المعرفة هي الأصل الأهم في عالم الأعمال المعاصر، والصراع الحالي بين كبريات الشركات بل والدول هو صراع معرفي في المقام الأول.
في علم إدارة المعرفة، المعرفة هي كل ما يدركه الإنسان من تفاعله مع بيئته ومجتمعه، ويحصله في صورة ذكريات وأفكار وخبرات ومعلومات وتجارب ناجحة أو فاشلة ومهارات وأخلاق وقيم ومشاعر، إلخ، بصورة واعية أو غير واعية، وتظهر في أفعاله وردود أفعاله في المواقف الحياتية المختلفة.
كلها أنواع من المعارف تدخل في تكوين فكرة الإنسان عن العالم، وتحكم طريقة تصرفه، وكلها تسمى معرفة.
فلا فرق بين المعارف الحقيقية أو الزائفة، الذاتية أو المكتسبة عن طريق غيرنا، التي نستطيع التدليل عليها أو لا نستطيع.
وبالمثل المعرفة التي تملكها المؤسسة هي استجابة المؤسسة للتغيرات التي تحدث في بيئتها في صورة إجراءات وممارسات وخطط وعلاقات ومهارات تستخدمها للتفاعل مع المواقف المختلفة في سبيل تحقيق أهدافها.
المعرفة داخل المؤسسة
ليتم الاستفادة من المعرفة في أي مؤسسة لابد أولًا من تحديد مفهومها الخاص للمعرفة. وما يحدث في المؤسسات المصرية والعربية هو أن الكثير لا يزال يعيش في عصر المعلوماتية، أو لم يدخلها بعد. ولازلنا نقرأ عن مؤسسات عامة وخاصة تسعى لدخول عالم المعلوماتية، في حين أن العالم من حولنا يجاهد للخروج من المعلوماتية إلى المعرفية. وتأخذ المعلوماتية دائمًا شكل الاهتمام بإدارة البيانات والوثائق والمستندات والوثائق، وما يتعلق بها من تكنولوجيا لإدارة المعلومات، وكل هذا لا يمثل سوى شريحة ضيقة جدًّا من الأفق الواسع للمعرفة التي يمكن أن تملكها المؤسسة وتستفيد منها في تنمية عملها، إن أحسنت إدارتها.
ويرجع قصور المعلوماتية لأن جزءًا كبيرًا من المعرفة التي تملكها المؤسسة ليست في صورة معلومات، ولا يتم تخزينها في قواعد بيانات ومستندات، فهناك جزء كبير من المعرفة يسكن في عقول العاملين على هيئة معارف ضمنية ( خبرات – تجارب – ذكريات – قيم – سلوكيات – علاقات). ولا تمثل المعلومات المخزنة في الوثائق المطبوعة أو المسجلة في وسائط إليكترونية سوى جزءًا من إجمالي المعرفة التي ينبغي على المؤسسة أن تهتم بإدارته.
تصنيفات المعرفة
المدخل السهل للتعامل مع أي ظاهرة غنية ومتعددة المكونات مثل المعرفة يتم عبر التصنيف والترتيب، ويمكن تصنيف المعرفة حسب معايير كثيرة، تحقق كل منها هدفا محددًا، من أشهرها التصنيف الوجودي، أي حسب الشكل الذي تتواجد به المعرفة في المؤسسة، وترجع أهمية هذا التصنيف لأنه يرتبط مباشرة بأسلوب إدارة المعرفة.
فأصناف المعرفة تتغير متطلباتها الإدارية بتغير شكل وجودها، والمؤسسة التي اعتادت أن تحصر اهتمامها في المعلومات لن تصلح أساليبها التقليدية في التعامل مع أنواع المعرفة الأخرى، ولذلك يتم فقدها بسهولة، أو تخرج مسرعة من الباب.
تصنيف المعرفة وجوديًّا
وهو معيار واضح وبسيط، ويساعد التصنيف على أساسه من يصمم نظامًا للإدارة، أو من يقوم بالبحث عن المعرفة، أو يصمم وينفذ عمليات للمراجعة والتفتيش auditing.
ويشتهر أسلوب التصنيف الذي نستخدمه في هذا المقال باسم “عجلة المعرفة” The wheel of kwledge، حيث يُعرض في شكل عجلة سداسية توضح العلاقة بين الأصناف المختلفة للمعرفة.
1- البيانات والمستندات Documents and Data
وهو أبسط أنواع المعرفة، أو المعلومات الصريحة التي تم اكتسابها وصياغتها في إحدى نماذج التعبير مثل: النصوص، أو الصور، أو الخرائط، أوالجداول، أو الصوتيات والمرئيات، أو في صيغة رقمية، وتأخذ داخل المؤسسات أشكالا مثل: التقارير، وقواعد البيانات، والإجراءات، وأدلة العمل، وصفحات الإنترنت، وأدلة الصفحات البيضاء والصفراء، وغيرها.
وترجع بساطة هذا الصنف المعرفي لأنه يأخذ صورًا مادية يمكن لمسها، ويؤدي هذا النوع من المعرفة دورًا مهما في حفظ ونقل المعرفة من زمن لزمن ومكان لمكان، فبدون حفظ نسخة من المعرفة خارج رأس العارف، كانت عمليات التراكم المعرفي التي تميز البشر أصعب كثيرا.
وتتمثل مشكلة إدارة هذا النوع من المعرفة في المؤسسات المصرية والعربية إحدى النقيضين: إما إهمال عملية التوثيق والتسجيل في الغالبية العظمى من المؤسسات، أو في المبالغة في أهمية التوثيق، والاكتفاء به كنوع وحيد من إدارة المعرفة داخل المؤسسة.
2- المهارات Skills
المهارة هي القدرة على أداء عمل ما بكفاءة، سواء كان مهارة ذهنية أو جسمانية، ويكتسب هذا النوع من المعرفة بالتدريب والممارسة، وهي إحدى صور المعارف الضمنية، أي التي يصعب حفظها أو نقلها عبر وسائط ومستندات خارجية مثل الورق أو السيديهات.
وتختلف المهارة عن الخبرة، في أن المهارة يمكن اكتسابها ورفعها بالتدريب، في حين أن الخبرة تنمو عبر الزمن. والمهارة أوضح وأسهل تحديدا، ويمكن تنمية المهارات في المؤسسة باستخدام التدريب والتعليم المستمر، والممارسة المستمرة للمهارات المطلوبة.
3- الأساليب Methods
أسلوب العمل يقصد به مجموعة الإجراءات المنظمة التي يُعتاد أداء العمل بها بطريقة رتيبة، ونسميها العادات والروتين، ويمكن تسجيل وتداول جزء من الأساليب الإجرائية في شكل مستندات، مثل أدلة العمل والإرشادات المهنية والقواعد التنظيمية، والتي يسجّل فيها في العادة أفضل الممارسات التي سبق اختبارها، وثبت نجاحها في أداء العمل بكفاءة وتقلل الأخطاء .
وهذا الجزء المسجل ليس المقصود باسم “الأساليب” ، لأنه تحول بالفعل إلى الصنف الأول وهو “المستندات” ، ولكن المقصود هو الجانب الأكبر غير المسجل من الأساليب التي نؤدي بها عملنا، ونمارس بها مهامنا اليومية، وتختلف من مهنة لمهنة، وتميز المؤسسات عن بعضها.
ويمكن ملاحظة وجود الأساليب غير الموثقة عند مجيء موظف جديد للمؤسسة، فنجد فارقا بين طريقة أداءه وسلوكه عما هو معمول به هنا، وتعمل المؤسسات الناجحة على توثيق ما تراه أساسيا من أساليبها، وأيضا على تسهيل تعلم ما لم يسجل منها، لتقليل فترة الاندماج التي يحتاجها من ينضم إليها.
4- العلاقات Relationships
المعرفة ظاهرة اجتماعية، ومن مواصفاتها أن كل فرد منا ليس قادرا على امتلاك كل المعارف التي يحتاجها، بل يعرف كل فرد منا جانبا بسيطا، و يكتفي – في الباقي – بمعرفة من يعرف أداء الأشياء التي لا نعرف أداءها.
وهذا النوع من صور المعارف الضمنية ، قد نسجل جانبا منها في صورة مستندات، مثل أدلة الهاتف، وقوائم الاستشاريين والمقاولين، لكل هذا الجزء المستندي لايضمن لنا أن يقوم هؤلاء بالعمل الذي نريده، فلابد من وجود نوع آخر من المعرفة هو “العلاقات” التي تجعل هؤلاء الأشخاص يتعاونون معنا.
وتظهر العلاقات في صور شبكات من العلاقات مع العملاء، و الموردين، والاستشاريين، والخبراء، والمسئولين الحكوميين، والمنافسين، وكذلك في صورة علاقات مع الزملاء في نفس القسم أو الأقسام الأخرى داخل المؤسسة.
والمؤسسة الناجحة تعمل باستمرار على تعميق هذا النوع من المعرفة وتنميته.
5- الخبرة Experience
الخبرة هي القدرة على تمييز الأنماط والتوجهات trends والمواقف، والتصرف طبقا لهذا التمييز. وتنمو الخبرة عبر الملاحظة والتعرض المستمر للمواقف المتنوعة مع وجود المؤهلات الذاتية لاكتسابها، وتعطي صاحبها القدرة على الحكم واتخاذ القرارات بكفاءة أفضل.
والخبرة صورة من صور المعارف الضمنية التي يصعب نقلها وتداولها، وتختلف الخبرة عن المهارة في أن المهارة يمكن صنعها أو ثقلها بالتدريب، في حين لا يمكن ذلك في حالة الخبرة. وتظهر الخبرة أكثر في أنها ترشدك لعدم فعل الأشياء أكثر من ظهورها في الأفعال، وهو ما نسميه الطرق المختصرة لفعل الأشياء، أو تجنب المواقف الصعبة.
تكتسب الخبرة عبر تكرار الممارسة أو الملاحظة، ولذلك فهي وثيقة الصلة بالمعارف الإجرائية، والخبرة تزيد من قدرة الشخص على فك وإعادة تركيب المعارف بصورة أكثر تنظيما، لذا يستطيع الشخص الخبير فهم المواقف الجديدة أسرع وأدق من المبتديء، واتخاذ القرارات الأصح، والشخص الخبير يملك القدرة أكبر على الاحاطة بكليات الصورة وربط عناصرها، فالسائق الخبير يمكنه تقييم موقف القيادة بسرعة واتخاذ القرار المناسب، في حين ينشغل السائق المبتديء بتفاصيل ما يحدث، ويفشل في امتلاك صورة كلية عن الموقف والتصرف الأمثل.
الخبرة يصعب التعبير عنها، وبالتالي تبادلها ونقلها، وهي معرفة موقفية ذاتية أي لا يمكن ترجمتها إلى معرفة عامة تنطبق في كل المواقف، ويصعب فصلها عن ذات الخبير وانحيازاته الشخصية، ورغم هذا القصور إلا أن الخبرة مفيدة جدا في حل المواقف المشابهة، وفي فك وتركيب المواقف الجديدة.
الخبرة نوع صعب البناء من المعرفة، فيصعب جدا إسراع عملية اكتساب الخبرة، لأن الزمن مركب أساسي بها، لذا يمثل نقلها للأجيال الجديدة أهمية خاصة في المؤسسات، وإلا فقدتها دون رجعة، وهذا الفقدان مشهور في المؤسسات المصرية والعربية.
6- الموهبة Natural Talent
الموهبة الطبيعية هي هبة فطرية تأتي مع حاملها، وتعطيه ميزة نسبية في أداء أنواع محددة من المهارات مثل: التصميم المعماري، والتأليف الموسيقي، والتعامل مع الألوان.
والموهبة لا يمكن صنعها، ولا نقلها ولا تبادلها، لكن يمكن تنميتها وثقلها وتوجيهها، والموهبة من صور المعرفة التي يصعب إداراتها، وعادة فعدد الأعمال التي تعتمد على المهارات الفطرية قليل.
هذا المقال يعبر عن رأي كاتبه ولا يعبر بالضرورة عن ساسة بوست