فاطمة الزهراء علي
59
Follow @Fatmahzahraliفي إحدى رسومات أمين عامر الساخرة من واقع السياسة في شرق أفريقيا؛ تظهر كتيبة من الجيش الكيني متجهة صوب مدينة كسمايو الصومالية، في خط معاكس لكتيبة من حركة الشباب تهرول باتجاه الأراضي الكينية.
يعرض رسام الكاريكاتير الصومالي الكندي بريشته حالة سياسية – عسكرية بالغة التعقيد، أضفت أبعادًا جديدة على الأزمة الصومالية وعلى الواقع الإقليمي المحيط بالصومال.
ويتناول هذا المقال إشكاليات الوضع الأمني الكيني وملابساته المتعددة، في ظل تصاعد التهديد الذي تشكله حركة الشباب على كينيا.
مصادر التهديدات الأمنية
تطرح دراسة حملت عنوان “طبيعة ومحركات حالة اللاأمن في كينيا”؛ صادرة في أبريل عام 2015 عن مركز الدراسات الأمنية ISS بجنوب أفريقيا؛ فرضية وجود تهديدات داخلية بارزة، خلقت – إلى جانب التهديد القادم من الصومال، والمتمثل بحركة الشباب – توليفة من التهديدات عالية المخاطر على كينيا، بغض النظر عن تقليل الحكومة الكينية من حجم العوامل الداخلية المؤثرة سلبًا على الاستقرار. وتقسم الدراسة مصادر التهديدات الأمنية إلى ثلاثة أصناف رئيسة:
(أ) العصابات المسلحة، والنزاعات الداخلية
المواطنون المسلحون والمنخرطون في العصابات الإجرامية يشكلون أول تهديد أمني تواجهه كينيا. ومن أشهر العصابات الكينية: Mungiki, Sungu Sungu, Shinkololo, Bagdad Boys, 42 Brothers ، بالإضافة إلى ما يقرب من 28 عصابة أخرى تعمل في مناطق عديدة.
بحسب تقارير الأجهزة الرسمية فإن الأنشطة المتراكمة للعصابات بين عامي 2011-2014 كانت وراء 686 حادثـًا، أسفر عن وفاة ما يقدر بنحو 1262 شخصًا، أي بمتوسط حالتي وفاة في كل حادث. ومنذ عام 1997 تصدرت محافظة الوادي المتصدع أعلى نسبة لحوادث العصابات، تليها المحافظة الشمالية الشرقية، ثم المحافظة الشرقية، والمحافظة الوسطى. ونشطت بعض المجموعات المسلحة في المناطق الحدودية مع جنوب السودان وإثيوبيا وأوغندا.
يدخل أيضًا في هذا الصنف من العنف؛ النزاعات المسلحة التي تحدث أحيانـًا داخل المجموعات العرقية الرعوية، مثل قبائل التُّركانا والصوماليين وغيرهما، رغم كونه عنفـًا محدودًا مقارنة بعنف العصابات المسلحة.
استخدم السياسيون منذ عهد الرئيس دانيال آرب موي؛ مجموعات مسلحة غير منخرطة في الأجهزة الرسمية للدولة من أجل ترهيب معارضيهم، ما ساهم في نشوء عصابات مسلحة على أساس عرقي أو سياسي في التسعينيات، تبنى بعضها دعم الفئات الاجتماعية المحرومة داخل المجتمع الكيني.
بصرف النظر عن مشاركة العصابات في مختلف أشكال الجريمة داخل المدن، والعنف البيني وحوادث سرقات الماشية في القُرى والأرياف؛ فإن وجودهم يكون محسوسًا بشكل فجّ حين يصل النشاط السياسي في البلاد إلى ذروته، وكثيرًا ما تُوظّف العصابات الإجرامية من قبل النُّخَب السياسية والاقتصادية للقيام بأعمال قذرة لتخويف قطاعات معينة من السكان، في سبيل تحقيق مكاسب سياسية. وهذا يفسر زيادة أنشطة العصابات في أعوام: 1997، 2001، 2005، 2007-2008، 2013، فكلها سنوات انتخابات واستفتاءات دستورية.
(ب) عنف الدولة
ظلّت الدولة مصدرًا أساسيًا لانعدام الأمن بالنسبة للعديد من المجتمعات والفئات داخل أراضيها؛ عبر استجابتها المتطرفة لمختلف التحديات التي تواجه سلامتها، سواء أكانت أنشطة مدنية أم حركات تمرد مسلحة في الأجزاء غير المستقرة من البلاد، بالإضافة إلى سوء استخدام أجهزة أمن الدولة من قبل السياسيين. اتضح ذلك في فترات الأزمات التي مرت بها البلاد منذ الاستقلال وتأسيس الدولة إلى يومنا هذا.
تعرضت المحافظة الشمالية الشرقية من كينيا للنصيب الأوفر من عنف الدولة منذ الستينيات، جرّاء حساسيات التقسيم الاستعماري لمنطقة القرن الأفريقي، ومطالبة القومية الصومالية بتقرير المصير والانخراط في مشروع “الصومال الكبير”، ومحاولات إشعال التمرد في المحافظة.
لم يكن واقع منطقة القرن الأفريقي ولا الواقع الدولي مهيئًا لتمرد من أي نوع، فكان الصوت الأعلى للقبضة الأمنية في التعاطي مع مشاكل المحافظة، وارتفعت أرقام الضحايا على مدى عقود لتشمل أعدادًا كبيرة من المدنيين العزل ضمن سياسة عقاب جماعي وحشي.
تعدّ مذبحة مدينة غاريسا والتي ارتكبتها الأجهزة الأمنية عام 1980 من أشهر حوادث العقاب الجماعي المسجلة في الإقليم الصومالي بكينيا. جاءت المذبحة ردًا على قتل ستة مسؤولين حكوميين في غاريسا، وأسفرت عن إعدام مئات الصوماليين، وتعرض المئات منهم للتعذيب والاغتصاب والاعتقال التعسفي، بالإضافة لحرق الأحياء والعقارات، ونهب الممتلكات.
وبعد أربعة أعوام؛ في فبراير عام 1984 ارتكبت الأجهزة الأمنية مذبحة أخرى في الإقليم بمدينة وَجير، عرفت باسم المطار الذي نُفّذت فيه المذبحة Wagalla، ردًا على اشتباكات عشائرية في المدينة. احتجزت القوات الكينية قرابة 5000 شخص في ساحة المطار، ونكّلت بهم لخمسة أيام، قبل أن تعدم المئات منهم ميدانيًا. وسُجّلت حوادث مشابهة لاضطرابات داخلية في الإقليم أدت إلى قتل جماعي مارسته أجهزة الدولة الكينية.
تصاعد استخدام القوة المفرطة من قبل الدولة في مختلف الأقاليم منذ الانقلاب الفاشل على حكم الرئيس جومو كينياتا عام 1982؛ وتم ضرب الفئات المهمشة، والمعارضين السياسيين، والأكاديميين، والقيادات الطلابية. وهذا يفسر جزئيًا الجهود الجارية والصراع الوطني الحالي من أجل إصلاح جهاز الشرطة الكينية باعتباره الهيكل التشغيلي الوظيفي للدولة.
(ج) عنف حركة الشباب
شكل وجود المؤسسات الدولية والغربية بكثافة في كينيا عامل جذب للجماعات الجهادية في وقت مبكر. فتهديد تلك الجماعات ظهر منذ التسعينيات واستمر حتى بداية الألفية قبل بروز حركة الشباب كقوة ضاربة في الصومال والمنطقة، من خلال ضرب أهداف غربية – إسرائيلية بعمليات تبناها تنظيم القاعدة.
تذكر الدراسة أن بداية النشاط العملياتي لحركة الشباب في كينيا كان في أكتوبر عام 2008، حين اشتبه حضورهم في مدينة مانطيرا في المحافظة الشمالية الشرقية إبان اشتباكات عشائرية. كما يشتبه أيضًا قيامهم بعمليات استهداف عناصر من الشرطة الكينية في الإقليم عام 2009، واختطاف راهبة إيطالية في مدينة وَجير.
بحلول ديسمبر عام 2014 سُجِّلت 211 حادثة عنف ارتكبتها حركة الشباب، 19 حادثة كانت قبل التدخل العسكري الكيني في الصومال (أكتوبر عام 2011)، و 192 حادثة وقعت عقب التدخل؛ أي 90 % من إجمالي حوادث الحركة.
تسبب عنف الحركة منذ ظهوره عام 2008 في كينيا بحوالي 9 % من مجموع حوادث العنف، في حين تسببت حوادث العصابات المسلحة والنزاعات الداخلية وعنف الدولة ضد المدنيين مجتمعة بحوالي 91 % من مجموع الحوادث، وإن كان عنف الحركة مؤخرًا – من جهة أخرى – يتصدر المرتبة الأولى فيما لو قورن منفردًا بعنف العصابات المسلحة وحدها.
وتُعزى الهالة الإعلامية المحيطة بحوادث العنف التي تسببت بها حركة الشباب داخل كينيا مقابل التعتيم على مصادر العنف الأخرى إلى كثافة هجمات الحركة منذ عام 2011، وضربها أهدافـًا مدنية ناعمة؛ كالهجوم البشع على جامعة غاريسا في أبريل 2015، واستخدامها تكتيكات حرب العصابات الفتّاكة، علاوة على التآزر الدولي في مشروع “مكافحة الإرهاب”.
محركات العنف الحالي
تعتبر طبيعة منطقة القرن الأفريقي وشرق أفريقيا بشكل عام؛ والتي تمثل بؤرة لمشاكل أمنية تاريخية معقدة، والمأهولة بهويات عرقية متجاوزة للحدود السياسية الهشّة؛ أحد محركات العنف التي يصعب تجاهلها. غير أن الجذور الممتدة داخل كينيا تشكل الأساس الذي يعزز العنف الحالي.
في سياق الإجابة على السؤال الإشكالي؛ لماذا تعتبر كينيا عرضة للخطر في الوقت الراهن؟ تستعرض الدراسة بعض القضايا التي تغذي عنف حركة الشباب المتزايد في كينيا، نذكر ثلاثة منها:
(أ) طبيعة الدولة الكينية
تمتع الرؤساء في كينيا وشاغلو المكاتب التنفيذية حتى إعلان الدستور الجديد عام 2010 بصلاحيات هائلة تراكمت بشكل تدريجي ومنهجي بالتعديلات الدستورية التي تبنتها الحكومات المتعاقبة بعد الاستقلال بداية الستينيات. وتميزت مؤسسة الرئاسة بسلطة مطلقة، واعتداءات مفرطة، وفساد واسع النطاق، والاستحواذ على الموارد الوطنية، وإساءة استخدام أجهزة أمن الدولة لإسكات المعارضين.
جاء الدستور الجديد نتيجة ضغوطات حثيثة للإصلاح السياسي؛ وعلى الرغم من التقدم النسبي الحاصل في تفكيك النفوذ الإمبريالي لمؤسسة الرئاسة، إلا أن تجاوز أكثر من أربعة عقود من المشاكل السياسية المعقدة المرتبطة بسُلطاتها المطلقة ليس أمرًا هينًا.
اقترنت فكرة “الدولة” بالاغتراب في أذهان كثير من المواطنين الكينيين الذين يعتقدون – على اختلاف انتماءاتهم العرقية – أن المحسوبية السياسية هي أساس استبعاد أي طرف أو إدراجه في المشاركة السياسية وموارد الدولة، الأمر الذي انعكس بشكل سيئ على مفاهيم مثل “حب الوطن”، و”احترام العقد الاجتماعي”.
ففي محافظة الوادي المتصدع – مثلاً – رعت الدولة الكينية منذ نشوئها؛ وسيرًا على خُطى الاستعمار البريطاني؛ تهجير المئات من المواطنين في الإقليم من أراضي أجدادهم والاستيلاء عليها عُنوة، لتوطين مجموعات أخرى، ما غرس تاريخًا من الأوجاع المفتوحة والعداوات بين قبائل الـ Kalenjin و الـ Kikuyu.
(ب) طغيان التهميش
ظاهرة التهميش في كينيا من أخطر مظاهر هيمنة المجموعات المتنفذة سياسيًا واقتصاديًا على شؤون البلاد، وتبرز أحد تمظهراتها في مجال توزيع الأراضي؛ ففي المحافظة الساحلية ذات الأغلبية المسلمة تشمل المظالم التاريخية إعادة توزيع الأراضي من قبل شبكات المحسوبية السياسية، في حالة شبيهة بمحافظة الوادي المتصدع، ويُقال إن ما يقرب من 80% من ملاك الأراضي حاليًا في المحافظة الساحلية ليس لديهم سندات ملكية، ما يجعل النزاعات العالقة على الأراضي أمرًا شائعًا في المنطقة.
يصف بعض المواطنين الكينيين هيمنة شخصيات من أقاليم أخرى على المؤسسات الحكومية في المحافظة الساحلية بالتهميش المنهجي والمتعمّد لإقصاء سكان الساحل من الشأن العام. ويمتدّ الشعور بالتهميش إلى الموارد الاقتصادية وفرص التعليم وفيما يتعلق بالهوية وإثبات الجنسية الكينية. عبّرت عن هذا الشعور بشكل حاد إحدى العصابات المسلحة الناشطة في الإقليم، بالشعار: Pwani si Kenya، أي: الساحل ليس كينيا.
(ج) سياسات اللاأمن
تظهر سياسات اللاأمن الراهنة في كينيا على صورتين؛ الخلق المتعمد لتلك السياسات، وتوظيف حوادث العنف لأغراض سياسية. ويظهر ذلك – على سبيل المثال – في تلاعب المعارضين السياسيين بمفهوم الظلم التاريخي المتعلق بالمشاركة السياسية وتوزيع الموارد والأراضي؛ إما بطرح وعود انتخابية فضفاضة بإصلاحات شاملة أو باتهام المنافسين السياسيين والمجموعات العرقية الأخرى بلعب دور محوري في استمرار النظام الظالم، ومثل هذه التصريحات غير العملية لا تضع اعتبارًا لاستقرار البلاد وللوحدة الوطنية.
وعلى الطرف الآخر؛ ثبت أن بعض السياسيين منخرطون في تحالفات استراتيجية مع عصابات مسلحة وميليشيات عرقية لتخويف المعارضين السياسيين في المحافظة الوسطى ومحافظة الوادي المتصدع، وحدثت عمليات قتل جماعي مروعة في منطقة دلتا نهر تانا في الفترة التي سبقت انتخابات عام 2013، وقبل ذلك تمّ اكتشاف مقابر جماعية خارج قرية Kilelengwani عام 2012، والتي تورط فيها مساعد وزير الثروة الحيوانية.
بدا تسييس حالة اللاأمن واضحًا عقب هجمات Mpeketoni في يونيو عام 2014، والتي راح ضحيتها أكثر من 60 شخصًا، فعلى الرغم من الشهادات الأولية لشهود العيان، وتبني حركة الشباب لاحقـًا للهجمات، إلا أن الحكومة الكينية سارعت إلى إلقاء اللوم على عناصر سياسية محلية، وظهرت إثر تلك الهجمات مفاهيم مثل “الإرهاب المستأجر” لاتهام المعارضين السياسيين بالوقوف وراء حوادث العنف، وذلك بغرض التغطية على فشل الحكومة الأمني. ورغم التغييرات التي حدثت في التعيينات الحكومية في قطاع الأمن لكنها تغييرات تجميلية لا تضع يدها حتى الآن على جذور مشكلة انعدام الأمن.
اتجاهات الرأي العام
نستعرض فيما يلي ثلاثة جداول نشرت في دراسة استبيانية صادرة في يوليو عام 2015 عن مشروع Afrobarometer البحثي، والذي يُعنى بقياس الرأي العام في الشؤون الاقتصادية والسياسية والاجتماعية بالدول الأفريقية جنوب الصحراء، ويضم مؤسسات بحثية وأكاديمية في جنوب أفريقيا وغانا وبنين وكينيا، بالإضافة إلى جامعة ولاية ميتشيغان الأمريكية.
يوضح الجدول الأول أن ثلثي المواطنين الكينيين أيدوا التدخل العسكري الكيني في الصومال ابتداء – بالرغم من مخاوف انتقام حركة الشباب – بينما يعتقد 48 % من المواطنين بضرورة الانسحاب من الصومال منذ عام 2014.
يبين الجدول الثاني ارتفاع الإحساس بالتهميش لدى المواطنين الكينيين من القومية الصومالية مجددًا بحلول عام 2014.
ويؤيد الجدول الثالث ما وصفته منظمة العفو الدولية في تقريرها الصادر عام 2014 بالابتزاز والانتهاكات المتزايدة التي تقوم بها الشرطة الكينية في حق المواطنين من القومية الصومالية مقارنة بالانتهاكات الممارسة ضد العرقيات الأخرى مجتمعة.
إن إساءة استخدام الدولة سلطاتها، والفوارق الطبقية الهائلة بين فئات المجتمع الكيني، واضمحلال سلطة الدولة في الأطراف وفي الأحياء الفقيرة والعشوائيات داخل العاصمة والمدن الكبيرة؛ أعطى مجالاً واسعًا لازدهار العنف من قبل مختلف الأطراف، بما في ذلك حركة الشباب، وما لم تتعامل الدولة بجدية مع جذور الانفلات الأمني فإن حوادث العنف مرشحة للازدياد.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست