فيصل عادلFollow @fisel5
لم يكن يعلم “محمد يسري الدمياطي” أنه حين سيخرج من منزلة في ذلك اليوم، لن يعود إليه مرة أخرى، سيفارق الحياة تاركًا زوجته وابنته الرضيعة بنت الشهور القليلة. شاب مصري من مدينة بورسعيد، مثلة مثل باقي المصريين، كان يحلم بالأفضل لأطفاله ليس أكثر، وفي تلك الليلة 27يناير/كانون الثاني 2013 خرج محمد من منزله وعاد إليه تلك المرة في كفنه. كان محمد يسير نحو منزله بعد أن أحضر احتياجات منزله، وكان يقف في الشارع التجاري على مسافة 150 مترًا من قسم شرطة العرب، مثل أي بورسعيدي كان تضرر من قرار السوق الحرة، كان يشعر بمرارة نقص الحال، مستسلم مثله مثل باقي أهل المدينة وهم يرونها تذبل، فاجأه طلق ناري طائش في الرأس فقتله على الفور.
هكذا انتهت حياته بتلك البساطة، حين ذهب أقاربه إلى المشرحة أعطوهم أكياس البقالة التي كان محمد يحملها. كان بها حفاضات للأطفال اشتراها لابنته التي تبلغ من العمر سنة. في المشرحة طلبت من الطبيب الشرعي الرصاصة فقال إنها غير موجودة لأنها نفذت من الجهة الأخرى. ولم تكن هناك رصاصة واحدة بالجثث الخمس التي تم إحضارها للمشرحة في تلك الليلة الدامية.
الصمت اجتاح أرجاء قاعه المحكمة، يتقدم نحو المنصة اللواء “محمد إبراهيم” وزير الداخلية الأسبق في عهد الرئيس المعزول محمد مرسي والرئيس عبد الفتاح السيسي، ويقف أمام قضاه محكمة جنايات بورسعيد برئاسة المستشار محمد سعيد الشربيني، من أجل الإدلاء بشهادته حول أحداث 26 و27 و28 يناير/ كانون الثاني 2013 أو ما تسمى إعلاميًا “بأحداث سجن بورسعيد”.
طلب منه القاضي الإجابة عن سؤال الدفاع عما إذا كان هناك وجود تعليمات من اللواء “سامي سيدهم” تفيد بأنه في حالة إطلاق النار على الشرطة يجب التعامل معها بالطريقة ذاتها؟ قال بأن اللواء “سيدهم” وهو مساعد وزير الداخلية قد أصدر قرارًا لكل قائد موقع في بورسعيد بتقدير الموقف، وأنه إذا توافرت شروط حق الدفاع الشرعي عن النفس يكون التعامل بالقانون، ثم قال في استنكار لسؤال الدفاع ليقول “واحد بيعرض عليا قانون أقول لا”!.
وعند سؤاله عن وجود مشاهد صورت الشرطة وهي تطلق الأعيرة النارية على المتظاهرين السلميين – وفق تعبير الدفاع -، أجاب بأنه يمكن لقائد المنطقة التي شهدتها الواقعة، أن يكون قد أصدر تعليماته بإطلاق النار. وكانت النيابة وجهت ل51 متهمًا أنهم بتاريخ 26 و27 و28 يناير/ كانون الثاني2013 قتلوا وآخرون مجهولون الضابط أحمد أشرف إبراهيم البلكي وأمين الشرطة أيمن عبدالعظيم أحمد العفيفي و40 آخرين من المدنيين وأصابوا 874 مصابًا بحسب بيان وزارة الصحة ليس بينهم ضابط واحد.
طبقـًا لمرسوم وزارة الداخلية رقم 156/1964 الذي يسمح باستخدام الذخيرة الحية لتفريق المتظاهرين، فلم توجه أية تهمة لأي فرد أمن حتى وإن كانت كل الحقائق والشهادات تثبت أن استخدام القوة المميتة تخطى حد الدفاع عن النفس.
البداية، المجزرة وظلم
اندلعت الأحداث مثل ما جاء في تقرير أربعة منظمات حقوقية – (مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والمبادرة المصرية للحقوق الشخصية، ومؤسسة الكرامة، وهيومن رايتس ووتش) – بأن ما يقرب من سبعة رجال مجهولي الهوية فتحوا النار على الشرطة أمام سجن بورسعيد العمومي يوم 26 يناير/كانون الثاني، وكان هذا بعد وقت قليل من قيام قاض بالحكم على 21 من سكان المدينة بالإعدام في العاشرة صباحًا، مدينًا إياهم بالمسؤولية عن جرائم قتل 72 مشجعًا وقعت في استاد لكرة القدم أو ما يسمي بـ”مجزرة استاد بورسعيد” في يوم 1 فبراير/شباط 2012.
كانت هناك حالة من الاحتقان داخل المدينة، كانوا يشعرون بأن هناك ظلم وقع عليهم، وهو ما أكده تصريحات لظباط شرطة قالوا “اعتقلنا مئات الأشخاص، ومن المحتمل جدًا أن يكون هناك بعض الأبرياء من بين الذين صدرت عليهم أحكام بعد ذلك”، بالإضافة إلى واقعة اعتقال أحد مشجعي ألتراس أهلاوي ثم الإفراج عنه بعد تدخل حسن حمدي رئيس النادي الأهلي السابق.
قال اللواء “محمد ابراهيم” في شهادته أن كان هناك اجتماعًا عقدته القيادات الأمنية بالوزارة وأجهزة المعلومات ومديرية أمن بورسعيد استعدادً لأية أحداث قد تتم بعد صدور حكم المحكمة، و حددت نقاطـًا مهمة بشأن التعامل منها تحديد القوات المطلوبة، وشدد الوزير السابق على أن 35 “تشكيل فض” تم الاتفاق عليها لتأمين المحافظة وتوزيعها على المقرات المطلوب تأمينها، مشيرًا إلى أن أسلحة قوات الفض انحصرت في قنابل الغاز والدرع والعصا، وأكد بأن يتم التعامل بهدوء وضبط نفس مع المستجدات، لافتًا إلى التنسيق مع وزارة العدل بخصوص عدم نقل المتهمين المحبوسين بالمحافظة للقاهرة لحضور جلسة النطق بالحكم.
و هو ما تختلف عنه روايات الشهود والأحداث التي وثقتها المنظمات الحقوقية، ففي اليوم الأول أطلق رجال الشرطة الذخيرة الحية من سطح السجن وساحاته، وبانتهاء الصباح كانت حصيلة القتلى قد بلغت 28 شخصًا، هم ضابطا الشرطة و26 شخصًا من خارج السجن. أكد الشهود أن الشرطة ظلت تطلق النار على الناس في محيط السجن لما يناهز الساعة بعد توقف النيران الموجهة إلى الشرطة، فتسببت في عدد من الوفيات والإصابات.
وقال 5 شهود على الأقل للمنظمات الحقوقية إنهم شاهدوا عربات شرطة مدرعة تتحرك عبر شوارع بعيدة عن السجن وبداخلها أفراد شرطة يطلقون النار عشوائيًا على المارة، مما أدى إلى وفيات وإصابات، ومن الواضح أنه لم يكن هناك أي قوات لفض التظاهرات أو كانت متواجدة، ولم تتعامل مع الاحتجاجات كما رتبت الوزارة، وتركت الاشتباكات بين الشرطة والمحتجين أمام قسمي شرطة العرب والمناخ، فقام بعض المحتجين بإطلاق الحجارة وزجاجات المولوتوف على الشرطة، التي ردت بإطلاق الذخيرة الحية الكثيفة والعشوائية، فتسببت في مقتل 7 أشخاص على الأقل في اليوم الثاني.
تفاقم الظلم
في ليلة 27 يناير/كانون الثاني 2013 تم التنوية في وسال الإعلام أن رئيس الجمهورية محمد مرسي سوف يلقي خطابًا عن الأحداث الدامية التي راح ضحيتها العشرات، كان ينتظر خطابه ملايين المصريين، من أجل تحقيق العدل، بالطبع الجميع كان يتعاطف مع جماهير الأهلي، فبعضهم تعاطف مع قتلى بورسعيد وبعضهم كان سعيدًا، ولكن الشخص الوحيد الذي يتحتم عليه الإنصاف كان هو ذلك الشخص الذي سيخرج وسيوجه الشكر إلى الشرطة وأصدر لها تعليماته بالتعامل “بمنتهى الحزم والقوة” مع أي عنف أو اعتداء على الأمن، و فرض حظر التجوال في مدن القنال.
قال اللواء احمد وصفي “قائد الجيش الميداني الثاني سابقـًا” أثناء شهادته في القضية وردًا عن سؤال الدفاع حول انتهاك حرمات الموتى، فرد وصفي “حد يقولى من انتهك، وأنا حضرت إحدى الجنازات”، “وأنا لم أعرف من الذى أطلق النيران”. وردًا على سؤال عضو بهيئة الدفاع، حول إطلاق قنابل غاز على جنازات المتوفين أثناء تشييع الجنازة وسقوط قنابل داخل التوابيت، قال وصفى: “أنا لا أعرف، ومش معنى إن فى قنابل غاز يبقى شرطة، وقنابل الغاز تأمين عن النفس”.
وأضاف في شهادته: “أنا من أكثر ضباط القوات المسلحة التى تعاملت مع رجال الشرطة والداخلية، ولم أجد أي خروج منهم عن أخلاق ضباط الجيش”، على الرغم من اعتراف اللواء “محمد إبراهيم” واللواء “سامي سيدهم” و التسجيلات المصورة من استعمال الرصاص الحي في مواجهة المتظاهرين عشوائيًا. ما أكده شهادة أحد كبار مسؤولي الأمن في بورسعيد لإحدى المنظمات الحقوقية على أن “لم يُقتل أحد ممن أطلقوا النيران على الشرطة. ونحن الآن نقبض عليهم بناءً على ما التقطته كاميرات المراقبة”!.
وهو ما يختلف عن تقرير المنظمات الحقوقية حيث جاء في بيانها حول تلك الحادثة أن أطلقت الشرطة الغاز المسيل للدموع في 27 يناير/كانون الثاني على موكب جنازة كانت تشيع بعض ضحايا أحداث اليوم السابق، بعد أن قذف المشيعون بوابات نادي الشرطة بالحجارة، رغم أن أربعة شهود قالوا لإحدى المنظمات إنه لم يكن هناك استخدام للقوة ضد الشرطة ولا وقع عليها تهديد ظاهر. أدى إطلاق الغاز المسيل للدموع إلى فرار المشيعين، واحتاج 419 شخصًا على الأقل إلى علاج بالمستشفى من متاعب تنفسية جراء التعرض للغاز المسيل للدموع.
حقيقة غائبة
قد يبدو هناك تضارب في شهادات بعض المسؤولين، حيث وصف “محمد إبراهيم” أن الوقائع التي شهدتها بورسعيد تعود إلى وجود حالة من الغضب بسبب الحكم الصادر في قضية الاستاد واندساس عناصر خطرة من “بحيرة المنزلة” ومسجلين خطر من بورسعيد بين الغاضبين من أهالي بورسعيد والألتراس كان هدفهم تهريب المساجين. وأكد أن الوزارة توصلت إلى معلومات عن اندساس عناصر خطرة من منطقة “بحيرة المنزلة”، ومسجلين ببورسعيد وسط أهالي المحافظة، والألتراس الغاضبين من الحكم على أبنائهم في قضية الاستاد. مشيرًا إلى أن تلك العناصر كانت تقوم بتوزيع مبالغ مالية لإحداث الفوضى وتهريب المساجين، وصلت إلى 300 دولار لإحداث الفوضى وتهريب المساجين!
اختلفت شهادة اللواء “أحمد وصفي” فقال إن هناك دوريات كانت تجوب مناطق كثيرة بمدينة بورسعيد، ولم يتم إطلاق نيران على المدرعات أو الدبابات، ولم يتم إطلاق نيران من قبل رجال الجيش فى الهواء خشية إصابة الأهالى، لعدم إحداث فتنة، خاصة أن قرار المنطقة الحرة أثار أهالى بورسعيد، وعند سؤال القاضي عن معرفته بوجود أشخاص مجهولين يمولون عناصر التخريب، فرد الشاهد “معلوماتي لا تعرف ذلك، ولكن سمعت، وطلب من القائد العام للقوات المسلحة “عبد الفتاح السيسي” وقتها التأمين الجوي، واستجاب لذلك. “لا أعرف إن كانت الطائرات التي كانت تأمن الجو قامت بالتصوير أم لا” هذا ما قاله وصفي حين سئل عن دور الطائرات وهل قامت بتصوير الأحداث!
حقائق وأكاذيب
توحي الأدلة بأن الشرطة لم تطلق النار في الضرورة القصوى فقط مثل ما جاء في البيانات الصادرة من الوزارة و شهادات المسؤولين، وأنها في بعض الحالات أطلقت النار على أشخاص من الواضح أنهم لا يحملون سلاحًا، وبدت وكأنها تطلق النار على نحو يتعمد الإيذاء.
فقال ثلاثة شهود للمنظمات الحقوقية إنهم شاهدوا الشرطة تطلق النار على رجل أعزل في مقعد متحرك كثيرًا ما كان يحضر المظاهرات ومباريات الكرة في بورسعيد. يمكن رؤية الرجل في أحد مقاطع الفيديو بشارع محمد علي، على بعد 100 متر على الأقل من السجن. هناك صوت طلقات نارية، ثم يصاب الرجل المقعد. قال ثلاثة شهود على الأقل إنه كان أعزلاً.
قال يحيى إن الشرطة أطلقت النار أيضًا على الأشخاص الذين تركوا الاحتماء بالمباني القريبة لمساعدة الرجل الجريح: “كان كل من يحاول المرور يصاب بالنيران. رأيت الرجل في المقعد المتحرك يصاب ويسقط، وأطلقت النار على الأشخاص الثلاثة أو الأربعة الذين حاولوا حمله بدورهم، فأصيب أحدهم في ساقه، وساعدت في حمله بعيدًا”.
“الدكتور عبد الرحمن فرح” مدير المستشفيات بمديرية الشؤون الصحية في بورسعيد قال لبعض المنظمات الحقوقية، إن الأغلبية الساحقة من القتلى قتلوا بطلقات حية. وأصيب معظمهم في النصف الأعلى من الجسم، 11 منهم في منطقة الرأس والعنق، فيما أصيب اثنان بطلقات في الرأس من الخلف، قال طبيب شرعي قام بإجراء بعض عمليات التشريح إنه بخلاف رجل واحد توفي بنوبة قلبية نجمت عن التعرض المفرط للغاز المسيل للدموع، فإن الآخرين جميعًا أصيبوا بطلقات من عيار 7،62 ملم التي تستخدمها الشرطة، إلا أنها أيضًا متاحة على نطاق واسع في السوق السوداء.
خلص الطبيب الشرعي إلى أن معظم قتلى يوم 26 يناير/كانون الثاني أصيبوا من مبعدة ومن أعلى، بما يدل على احتمال إصابتهم من قبل رجال الشرطة الذين تمركزوا فوق سطح السجن وأطلقوا النار على الحشود بعد أن بدأ الهجوم على السجن.
كل البيانات والشهود والدلائل كانت تؤكد بأن هناك استخدام مفرط من جانب الشرطة للرصاص الحي دون أن يكون هناك داعي، وهو ما أكده الشهود وتصريحات بعض المسؤولين، كل تلك الوقائع لم يحرك في النظام ساكنًا فلم تبحث عن الجاني الحقيقي، واكتفت بإلقاء القبض عشوائيًا.
القصاص الغائب
منذ مجزرة استاد بورسعيد وقد اتفق الطرفان ( مشجعو الأهلي ومشجعو المصري) على أن الداخلية هي من دبرت الحادث، مع العلم بأن معظم القتلى كانوا جراء الدهس والاختناق بسبب التزاحم، وقد وجه الاتهام إلى 34 من مسؤولي الداخلية في القضية، خرج 33 منهم براء ولم يحاكم سوى مدير الأمن 15 عام بسبب للتقاعس.
ووفقـًا لما قاله اللواء محمد إبراهيم في شهادته فقد نفى في البداية استعمال الرصاص الحي مشيرًا إلى أن أسلحة القوات اختلفت بين “عصي وغاز المسيل للدموع” وأنه أكد للقوات على “ضبط النفس”، وعلي الرغم من اعترافه في شهادته بأن يمكن أن يكون هناك استعمال للرصاص الحي تجاه التظاهرات في إطار القانون، وهو ما يجعل مسؤولي الداخلية طرفًا في المجزرة، بالتأكيد لم يتم الإشارة إلى تلك الوقائع والاستماع للشهادات التي تثبت اشتراك الشرطة في المذبحة، شهادة محمد إبراهيم تشير بأنه كان على علم بأن الأجواء مشتعلة وأنه – على حد وصف – كان يعرف بأن هناك بعض المندسين وسط المتظاهرين ويعرف المبالغ بالتحديد التي أخذوها، فلماذا لم يتم توجيه الاتهام له وللمسؤولين عن التأمين وقت وقوع الأحداث للتقاعس وعدم احتواء الغضب وتجفيف منابع الفتنة من البداية؟
وإن كانت الطائرات العسكرية المسؤولة عن تأمين الجو تصور، فأين تلك التسجيلات ولماذا تم إخفاؤها؟!
وحتي الآن المئات من الضحايا والمئات من المتهمين لا تعرف أين الحقيقة، يتم إخفاؤها أحيانًا، والاحتيال عليها بالقوانين في أحيان أخرى، والقاتل يبقى طليقـًا والعدل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست