بشكل مستمر، والنماذج ذات الدلالة المباشرة على هذه العملية كثيرة، وقد أشار لبعض هذه النماذج الأستاذ محمد عمارة في كتابه الإسلام والثورة فذكر مما أورده “الصعلكة” والفتوة”
وهي جماعات تضم بعضًا من الشعراء تقوم على أساس الوقوف ضد الحالة الجاهلية والنمط السائد في تلك المرحلة، وقد استقطبت هذه الجماعات كثيرًا من الشعراء والشخصيات التي بالفعل تتحلى بالروح الثورية، ومن خلال تجاوز فكرة التحريم أو التغريب للعمل الثوري يمكننا أن نعود إلى جذور تأصيل الفكرة.
الإنسان والثورة:
لا يمكن قراءة الحالة الثورية لأي مجتمع بشكل سوسيولوجي دون الخوض في غمار بحث المسالة في الذات الفردية، فيمكن القول إن الحالة الثورية أو الهبة الجماهيرية “البوعزيزية” التي انطلقت هي في حقيقة الأمر لم تتجاوز صراع الهو حسب التعبير الفرويدي إذ إننا شاهدنا أن تراكمات الآلام طغت على أدنى وميض يدعو للتفاؤل، وكانت حادثة الشرارة دلالة على عدم خروجها عن جغرافيا الهو الذي لا يلقي بالا للمنطق أو الأخلاق التي تتحلى بها الأنا العليا باستحقاق وجودها ونشاطها الجمعي.
وفي الوقت نفسه هي لم تكن جريمة ذاتية بحتة إذ إننا لا ننسى أن وقود إشعال هذه الحادثة قد أتي من خلال قيود ثقيلة وحواجز أضاعت أي نظم خلاقة على صعيد الأنا العليا المرتبطة بالنظم الأخلاقية الجمعية، وأن حالة الواقع الحالي تفكك الروابط وتضيقها إلى أبعد مدى وهذه الحالة التي تعيشها نفسية الإنسان الحديث هي من ثمار وآفات مجتمع ما بعد الحداثة.
بات من الواضح أن “الأنا” حسب التعبير الفرويدي بوصفها حالة متزنة ومعتدلة بل في أحسن حالاتها، تشكك بشكل كبير في وجود نظم أخلاقية وبتعبير أكثر وضوحًا في زمن الاّلة والسوق المفتوح يصبح من السذاجة الحديث عن النظم الخلاقة.
“ما نود تأكيده أن الذات البشرية بتفاعلاتها تقود إلى خلق الدوافع الثورية بحيث إن الأنا ليست معتدلة “وهي صفة لوضعها المثالي”، فحقيقتها متذبذبة ما بين الفرد والواقع المتغير”
“لا يمكنك ان تضع قدمك في النهر مرتين” – هرقليطس
فهي تحاول وفق معايير الهو والأنا العليا المثالية أن تخلق التوازنات التي من شأنها أن تجعلها في حالتها الطبيعية من اعتدال وتوازن، ولكن ما أن يطغى تفاعل في أحد جوانب الأنا حتى تصبح ضرورة فكرة الإصلاح والتغيير لا مفر منها ودائمًا ما نثق بالأنا العليا والنظم المكتسبة من الأنا وبما أننا نعيش في واقع فاقد لأي معايير حقيقية لفكرة الأنا العليا تصبح دائرة مركز صناعة الحلول الأخلاقية ضيقة إلى أبعد مدى، وهذه الحلول تأتي من خلال الخبرة المكتسبة التي عايشتها الأنا، وفي الغالب فإن هذه الخبرة وكفاءتها مرهونة بحسب المجتمع وأنويته المؤسسة لنظمه وركائزه التي تضخ ما يمكن اعتباره قوانين السيسولوجية للأنا بالمستوى السيكيولوجي، إذ إن المجتمع هو ذاك القالب الذي ينصهر بداخله نماذج الأنا بوصفها نماذج متشابهة.
“وللأسف فإن النخبة الثورية لم تستطع أن تعمم الحالة البوعزيزية بصورة علمية حقيقية ليتبناها أبناء أمتنا بل ذهبت لطرحها بصورة مجازية لتسريع العمل الثوري والتماشي مع ردة الفعل العاطفية”، وهنا صدق لينيين حينما قال: ليس كل حالة ثورية تقود إلى ثورة.
ولا يمكن للمجتمع أن يختزل بذاته نموذجًا استثنائيًا من شأنه خلق فوضى واضطراب في كيانه، خصوصًا في مجالات النشاط الجمعي وقد رأته الفلسفة الماركسية بالمجتمع الاشتراكي، لذا فثبات الرؤية النهائية لنموذج المجتمع يؤدي إلى استقرار الأنا الفردية.
وعليه فإن تلاشي القيم السيسيولوجية وقلة الخبرة لدى الأنا الفردية ينتقل الصراع إلى أدنى مستوياته ليصبح ضمن نطاق الهو ووفق ثنائية اللذة والآلام يمكننا توقع نتائج هذا الصراع الخالي من القيم الأخلاقية والمنطقية في حال طغيان أحدهما على الآخر.
ووفق هذا الصراع بين الحالات النفسية البيولوجية والسيكولوجية والسيسولوجية يمكننا القول إن أي خلل يصيب الإنسان بدافع داخلي أو خارجي لهو إعلان حالة ثورية ملحة ضرورية ومن هذه الحقيقة نرى أن الإسلام قد حذر المسلم من الوصول إلى هذا الأمر؛ إذ فرض مبدأ قادر على ضبط هذه التوازنات التي تعود بالنفع على الإنسان بصفته الفردية ولبنة في مجتمع متماسك، وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق الأفكار الأصيلة والعادات الحميدة المتعارف عليها.
لذا فالإسلام لم يشرع هذا المبدأ إلا لما فيه خير لهذا الإنسان وفي أبسط تعريف لهذا المبدأ هو إنها عمليات من شأنها المحافظة على استقرار النفس البشرية باختلاف مستوياتها الفردية والجمعية ووفق أحكام وضوابط أثبتت حقيقتها من خلال التجارب وليس النصوص أو الاعتقاد الأعمى، مما يكسب هذا المبدأ قدسية أخرى تؤكد عظيم نصوصه وشرائعه.
أن أية قاعدة إنسانية ثابتة لن تكون مضادة للتعاليم الإسلامية، فعلى مدار أكثر من ألف عام وهي تخضع هذه المقولة للمقارنات والقياسات، وأثبتت إعجازية القرآن وشريعة الإسلام، وعليه فإن الباحث في أعماق ذات الإنسان يؤكد أن المسار الثوري والروح الثورية هي أداة ونشاط إنساني خلاق يبدأ من خلال محاولة تلبية الاحتياجات الضرورية على مستوى الأنا لتصل إلى مستوى روحي وشعور مشترك بين أفراد الأمة بيد أن هذا الانصهار للنماذج الفردية من أبناء المجتمع في بوتقة العمل الثوري كجسد وروح واحدة يأتي من خلال فهم عقلاني كبير.
{إن مشكلة الثورة ليست بمدى اقترانها بأفكارنا الأصيلة فهي حقيقة ثابتة لا يرفضها إلا من يقفون ضدها، إن مشكلتنا هي بتفعيلها وفق خطط وقونين فاعلة موضوعة وليست تلك المطبوعة}
“من أبرز من ينظرون بكفاءة إلى مثل هذه المعاني الثورية العميقة والعقلانية هو الفيلسوف الألماني هيجل بكتابه العقل والثورة”
الإنسان في العمل الثوري هل هو ذات أم موضوع؟
لقد رأينا وفق التفكيك للفكرة الثورية بأدوات فرويد أن الثورة هي من صميم التفاعلات والأعمال التي يقوم بها الإنسان في مسيرة حياته ونشاطاته، ولكن لا بد من تسليط الضوء على ثنائية الذات والموضوع في العمل الثوري، ولتلافي الحشو في هذه المسألة نقول إنه في الحالة الثورية لا يجوز للثوريين أن يصبحوا موضوع فهم في هذه الحالة مفعول به أو عليه كما يقول الكاتب هشام غصيب بل عليهم أن يكونوا ذاتًا واعية متكاملة من دوافع ووعي بالعمل الثوري الجمعي.
إن أكبر خطر يمكن أن تشكله الثورة على نفسها هو أن تختزل مفهوم مسبق لنموذجها الاجتماعي الواجب اتباعه أو ذاك الذي على الفرد أن يتحلى به، فأية عملية تنميط مغايرة للرؤية الحقيقة للذات ستؤدي إلى تشكل أنوية الثورة المضادة بشكل تلقائي.
لأنه كما راينا أن الطاقة الثورية تنفجر في أعماق الإنسان من مستويات مختلفة إما في بنية الهو اللامنطقي اللاأخلاقية وإما من خلال اضطراب النموذج النهائي بوصفه المجتمع المثالي المتزن السيسولوجي وفي حال اضطراب هذا الأخير وللحفاظ على المسيرة الثورية مخلصة صادقة وقوية وبكامل طاقتها يجب التأكد أن حالة الاضطراب قد لامسة وبشكل واعي البنية التحتية للذات الفردية فهي بالأصل مرتبطة به ارتباطـًا وثيقـًا وهنا يمكن القول إن الثورة عقلانية لشعورها أن الذات والأنا مرتبطة بالكلية بالحالة التي عليها هذا النموذج في صورته النهائية السيسيولوجية بعكس الثورة النرجسية العاطفية التي لم تنتبه لما أصابها في ذاتها وإنما ثارت لنموذجها الخارجي لرمزيته التاريخية أو لأسباب أخرى كثيرة.
“إن دعوتنا إلى العقلانية وتجاوز الحالة العاطفية تقف عند حدود العمل الثوري الجمعي وفي الوقت نفسه يجب دائمًا تغذية الذات بالعواطف الدافعة للعمل الثوري؛ لأن العملية الثورية عملية علمية وليست عشوائية وتقوم على تأسيس نماذج ثابتة إما أنها تجديدية وإما أنها تاريخية كما يرنو إليه الإنسان المسلم بتحقيق نماذج تاريخية وإعادة هذا النموذج للحياة على مسرح التاريخ بعد غياب طويل”.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست